25 اغسطس 2024
إيّاك أن تنتقده
في سنة 2012، وبُعَيْدَ تأسيس رابطة الكتاب السوريين، اضْطُرَّتْ زميلتُنا الأديبة (سين)، المُقيمة في باريس، إلى الانسحاب من المكتب التنفيذي للرابطة؛ نتيجة ما حصل لوالدتها في سورية.. فتلك السيدةُ العجوز، وبينما هي مستلقية على سريرها في بيتها بالقرية؛ إذ دخل قطيعٌ من الشبيحة إلى صحن الدار، وراحوا يكسرون ما يقع في طريقهم، ويسبون، ويُجَدِّفُون،.. فلما خرجتْ إليهم؛ بخطىً واهنة، وسألتْهم؛ بصوت مرتجف: خير إن شاء الله يا ابني؟ لماذا كل هذا الغضب؟ أجابها أحدُهم، وهو الأكثر شبهاً من حيث الحَجم والقوة بالبغل الشَّمُوس: قولي لبنتك الداشرة سين أن تترك الشغلة التي دخلت فيها حالاً!
قالت: أيّ شغلة، يا عين خالتك؟ والله، أنا لا أعرف.
قال: وأنا، مثلك، لا أعرف. ولكن، جاءتنا تقارير تفيد بأنها، خلال وجودها في بلاد بَرَّا، انتسبت لمنظمة تعمل ضد السيد الرئيس. .. وعلى الفور، اتصلت العجوز بابنتها، وأخبرتها بما حصل، فاضطرت للانسحاب من الرابطة خوفاً عليها.
كان نظام حافظ الأسد (ووريثه)، وما يزالُ، عَلمانياً، دنيوياً، فاسقاً، لا يُحَلِّل ولا يُحَرِّم، بدليل أن معظمَ تصرفاته تخالفُ القاعدة الإسلامية العظيمة التي تُلخصُها الآيةُ الكريمة: لا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى. ونحن السوريين، في الحقيقة، لسنا بحاجة إلى أمثلة كثيرة، لإثبات أن النظام يُحَمِّل بعضَ الناس وزرَ تصرفات بعضهم الآخر، لأننا عشنا ذلك الواقع، واكتوينا بناره أكثر من أربعين سنة. فالرجل السوري المُعارض سياسة الأسد، الذي يُقال إنه (مَضروب بالتقرير الأمني)؛ عليه إبعاد تفكيره عن استلام أية وظيفة في الدولة السورية، وإذا كان يشتغل في الأعمال الحرة فليركز على القطاع الخاص، إذ يُحَظَّرُ عليه التعامل مع جهات القطاع العام، والقطاع المشترك، والقطاع التعاوني.. أما بالنسبة للذين يحملون الاسمَ العائلي الخاص بالشخص المعارض، فهؤلاء يُصَنَّفون في دوائر، أخطرُها دائرةُ القرابة الأسروية، إذ يُمْنَعُ ابنُ، (أو بنتُ أو زوجةُ) المتقدم لوظيفة في القطاع العام من الحصول عليها، لأن شُرْشَ المعارضة، برأيهم، يَستقي، وعِرْقَ المعارضة دَسَّاس.. والأقرباء الأبعد قليلاً يجري التحفظ عليهم، لكن بعضهم قد ينجو، أو ينفذ بريشه، كما يقولون في الدارج، وتصبح له وظيفة تستمر حتى يتبرع أحد (العواينية) فيكتب بحقه تقريراً، ووقتها، يجري تسريحه، وكأنه لم يكن هنالك قط.
لا يقتصر الأمرُ، أيها الأحبَّةُ، على التعيين والتسريح، ففي أيام التمردات والثورات، يسارع النظام السوري إلى شحط كل مَنْ يمتُّ لمعارضيه بصلة قرابة، أو نسب، أو جيرة، من بيته إلى المعتقلات، وهنالك يوضع مع احتمالات الموت وجهاً لوجه.. وإذا تزايد الخطرُ على وجود عصابة النظام، لا يعودُ الحديثُ عن دوائر القرابة ممكناً. ففي سنة 1982، أبيدت، في مدينة حماه، الحاراتُ التي تَمَتْرَسَ فيها أفرادُ حزب الطليعة الإسلامي، بمَنْ فيها مِنْ رجال ونساء وأطفال. وخلال الثورة السورية، بدأ النظام يذبح الموجودين ضمن المناطق السكنية التي يَشْتَمُّ منها رائحةَ معارضة. وعلى نحو متأخر جداً، أهدى الشيخُ العلامةُ المفتي الدكتور أحمد حسون لمجرمي النظام فتوى رسميةً تنصُّ على امتلاكهم الحق، بل إن عليهم واجباً؛ يقضي بتهديم أية حارة سورية تخرج منها رصاصة، ولو كانت في مدينته حلب، فوق رؤوس ساكنيها.
أتذكرُ هذه التفاصيلَ، وغيرَها، وأنا أصغي إلى رواية صديقي (نون) المقيم في تورنتو بكندا، عن والده الذي اعتقلته جبهة النصرة في قرية تقع إلى الغرب من إدلب، وأجبروه على الاتصال بابنه، عبر الفايبر، ليقول له:
- دخيلك يا ابني.
قال نون: خير يا بابا؟ ماذا حصل؟
قال الأبُ: اعتقلوني بمجرد ما بدأتَ أنتَ بانتقاد أمير جبهة النصرة الجولاني على صفحتك. يا
ابني الله يرضَ عليك. توقفْ عن ذلك، فأنا ما عدتُ أطيق التعذيب والإهانات.