المثقف الذي لا يدري
"لا أدري..". بهذه العبارة المباشرة، أجابني المفكر السعودي، تركي الحمد، عندما سألته في لقاء جمعني معه قبل أسبوع، عن الحل، قبل أن يردف؛ "نحن في مأزق وجودي، وليس فقط حضارياً، فلا نحن قادرون على مناظرة الماضي، ولا التثبت في الحاضر، ولا التعرف إلى المستقبل. وحين نرى الشريط المصور الذي بثته داعش، ويظهر توزيع "السبايا" على أفرادها، نشعر أن هذه أمة منتهية".
أما المشكلة التي سألت الحمد عن حلها، فهي مشكلة الأمة كلها تجاه ما يحدث لها في الداخل وفي الخارج، على أيدي أبنائها، وعلى الأيدي الغريبة، حتى أصبحت، للأسف، أمة بلا حول ولا قوة، وكل ما تفعله مجرد ردود فعل متأخرة كثيراً عن الفعل نفسه.
من البشاعة، فعلاً، أن نتابع مشهداً تلفزيونياً واقعياً، تبدو فيه "داعش" وهي تمارس دوراً منبثقاً من بطن التاريخ، يعيدنا إلى الوراء عصوراً سحيقة، لنواجه واقعاً عربياً ودينياً حقيقياً، لكنها مواجهة عاجزة، تكتفي بالاشمئزاز من المشهد الحاضر بقوة، وتغض النظر عن مشاهد ربما أشد قسوة منه، لكنها غير مصورة، ولم يتباهَ بها أصحابها. فإذا كانت داعش تفصل الرؤوس عن الأجساد، وتعلّق الجثث على الأعمدة الكهربائية، وتوزع النساء سبايا، فإن أنظمة سياسية حاكمة أخرى تفعل ما هو أشد وأقسى من ذلك كله. ولكن، من دون تصوير تلفزيوني، وبهرجة إعلامية. فماذا نحن فاعلون غير الاستمرار في الفرجة المجانية، والشعور بالاشمئزاز؟ وماذا على المثقفين أن يفعلوا أيضاً؟
ليس تركي الحمد وحده الذي لا يعرف الحل، بل المثقفون العرب كلهم، كما يبدو، يشاركونه الحيرة تجاه ما يحدث للأمة. ويظهر ذلك جلياً في كتاباتهم ومقابلاتهم ومقالاتهم، حتى لو لم يصرحوا به، بشكل مباشر وبوضوح شديد، كما فعل المثقف السعودي الذي وصف المثقف العربي، في لقائي معه، عموماً بأنه ضائع!
لكن، ألا نقسو كثيراً على ذلك المثقف، عندما نطالبه بالحل وعدم الضياع، وسط هذه الغابة المتشابكة الأغصان، والتي تعيش فيها الأمة؟
ما الذي يستطيع أن يفعله المثقف غير التفكير وتقديم الحلول النظرية لمن يطلبها منه، ولمن يمكنه الاستعانة بها، ولمن يمكنه التغيير فعلاً، ما دام هذا المثقف، بشكل فردي أو جمعي، ليس قادراً على إحداث التغيير الفعلي؟
حسناً، حتى هذا الدور الخجول لا يمكنه، كما يبدو، القيام به إلا على جثته أحياناً! ولهذا، فأغلب مثقفينا العرب الأحرار انتهى الأمر بهم مهاجرين أو منزوين أو صامتين... وربما مجانين.
أما من أراد البقاء منهم، والصمود في وطنه، وممارسة دوره المنوط به تاريخياً وأخلاقياً بشجاعة ووضوح وصوت عال، فسرعان ما ينتهي به الأمر، وقد وجد نفسه بين خيارين، أحلاهما مر؛ خيار الاستسلام لمغريات السلطة في بلاده والسكوت عنها، وأحياناً كثيرة، تزيين مساوئها، والانتصار لها ضد الشعب، وخيار الصمود على ما هو عليه، وما يؤمن به، والانتصار للمبادئ، وسيكون مصيره غالباً إما قتيلا، بطرق مختلفة، أو مسجوناً، وأحياناً بلا محاكمة، أو ملاحقاً في لقمة عيشه، ومضيّقاً عليه، وعلى أسرته.
فماذا يفعل هذا المثقف بالضبط؟ وماذا يختار؟ وكيف يستمر؟ وكيف يدافع عن نفسه تجاه اتهاماتنا له، ولومنا الدائم، وانتقاداتنا شديدة القسوة؟
ولنفترض أنه واجه كل هذا وفعل. وكتب. وقال.. فهل نجد من يستمع إليه، ومن يؤمن بما يقوله؟ هل سنسانده؟ هل سنثق به؟ هل سننتظر قليلاً، لنفهم على الأقل ما يقول؟ أم أننا، كالعادة، نختلف فيه ومعه حول ما يقول، ونسارع إلى الهجوم عليه. هذا إن لم نكفره، باعتبار أن التكفير أسهل الطرق العربية في محاربة المثقف؟
بدوري، سأقول أيضاً: "لا أدري".