04 يناير 2022
شعارات الفتن
لقد خرّبت الفتنةُ التجربةَ الإسلاميّة قديماً، وأَوْغَرَت الصدورَ، وكَلَمَتْ وجدان المسلمين كلوماً ما فَتِئت تُنْكَأ. وأَضَرُّ ما فيها أنّها أصبحت مثالاً عليه يُنحت التاريخ، فلذلك تُدَّخر العداوة، وتُلقَّن الأجيال أنّ فتن الماضي ليست حدثاً تاريخيّاً انقضى، وإنّما هي تجربة حيّةٌ تُعاش وجدانيّاً، وتُؤسّس دينيّاً بعقائد التكفير واللعن والبراءة، وتُتَرجَم في اللطميّات والأشعار والأناشيد الطائفيّة، فتظلّ النفوسُ متحفِّزةً للفَتْك بالمخالف وسفْك دمه ونهب ماله. وتُرفع اليوم شعارات طائفيّة تهيّج الأتباعَ، وتؤجّج الفتنةَ، وتسُدّ على الأوطان المحترقة طرقَ النجاة.
فشعار "لبّيك يا زعيم" يرفع الزعيمَ إلى مقام المقدّس الذي يَأمر فيُطاع، ويدعو فيُجاب، ويَقْرع طبول الحرب، فيتهافت الأتباعُ على الموت، ويُحَاط بحصانة دينيّة، فلا يُنتَقَد، ولا يُخطَّأ، ولا يُكذَّب، ولا يُرَدّ عليه، وهو بشر يخطئ ويصيب، ويحرّكه الهوى، ويستفزّه الثأر، ويتنازعه الحقّ والباطل. ويحبسُ هذا الشعارُ المُلَبِّي في سجن التبعيّة، ويسلبه إرادته واختياره، ويزيّن له الانقياد لزعيمه بلا تفكير. وإنّما خُلق الإنسانُ ليكون حرّاً في اختياره، مستقلا في تفكيره واعتقاده. ومن تخلّى عن عقله، وتنازل عن رأيه، وفرّط في شخصيّته، تقاذفه الطامحون، وتلاعب به أصحابُ الأهواء.
وشعارُ "لبّيك يا حسين" يقذف بالمجتمع في فتن القرن الأوّل من الهجرة، ويقضي أنّ نصف الناس اليوم من قَتَلَة الحسين، ويُلْقِي على طائفة واحدة واجبَ الثأر له، فتتنكّرُ لوطنيّتها، وتختصر وجودها في قتل طائفة أخرى، ولا يشفع للمغلوبين حبُّهم للحسين، وصلاتُهم عليه، وبراءتُهم من قتلته، وانتماؤُهم إلى الوطن. فتَتَفكّك المصاهراتُ التي جمعت بين السنّة والشيعة عقوداً طويلة. وتنحَلُّ الصداقات التي آخت بينهم، فأحبّ بعضهم بعضاً، واشتركوا في الطعام واللباس، واصْطَحبوا في الإقامة والسفر. ويَنْفَكّ الجوار الذي قارب بينهم في القرية والمدينة. وتتعطّل الزمالة التي جمعتهم في العمل. وتُرْفَع الرحمة التي ألّفت بينهم في المرض والمحنـة. وتُبَدِّد الطائفة طاقتها في سبيل شعار غير تاريخيّ، هو الثأر للحسين، وتخدع أتباعها بتأويل أيديولوجيّ هو "كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء"، وتنهمك في إثارة الفتنة واستثمار الحقد.
وشعارُ "الخلافة الإسلاميّة" يدمّر الأوطانَ، ويهدم الهويّةَ، ويقوّض الانتماءَ، ويزيل الحدودَ، ويعطّل القانونَ، ويسوق الناس إلى غايةٍ مُبْهمةٍ هي الخلافة الجامعة، وكيانٍ افتراضيٍّ هو الدولة الإسلاميّة، وتشريعٍ مختلَفٍ فيه هو الشريعة، ويَبْسط الأمنَ بالرعب والتخويف، ويفْرِض السلمَ بالحرب والقتال، ويحْمل الناسَ على الخضوع والإذعان بالقهر والإكراه.
هذه الشعاراتُ الطائفيّة تجعل الإنسان سيفاً مسلولاً على وطنه، فيتنكّر لصداقاته وعلاقاته، ويَضِيقُ معنى الأمّة عنده، فلا يتّسع إلاّ لفرقتِه، وينْضمُّ في عينيه الوجودُ فلا يستوعب غيرَ طائفتِه. وينقضُّ على ما بُنِي بالصبر والألم في دولة الاستقلال فيهْدِمه، فيسبي النساءَ، ويُؤْوي من يشاء منهنّ مُلْكَ يمينٍ، ويبيع من يشاء. وتصبح المرأةُ من طائفته بضاعةً تُقدَّم في "زواج الفصليّة" لكفّ الأذى، وتبدّدُ حقوقُ الإنسان، فيضطرّ إلى إخفاءِ هويّته، وتبديلِ اسمه، وينهار التعليم، وتختنق الحريّةُ، وتصبح الديمقراطيّةُ خيانة وكفراً، وتصير أموالُ الناس وأرزاقُهم غنائمَ حربٍ تُنْهب بالفتوى الشرعيّة، وتُسْلب بِعَيْن الجيش الوطنيّ، وتُبَاع في أسواق الغنائم. فيَغْنَم البائع مالاً من غير مشقّة، ويَغْنَم الشاري بضاعة رخيصة.
كانت الطائفيّةُ هويّةً كامنةً قبل الفتنة، ثمّ صارت مصدر أمنٍ في بداية الاحتلال الأميركيّ، وغَدَت اليوم نظامَ حياةٍ ومصدرَ أمنٍ وحمايةٍ ورزقٍ. وما بَنَت الفتنةُ جداراً في ناحيةٍ إلاّ هَدَمت بيوتاً في أخرى، ولا أطعمت فَماً طائفيّاً إلاّ جوّعت نساء وأطفالاً مظلومين، ولا آمَنَتْ فريقاً متغلّبا إلاّ أفْزعتْ شعباً وأمّة. فأمنُها كاذب، ورزقها سُحْتٌ مقطوع، والمُقْتَتلون فيها كالحَبِّ في الطاحونة، كُلُّهُمْ مَطْحُونٌ، ولا ينفع مُسلَّحاً سلاحُهُ، ولا تابعاً إمامُهُ، ولا عميلاً حليفُهُ.
وقد مضت على هذه الحالِ أعوامٌ، وملأت أهوالُها السمعَ والبصرَ، ورأى الطائفيُّ القتلَ والتعذيبَ والاغتصابَ، وهَالَهُ مصارعُ أتباعه، وربّما تحدّث عن الوطنيّة والأخوّة والأمّة والوحدة، ثمّ انتكس في حديثه، فثقافتُه الطائفيّةُ لا تُسْعفه على اقتراحِ حلٍّ يَحقن الدم، واجتراحِ رأيٍ يُطفئ الفتنة. والطائفيُّ لا يكون إلاّ موْتُوراً مغروراً مخدوعاً: يَتِرُهُ اعتقادُه أنّ المخالفَ عدوٌّ مبينٌ والمسالمَ عدوٌّ متربّصٌ، فلا تهدأ في نفسه الرغبةُ في قتله والتنكيل به. ويغرُّه اعتقادُه أنّه على الحقّ الصريح، وأنّ أحسنَ أعماله التقرّبُ إلى الله بدم المخالفين. ويخْدعه انتصارُه على وطنِه وأهلِه، وتهييجُ حلفائِه الأجانب. فيحذّر من إيقاظ الفتنة وهو يؤجّجها، ويخوّف من إثارتها وهو يهيّجها، ويهدّد خصومه بأنّه قادرٌ على جمع عشرات الآلاف من المقاتلين الموتورين بكلمتين يقولهما، ويقترح أن يصبح الناسُ حشوداً شعبيّة تنغمسُ في الدم. هكذا تكون شعاراتُ الفتنة وسياستُها وحلولُ عقولِها الاستراتيجيّة. وَالذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً.
وشعارُ "لبّيك يا حسين" يقذف بالمجتمع في فتن القرن الأوّل من الهجرة، ويقضي أنّ نصف الناس اليوم من قَتَلَة الحسين، ويُلْقِي على طائفة واحدة واجبَ الثأر له، فتتنكّرُ لوطنيّتها، وتختصر وجودها في قتل طائفة أخرى، ولا يشفع للمغلوبين حبُّهم للحسين، وصلاتُهم عليه، وبراءتُهم من قتلته، وانتماؤُهم إلى الوطن. فتَتَفكّك المصاهراتُ التي جمعت بين السنّة والشيعة عقوداً طويلة. وتنحَلُّ الصداقات التي آخت بينهم، فأحبّ بعضهم بعضاً، واشتركوا في الطعام واللباس، واصْطَحبوا في الإقامة والسفر. ويَنْفَكّ الجوار الذي قارب بينهم في القرية والمدينة. وتتعطّل الزمالة التي جمعتهم في العمل. وتُرْفَع الرحمة التي ألّفت بينهم في المرض والمحنـة. وتُبَدِّد الطائفة طاقتها في سبيل شعار غير تاريخيّ، هو الثأر للحسين، وتخدع أتباعها بتأويل أيديولوجيّ هو "كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء"، وتنهمك في إثارة الفتنة واستثمار الحقد.
وشعارُ "الخلافة الإسلاميّة" يدمّر الأوطانَ، ويهدم الهويّةَ، ويقوّض الانتماءَ، ويزيل الحدودَ، ويعطّل القانونَ، ويسوق الناس إلى غايةٍ مُبْهمةٍ هي الخلافة الجامعة، وكيانٍ افتراضيٍّ هو الدولة الإسلاميّة، وتشريعٍ مختلَفٍ فيه هو الشريعة، ويَبْسط الأمنَ بالرعب والتخويف، ويفْرِض السلمَ بالحرب والقتال، ويحْمل الناسَ على الخضوع والإذعان بالقهر والإكراه.
هذه الشعاراتُ الطائفيّة تجعل الإنسان سيفاً مسلولاً على وطنه، فيتنكّر لصداقاته وعلاقاته، ويَضِيقُ معنى الأمّة عنده، فلا يتّسع إلاّ لفرقتِه، وينْضمُّ في عينيه الوجودُ فلا يستوعب غيرَ طائفتِه. وينقضُّ على ما بُنِي بالصبر والألم في دولة الاستقلال فيهْدِمه، فيسبي النساءَ، ويُؤْوي من يشاء منهنّ مُلْكَ يمينٍ، ويبيع من يشاء. وتصبح المرأةُ من طائفته بضاعةً تُقدَّم في "زواج الفصليّة" لكفّ الأذى، وتبدّدُ حقوقُ الإنسان، فيضطرّ إلى إخفاءِ هويّته، وتبديلِ اسمه، وينهار التعليم، وتختنق الحريّةُ، وتصبح الديمقراطيّةُ خيانة وكفراً، وتصير أموالُ الناس وأرزاقُهم غنائمَ حربٍ تُنْهب بالفتوى الشرعيّة، وتُسْلب بِعَيْن الجيش الوطنيّ، وتُبَاع في أسواق الغنائم. فيَغْنَم البائع مالاً من غير مشقّة، ويَغْنَم الشاري بضاعة رخيصة.
كانت الطائفيّةُ هويّةً كامنةً قبل الفتنة، ثمّ صارت مصدر أمنٍ في بداية الاحتلال الأميركيّ، وغَدَت اليوم نظامَ حياةٍ ومصدرَ أمنٍ وحمايةٍ ورزقٍ. وما بَنَت الفتنةُ جداراً في ناحيةٍ إلاّ هَدَمت بيوتاً في أخرى، ولا أطعمت فَماً طائفيّاً إلاّ جوّعت نساء وأطفالاً مظلومين، ولا آمَنَتْ فريقاً متغلّبا إلاّ أفْزعتْ شعباً وأمّة. فأمنُها كاذب، ورزقها سُحْتٌ مقطوع، والمُقْتَتلون فيها كالحَبِّ في الطاحونة، كُلُّهُمْ مَطْحُونٌ، ولا ينفع مُسلَّحاً سلاحُهُ، ولا تابعاً إمامُهُ، ولا عميلاً حليفُهُ.
وقد مضت على هذه الحالِ أعوامٌ، وملأت أهوالُها السمعَ والبصرَ، ورأى الطائفيُّ القتلَ والتعذيبَ والاغتصابَ، وهَالَهُ مصارعُ أتباعه، وربّما تحدّث عن الوطنيّة والأخوّة والأمّة والوحدة، ثمّ انتكس في حديثه، فثقافتُه الطائفيّةُ لا تُسْعفه على اقتراحِ حلٍّ يَحقن الدم، واجتراحِ رأيٍ يُطفئ الفتنة. والطائفيُّ لا يكون إلاّ موْتُوراً مغروراً مخدوعاً: يَتِرُهُ اعتقادُه أنّ المخالفَ عدوٌّ مبينٌ والمسالمَ عدوٌّ متربّصٌ، فلا تهدأ في نفسه الرغبةُ في قتله والتنكيل به. ويغرُّه اعتقادُه أنّه على الحقّ الصريح، وأنّ أحسنَ أعماله التقرّبُ إلى الله بدم المخالفين. ويخْدعه انتصارُه على وطنِه وأهلِه، وتهييجُ حلفائِه الأجانب. فيحذّر من إيقاظ الفتنة وهو يؤجّجها، ويخوّف من إثارتها وهو يهيّجها، ويهدّد خصومه بأنّه قادرٌ على جمع عشرات الآلاف من المقاتلين الموتورين بكلمتين يقولهما، ويقترح أن يصبح الناسُ حشوداً شعبيّة تنغمسُ في الدم. هكذا تكون شعاراتُ الفتنة وسياستُها وحلولُ عقولِها الاستراتيجيّة. وَالذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً.