07 نوفمبر 2024
الحوريّة العثمانيّة
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
فكرتُ في ربط حجر على بطني. حلّيت مشكلة الجوع بالصمون الفائض الذي يعلقه الترك على أسوار الحيطان، تكريما للخبز. ثمة جوع آخر، هو المجاعة العاطفية. يقول المثل: "أعزب دهرا ولا ترمل شهرا"، مرّت علي سبع أشهر عجاف، وأنا "طاوٍ ثلاثٍ عاصب القلب مرمل"، كما يقول الحطيئة في قصيدته الرائعة الآسرة. كان فؤادي، بغرفه الأربع، خاوياً يغرد في فلوات الوحشة المترامية الأطراف.
أتلصص، مضطرب الطرف، مخصوف الجوى، على الترك، وهم يصطحبون نساءهم في سهرات عائلية. تذكّرت المثل الكردي الشتوي: "ليس أطيب من ثلاث؛ أكل البرغلات ونكاح التركيات والنوم في الفروات".
نوري يُحضر كل أسبوع قطعتين تركيتين، فأخلي له الشقة من أجل الخلوة غير الشرعية، فأنا مثل السبع، إذا شممت رائحة ذكر آخر على جسد أنثى وردَ زئيري الفرات والنيلا. في أحد الأيام، وقفت في طابور المشترين أمام نضد البيع في سوبر ماركت "البيم"، وبيدي العدد الأول من مجلة "أوراق" السورية. دعتني هيئة تحريرها إلى لمّ الشمل ففعلت. هيئة التحرير منبثقة عن رابطة الكتاب السوريين في المنفى، وهم متطوعون أفاضل، كرام، أرسلوا إلي زكيبة من الأعداد، حتى أوزعها على المعارف.
عندما وصلت نضد الشراء، وكنت الأخير في الطابور، هتفت الصبية التركية الحسناء: "كيتاب"، ومدت يدها إلى "أوراق" المكتوبة باللغة "العثمانية". ناولتها الكتاب، فتلقفته بخشوع وكأنه كتاب مقدس! مسدّته براحة يدها، وأصابعها الشفافة الرقيقة الناعمة التي يمكن قراءة الأحرف من تحتها، وكأنها ماء نهر عذب، ابتسمت لي ابتسامة من ضوء.
قلت بتركية طفل: هذه مجلة، وأنا محرّر فيها، ولي قصة فيها، وفتحت الكتاب، فرفرف النور بأجنحة صفحاته وحطّ على قصتي.
أشرق ثغرها عن سداة وجهها المنضد بعناية وردةٍ في تويجات الحجاب التركي الأبيض، أشارت إلي متسائلة، وقالت: كاتب؟ هززت رأسي سعيداً، بأكبر مكافأة في حياتي على فروسية القلم، وقلت لها: هذا الكتاب هدية لك يا مولاتي.
فشهقت وضمت الكتاب إلى صدرها!
ترادف ورائي المشترون، فدفعت ثمن علبة السكر وخرجت. التفتُ، فردّت علي بابتسامة عريقة، غادرتُ، وكأني أتخلى عن الأندلس، مثل عبد الله الصغير.
فيما بعد، استدنت بعض النقود من جاري، خوجا إسماعيل، من أجل قِمار الحب. أذهب إلى السوبر ماركت، وأطلب مساعدة الحسناء التي أطلقت عليها اسم "فتاة عثمان"، فتبحث لي عن سمسم الغياب وجوز الهند والسند وعصير "الميوى" وحليب العصفور والمن والسلوى والجبن الذي تحوّل، من الشوق والحنين على نار الشوق، إلى خيوط واهية. أجتهدُ في اختراع بضائع لم ينزل الله بها من سلطان، فتهبُّ صبية الكاوبوي، لمساعدتي باسمةً، مهرعة في بنطلون الجينز، تتدلى على طرفي خصرها، أسلحة وذخائر تعالج بها البضائع. هكذا نلعب يومياً أغرب لعبة "غميضة"، ونضيع في غابة الأمتعة، وتحتار كيف ترضي الطفل الكبير الضائع. يسألني الزملاء المحررون، في اجتماع الخميس، عن مصائر نسخ مجلة "أوراق"، فأطمئنهم عليها، إنها في "أيد أمينة"، فيسعدون، لأنّ خبز جهدهم الفكري يصل إلى القلوب الجائعة للثقافة.
أعود إلى العشة في أعلى السطح، رابطاً حجراً على قلبي، وحيداً مع مجلة "أوراق" الثكلى، أراقب العائلات التركية بحسرة، وهي ذاهبة إلى السهر، أو آيبة من السمر. أعشق المطر، واعتبر نفسي خائناً إذا تركته هاطلا من غير وصايتي. كل مطر لا أشهده مهدور وخاسر. وأتخيّل نفسي مع فتاة عثمان على السطح، وأقول لها، ويدي على كتفها: أحضرت لك هدية فتشهق وتقول: كيتااااااب!
تنظر بفضول ظامئ، فأقول لها بتركية طفل: هذا المطر كله لك، يا مولاة فؤادي.
- ليس على وجه الأرض أغلى من هذه الهدية!
وترمي بنفسها شهيدة من شاهق جبال الشوق في؛ بحيرة قلبي ... العميقة.
أتلصص، مضطرب الطرف، مخصوف الجوى، على الترك، وهم يصطحبون نساءهم في سهرات عائلية. تذكّرت المثل الكردي الشتوي: "ليس أطيب من ثلاث؛ أكل البرغلات ونكاح التركيات والنوم في الفروات".
نوري يُحضر كل أسبوع قطعتين تركيتين، فأخلي له الشقة من أجل الخلوة غير الشرعية، فأنا مثل السبع، إذا شممت رائحة ذكر آخر على جسد أنثى وردَ زئيري الفرات والنيلا. في أحد الأيام، وقفت في طابور المشترين أمام نضد البيع في سوبر ماركت "البيم"، وبيدي العدد الأول من مجلة "أوراق" السورية. دعتني هيئة تحريرها إلى لمّ الشمل ففعلت. هيئة التحرير منبثقة عن رابطة الكتاب السوريين في المنفى، وهم متطوعون أفاضل، كرام، أرسلوا إلي زكيبة من الأعداد، حتى أوزعها على المعارف.
عندما وصلت نضد الشراء، وكنت الأخير في الطابور، هتفت الصبية التركية الحسناء: "كيتاب"، ومدت يدها إلى "أوراق" المكتوبة باللغة "العثمانية". ناولتها الكتاب، فتلقفته بخشوع وكأنه كتاب مقدس! مسدّته براحة يدها، وأصابعها الشفافة الرقيقة الناعمة التي يمكن قراءة الأحرف من تحتها، وكأنها ماء نهر عذب، ابتسمت لي ابتسامة من ضوء.
قلت بتركية طفل: هذه مجلة، وأنا محرّر فيها، ولي قصة فيها، وفتحت الكتاب، فرفرف النور بأجنحة صفحاته وحطّ على قصتي.
أشرق ثغرها عن سداة وجهها المنضد بعناية وردةٍ في تويجات الحجاب التركي الأبيض، أشارت إلي متسائلة، وقالت: كاتب؟ هززت رأسي سعيداً، بأكبر مكافأة في حياتي على فروسية القلم، وقلت لها: هذا الكتاب هدية لك يا مولاتي.
فشهقت وضمت الكتاب إلى صدرها!
ترادف ورائي المشترون، فدفعت ثمن علبة السكر وخرجت. التفتُ، فردّت علي بابتسامة عريقة، غادرتُ، وكأني أتخلى عن الأندلس، مثل عبد الله الصغير.
فيما بعد، استدنت بعض النقود من جاري، خوجا إسماعيل، من أجل قِمار الحب. أذهب إلى السوبر ماركت، وأطلب مساعدة الحسناء التي أطلقت عليها اسم "فتاة عثمان"، فتبحث لي عن سمسم الغياب وجوز الهند والسند وعصير "الميوى" وحليب العصفور والمن والسلوى والجبن الذي تحوّل، من الشوق والحنين على نار الشوق، إلى خيوط واهية. أجتهدُ في اختراع بضائع لم ينزل الله بها من سلطان، فتهبُّ صبية الكاوبوي، لمساعدتي باسمةً، مهرعة في بنطلون الجينز، تتدلى على طرفي خصرها، أسلحة وذخائر تعالج بها البضائع. هكذا نلعب يومياً أغرب لعبة "غميضة"، ونضيع في غابة الأمتعة، وتحتار كيف ترضي الطفل الكبير الضائع. يسألني الزملاء المحررون، في اجتماع الخميس، عن مصائر نسخ مجلة "أوراق"، فأطمئنهم عليها، إنها في "أيد أمينة"، فيسعدون، لأنّ خبز جهدهم الفكري يصل إلى القلوب الجائعة للثقافة.
أعود إلى العشة في أعلى السطح، رابطاً حجراً على قلبي، وحيداً مع مجلة "أوراق" الثكلى، أراقب العائلات التركية بحسرة، وهي ذاهبة إلى السهر، أو آيبة من السمر. أعشق المطر، واعتبر نفسي خائناً إذا تركته هاطلا من غير وصايتي. كل مطر لا أشهده مهدور وخاسر. وأتخيّل نفسي مع فتاة عثمان على السطح، وأقول لها، ويدي على كتفها: أحضرت لك هدية فتشهق وتقول: كيتااااااب!
تنظر بفضول ظامئ، فأقول لها بتركية طفل: هذا المطر كله لك، يا مولاة فؤادي.
- ليس على وجه الأرض أغلى من هذه الهدية!
وترمي بنفسها شهيدة من شاهق جبال الشوق في؛ بحيرة قلبي ... العميقة.
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر
مقالات أخرى
24 أكتوبر 2024
10 أكتوبر 2024
26 سبتمبر 2024