فيتنام .. قدرة الخروج من الماضي
ترفض الصورة التي انطبعت في أذهاننا حول فيتنام، فيتنام الحرب في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، الخروج من هذه الأذهان، على الرغم من خروج البلاد نفسها من تلك الحرب التي توقفت منذ أربعين عاماً، عندما دخلت قوات فيتنام الشمالية سايغون في 30 إبريل/نيسان 1975، معلنة توحيد البلاد وكف يد الغرب عنها. كذلك، على الرغم من نفضها غبارها واستبدالها ببدلة الكاكي بدلة السموكن التي ظهرت فيها على العالم بهيئة مختلفة، هيئة التاجر الجنتلمان الذي دخل أسواق الغرب بسرعة الواثق من بضاعته، المفاوض، ليس على تدفيع الغرب ثمن حربه، بل على حصة في أسواقه. ولا تنطبع تلك الصورة في أذهاننا، نحن العرب، الذين لا نتخيل أن حياةً أخرى، يمكن أن تنشأ خارج الحرب التي عشنا، منذ ولادتنا، هاجس وقوعها مع العدو الإسرائيلي في أي لحظة، وعايشنا واقعها، هذه الأيام، في حروب الأخوة، بل ما زالت ماثلة في أذهان شعوب أخرى كثيرة. في فيتنام أشياء يعيشها الفيتناميون ويفكرون بها ويتذكرونها غير الحرب، خرج شعب تلك البلاد من نفق الحرب وآثارها، ولم يعد كما كان يجب على شعب في بلد شيوعي، من المفترض أنه مغلق على نفسه، معزول ومحاصر من غيره، خرج على شكل نمر آسيوي جديد.
لا شك أن ما عزز بقاء تلك النظرة في أذهاننا ما قامت به الولايات المتحدة بعد انتهاء حربها على فيتنام من محاولات لمحو ذكرى تلك الحرب وهزائمها التي ابتليت بها، منذ الأيام الأولى لشنها في أغسطس/آب 1964، حين تدخلت قواتها عبر هجمات جوية ضد فيتنام الشمالية، استمرت حتى أوائل مارس/آذار من العام التالي، عندما أنزل الأميركيون طلائع قواتهم التي ظلت تتزايد مع احتدام المعارك، حتى وصل عديدها في صيف سنة 1968 إلى ما يقارب 550 ألف جندي، غرقوا في وحول البلاد، وخرجوا منها مهزومين في مارس/آذار سنة 1973، بعدما ارتكبوا مجازر كثيرة، ودمروا المدن، وأحرقوا الحقول والغابات، وحطموا مستقبل أجيال عديدة من أبناء الشعب الفيتنامي.
ظلت لعنة هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام تلاحق الأميركيين، وظلت الإدارة الأميركية تبحث عن سبل لمحو ذكرى تلك الهزيمة، والتخلص من عقدتها التي استمرت تلاحق الأميركيين، وتقض مضاجعهم، فلم تجد ضالتها للتخلص من تلك العقدة سوى باختراع البطل الأميركي الفرد الذي تبدى في سلسلة أفلام "رامبو" الذي يحقق انتصارات على الجيش الفيتنامي، عجز عنها جيش بلاده، وقوبلت بسخرية الجمهور والنقاد حينها. وبالاعتداء على الدول الأخرى، حيث خاضت حروباً ضد الشعوب الضعيفة في أميركا اللاتينية وآسيا والوطن العربي، لتحقيق ذلك. وليس أبلغ من عبارة الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش الأب، للدلالة على مدى تعمق تلك العقدة وتأثيرها على الأميركيين، حين قال، بعد تحرير الكويت على يد التحالف الذي قادته واشنطن سنة 1991: "قضينا على عقدة فيتنام، وتخلصنا منها، مرة واحدة وإلى الأبد".
في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تبحث فيه عن سبل للتخلص من تلك العقدة، كانت فيتنام تخط، بصمت، طريقها للتخلص من إرث تلك الحرب، وتعالج جراحها، لتصل إلى مرحلة جديدة في تاريخ البلاد سنة 1986، حين قرر الحزب الشيوعي الفيتنامي الحاكم إجراء إصلاحات اقتصادية جذرية، تحدث قطعاً مع الماضي، وتؤسس مرحلة جديدة من الاقتصاد التعددي المنفتح على العالم، وتَقرَّر إجراء إصلاحات في بنية الدولة وتعزيز القانون. وهي إصلاحات كانت ثمرة انتهاج الحكومة الفيتنامية، يومها، سياسة الدوي موي (Doi Moi)، أي سياسة التجديد والإصلاح المطلقة. وهذه العملية التي لم تتوقف منذ ذلك الحين، سرعان ما ظهرت نتائجها مع انفتاح البلاد على التجارة الخارجية، ما سمح لها بدخول أسواق، كانت محرمة، مسلحة بإنتاج ذي قدرة تنافسية، قوامه الجودة والأسعار المنافسة، فانعكس معدلات نمو مرتفعة. وساعدت التغييرات التشريعية التي اتخذتها الحكومة وحيوية الشعب الفيتنامي والثقافات السائدة في المجتمع، وأهمها ثقافة العمل وقيم الانضباط والمثابرة في التعليم والتحصيل العلمي على جذب الاستثمارات الأجنبية، وخصوصاً الآسيوية منها. حيث بلغ إجمالي تلك الاستثمارات عام 2008 وحده 63 مليار دولار، علاوة على التركيز على السياحة الذي جعل البلاد إحدى الوجهات المفضلة لكثيرين.
وعلى الرغم من الثمن الذي دفعته فيتنام خلال الحرب التي شنت عليها، وأسفرت عن ملايين القتلى والجرحى واللاجئين، علاوة على تدمير البنية التحتية للبلاد، وتفشي الفقر بين السكان، إلا أن الحكومة استطاعت انتشال نسبة تقدر بثلثي السكان من فقرهم. فتضاءلت نسبة الفقراء من 70% سنة 1980 إلى 14.7% سنة 2007 بين مجموع عدد السكان المقدر بـ 80 مليون نسمة، ما جعل الوكالات العالمية للتنمية تدرس تجربة فيتنام في هذا المجال، بفضل النتائج الفائقة للعادة التي حققتها في مكافحة الفقر. كما استثمرت فيتنام في الموارد البشرية، فجرى التركيز، أواخر سبعينيات القرن الماضي، على التعليم الجامعي، فأرسل الطلاب إلى الدراسة في الجامعات الغربية، في الوقت الذي جرى فيه تطوير الجامعات المحلية، ما أثمر، منذ عدة سنوات، تصنيف سبع جامعات فيتنامية من أفضل مائة جامعة في جنوب شرق آسيا.
انعكس الإصلاح الاقتصادي في فيتنام فورة في الإنتاج الصناعي والزراعي، مكّن سلعها ذات الجودة العالية من غزو الأسواق الآسيوية والأوروبية والأميركية. وينشط تصدير السلع الصناعية والغذائية والأجهزة الكهربائية والإلكترونيات التي شهدت نمواً كبيراً، مدخلة مليارات الدولارات إلى البلاد. واستحوذت السوق الأميركية سنة 2009 وحدها على 57% من الصادرات الفيتنامية من القطاعات المذكورة.
بقاء نظرتنا حول فيتنام، البلد المحارب المبتلي بشيوعيته والمعزول عن العالم، دليل على قصر نظرنا ونظر كثير من شعوب العالم تجاه ما يخطه شعب هذه البلاد من تطور وتقدم، نعجز عن تحقيقه نحن، فنغفله، محاولين نكران أن آخرين يحققونه.