سؤال جزائري: البترول نعمة أم نقمة؟
البترول نعمة أم نقمة؟ كان هذا عنوان "ملتقى الفكر الإسلامي" في عام 1974 في مدينة ورقلة، عاصمة النفط الجزائرية. وتناول المشاركون فيه، بحسب الوثائق، أثر النفط على تطور الأمة الإسلامية، وتنميتها، ودوره السياسي عقب حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وما تلاها من أزمة نفطية عالمية. ولعلّ السؤال نفسه يُطرح من جديد في الجزائر، بعد أزمة تردي أسعار النفط العالمية، وانحسار الأرباح في هذا القطاع، حيث فَقَدَ احتياطي النقد الأجنبي نحو ثمانية مليارات دولار في ثلاثة أشهر، بحسب تصريحات رسمية، ليصل إلى حوالي 185 مليار دولار في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي. ولكن السؤال الأهم هو لماذا ترتعد فرائص الحكم في الجزائر، عندما يعلن منحنى أسعار النفط عن هبوطه؟ يبدو السؤال ساذجاً للغاية، فمن البديهي أن تتخوف السلطات من تراجع مداخيلها المالية، لأنها ستواجه بذلك أزمة سيولة وتنمية.
السؤال الأكبر هو: ماذا فعلت هذه السلطات لتجنب مثل هذه الأوضاع؟ أو بالأصح ما البدائل الممكنة للجزائر في حال نضوب النفط والغاز؟ أوَلم يكن النفط معطلاً، كابحاً للتنمية الحقيقية، مثل الزراعة والصناعة، بلجوء نظام الحكم إلى الاتكاء، عقوداً طويلة، على الريع البترولي وحده في تمويل المشاريع التنموية المختلفة؟ ألم يؤدِ هذا إلى انكفاء الزراعة الجزائرية عن نفسها، بل وتراجعها الشديد؟ خصوصاً بعد التآكل الحاد الذي عرفته الأراضي الزراعية، بفعل زحف البناء على جل الأراضي الخصبة في شمال البلاد، وما سَهْلُ متيجة، قرب العاصمة الجزائر، إلا مثال للوضع المتردي الذي آلت إليه الزراعة في الجزائر، حيث يعاني مَن بقي من المزارعين من ندرة فائقة في اليد العاملة الفلاحية، بسبب عدة عوامل، منها فشل السياسات الزراعية المتعاقبة في الجزائر منذ الاستقلال، بدءاً بالتسيير الذاتي للأراضي الزراعية، مروراً بالثورة الزراعية التي خطّها الرئيس الراحل، هواري بومدين، والتي أصابت الفلاحة في مقتل، من خلال نزع ملكية الأراضي من أصحابها، وتسييرها تسييراً تعاونياً اشتراكياً، وانتهاءً بنظام الهيكلة الزراعية واستيلاء بارونات المال على الأراضي الخصبة. أدت هذه السياسات المتعاقبة بالأيدي العاملة إلى هجرة الأراضي الزراعية، والاكتفاء بما تجود به عليهم خزينة الدولة من معونات، في إطار تشغيل الشباب، أو كما سماها أحدهم سياسة "إشغال الشباب".
أما عن الصناعة، فحدّث ولا حرج، فكل المصانع التي أسسها القطاع العام في السبعينيات، تم حرقها وتدميرها بحجة الإرهاب، أو بيعها للخواص من ذوي الحظوة لدى أصحاب الحل والعقد من أهل النظام، فتراجعت الصناعة الجزائرية إلى درجة التجمّد، ولم تعد تنتج شيئاً مذكوراً. ويحاول قطاع السياحة، هو أيضاً، لملمة جراحه التي تسببت فيها أحداث سنوات التسعينيات، والتي هجر فيها السائح الأجنبي الجزائر، ولم يعد يعرف المواطن العربي قبل الأجنبي عن الجزائر إلا النزر القليل، وفي أكثر الأحيان مجرد أخبار لا تسر الأخ ولا الغريب، حتى أن أحد الإخوة العرب ذهب به الوصف بأن شبه الجزائر بكوريا الشمالية.
بعد هذا كله، نعيد طرح السؤال الأول: هل النفط نعمة أم نقمة؟ يطول الجدل بشأن هذا الموضوع، ثمة مَن يدافع عن النفط وسيلة منحتها الطبيعة للبلدان العربية، بقصد تحقيق التنمية الحقيقية، بشرط استعمالها على الوجه الصحيح، في إحداث قيمة مضافة في الصناعة، وفي تجديد الزراعة والثروات الطبيعية وتنمية الإنسان ضامناً حقيقياً للتطور. وثمة من يرفضون هذا الطرح، إذ يعتبرون أن النفط كان في الجزائر نقمة وليس نعمة، حيث فقدت البلاد الزراعة والإنسان عاملين أساسيين لإحداث تنمية حقيقية. بل تذهب احتجاجات يقودها سكان مدن عين صالح وتمنراست وتيميمون، في الجنوب الجزائري، ضد مشروع استغلال الغاز الصخري في الجزائر، إلى أكثر من ذلك، باعتبار ما تقوم به السلطات العمومية الحالية ناتج عن غياب استراتيجية عمل وسياسة تضمن التحول الاقتصادي، وتقلل من الاعتماد على المحروقات. بل ونددت هذه الاحتجاجات بما وصفته "الاستغلال الجامح للموارد الطبيعية، وتبذير الثروات على حساب الأجيال القادمة، الأمر الذي يولّد الفقر وانعدام الأمن". ونظّم سكان عين صالح تظاهرة نسائية خالصة، للتنديد باستغلال الغاز الصخري، شاركت فيها نحو ألف امرأة، جُبْنَ شوارع المدينة، مرددات شعارات تعتبر عملية استخراج الغاز الصخري تكراراً لتجربة رڤان النووية التي قامت بها فرنسا الاستعمارية سنة 1960.
وإذا كان سكان الجنوب يدفعون بحجة أن استخراج الغاز الصخري يؤدي إلى تدمير بيئة المنطقة، ومخزونها المائي الضخم الذي يمكن استغلاله في ري الأراضي الزراعية، وتزويد السكان بمياه الشرب، وهو ما تدعمه دراسات وخبراء كثيرون، إلا أن للحكومة رأي آخر، يتمثل في إصرارها على مواصلة مشاريع استغلال الغاز الصخري، وحجتها في ذلك تنويع مصادر دخلها المالي، وديمومة إنتاج النفط في الجزائر، بعد تراجع إنتاج الجزائر النفطي، وتقلّص الاستكشافات التقليدية لآبار البترول.
ولا تثمر وسائل الحكومة لإقناع سكان الجنوب، والشعب الجزائري عامة، بضرورة استخراج الغاز الصخري إلا تذمراً متواصلاً، وبدا الأمر سوريالياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ففي إحدى نشرات الأخبار الرئيسية في التلفزيون الحكومي، استضاف المذيع مدير شركة "سوناطراك" النفطية، وسأله عن الأمر، وعن كيفية تهدئة نفوس المحتجين في الصحراء الجزائرية، ليرد المدير، الذي وكأني به يظهر لأول مرة في حياته أمام كاميرا تلفزيون، مرتبكا متلعثماً، وخاطب الشعب الجزائري بالفرنسية، ليعيد المذيع السؤال نفسه، ولسان حاله يستجدي سيادة المدير أن يتحدث باللغة التي يفهمها كل الجزائريين، لعل رسالته تصل إلى البسطاء في أقاصي الصحراء. ولكن المدير يصر، مرة أخرى ومرات، على الرطن بلغة فولتير، فرسالته يريد منها أن تصل إلى مسؤوليه وإلى زبانية النظام في العاصمة، ولا يهمه أن تصل إلى بقية الشعب، ليكتفي المذيع، في آخر اللقاء، بكلمة "شكراً رسالتك وصلت".