04 نوفمبر 2024
الطائفية الجديدة في مصر
عبر "فيسبوك" وصلت إلي طُرفة، عن مصري يفاجئه أذان الفجر وهو يشرب أو يأكل، للوهلة الأولى تملكته الحيرة، هل يبتلع ما في فمه أم ماذا يفعل، وبعد لحظات تفكر وتدبر، تذكّر أنه مسيحي. وفي أخرى، مسيحي مصري يمتنع عن الطعام نهاراً احتراماً للمسلمين، وبقية اليوم يباشر صيام الرسل. ويشكو مازحاً أنه يمارس طقوس المسلمين والمسيحيين معاً، ثم لا يدري بعد ذلك هل سيدخل الجنة أم النار.
رأى قراءٌ في هذه الدعابات اللطيفة تودداً اجتماعياً محموداً. ورآها آخرون دليل وئام ووحدة وطنية. فيما تساءل أحدهم عن مدى مطابقة تلك الإشارات الرمزية واقع المجتمع المصري أو مفارقتها له، وما إذا كانت "الوحدة الوطنية" و"السلام الاجتماعي"، وغيرهما من مفاهيم التماسك المجتمعي، موجودة، أو لها صدى في الواقع المصري الراهن.
بتأمل حال المجتمع المصري، نجده منقسماً على نفسه إلى حد التفسخ، إلا أن الدين ليس محور الانقسام الراهن، وربما لم يكن كذلك يوماً. فحالات الخلاف والأزمات التي ارتدت عباءة الدين كانت استثنائية، وتركّزت أساساً في قضية بناء الكنائس. وهي ليست مؤشر انقسام مجتمعي، بقدر ما تعكس أزمة دولةٍ لا تطبق القانون، ولا تساوي بين مواطنيها، فتظلم هذا لترضي ذاك، أو العكس. إنها سياسة الترقيع التي طالما أنتجت أزمات ومشكلات، ليس التوتر الطائفي (الديني) سوى أحد تجلياتها.
لا يعاني المجتمع المصري الانتماء العُصابي إلى هويات ضيقة، ديناً أو مذهباً أو عرقاً، إلى غير ذلك من مقومات الطائفية التقليدية. فالوحدة الوطنية، بمعناها الكلاسيكي، ليست مهددة، على الأقل حالياً. وليست المشكلة في توحد أصحاب الديانات المختلفة تحت مظلة وطن واحد، بل في ظلم بيّن يمارسه ذلك الوطن بحق مواطنيه، أياً كان دينهم. إنها أزمة وطن يستعبد أبناءه، فيقضي على المواطنة داخلهم. وإن كان هذا الجور العام قد يدفع مكونات المجتمع، في لحظة معينة، إلى التقوقع والارتداد نحو الولاءات الأصلية، واستدعاء الهويات الأولية، ومنها الدين.
ما يفتقده المصريون هو تلك المظلة المعيارية المسماة "المواطنة"، والتي تعني استواء الجميع في الحقوق الواجبات، أياً كانت وظائفهم وأصول عائلاتهم وانتماءاتهم الجهوية وقدراتهم الاقتصادية. أن يصير المواطن مواطناً، بحكم الميلاد أو الإقامة فقط لا أكثر. لكن، في مصر، ليس المواطن "مواطناً" بحق، إلا إذا توفرت له مصادر القوة في ذاته، أو استقواء بمعارفه وعلاقاته. هناك تراتبية طبقية، ينصاع لها الجميع، طوعاً أو كرهاً، فالمواطنون درجات، حسب طبيعة المحصلة النهائية لقوة كل منهم وحدودها، القوة الفعلية لا الرسمية. فالمواطن العادي لا يضارع وكيل النيابة، ومواطنة الأخير تنكمش أمام مواطنة ضابط الشرطة الذي يعاني بدوره من تدنٍّ وظيفي وأدبي أمام نظيره في جهاز أمن الدولة، لكنهما سواء في التعامل بحذر واحترام مع مليونير أو سليل عائلة معروفة.
الانقسام في مصر طبقي، وظيفي، عائلي، جغرافي. وهذا مصدر الخطر الحقيقي على السلام الاجتماعي، حيث الفجوة تزداد بين الطبقات، ويترسخ التمييز المجتمعي بشكل مخيف. فمن لديه قدرة مالية أو نفوذ سياسي أو علاقات واتصالات يحقق لنفسه وأهله ما لا يحلم به آخرون، ويحمي نفسه ومصالحه مما يطاول الآخرين.
وفي ظل الفساد والمحسوبية، لا فرق بين مسلم ومسيحي، ولا بين متعلم وأُمي، أو صعيدي وبورسعيدي. فسواء صام المسيحي مع المسلم احتراماً لمشاعره، أو لم يفعل، سيكون الحصول على وظيفة للأكثر نفوذاً أو قدرة على شرائها. ليس بالضرورة بالمال المباشر، وإنما من خلال شبكة علاقات عميقة رأسياً، أو واسعة أفقياً. طائفية مصر لا تنبع من تنوع هويات أو اختلاف مرجعيات، طائفية طبقية، تجمع فئات وأصولاً وعقائد وقدرات متفاوتة. تمتاز فيها الطبقات عن بعضها بشبكية مصالحها ونفاذية أدواتها. تلك هي الطائفية الجديدة، كما أبدعتها مصر.
بتأمل حال المجتمع المصري، نجده منقسماً على نفسه إلى حد التفسخ، إلا أن الدين ليس محور الانقسام الراهن، وربما لم يكن كذلك يوماً. فحالات الخلاف والأزمات التي ارتدت عباءة الدين كانت استثنائية، وتركّزت أساساً في قضية بناء الكنائس. وهي ليست مؤشر انقسام مجتمعي، بقدر ما تعكس أزمة دولةٍ لا تطبق القانون، ولا تساوي بين مواطنيها، فتظلم هذا لترضي ذاك، أو العكس. إنها سياسة الترقيع التي طالما أنتجت أزمات ومشكلات، ليس التوتر الطائفي (الديني) سوى أحد تجلياتها.
لا يعاني المجتمع المصري الانتماء العُصابي إلى هويات ضيقة، ديناً أو مذهباً أو عرقاً، إلى غير ذلك من مقومات الطائفية التقليدية. فالوحدة الوطنية، بمعناها الكلاسيكي، ليست مهددة، على الأقل حالياً. وليست المشكلة في توحد أصحاب الديانات المختلفة تحت مظلة وطن واحد، بل في ظلم بيّن يمارسه ذلك الوطن بحق مواطنيه، أياً كان دينهم. إنها أزمة وطن يستعبد أبناءه، فيقضي على المواطنة داخلهم. وإن كان هذا الجور العام قد يدفع مكونات المجتمع، في لحظة معينة، إلى التقوقع والارتداد نحو الولاءات الأصلية، واستدعاء الهويات الأولية، ومنها الدين.
ما يفتقده المصريون هو تلك المظلة المعيارية المسماة "المواطنة"، والتي تعني استواء الجميع في الحقوق الواجبات، أياً كانت وظائفهم وأصول عائلاتهم وانتماءاتهم الجهوية وقدراتهم الاقتصادية. أن يصير المواطن مواطناً، بحكم الميلاد أو الإقامة فقط لا أكثر. لكن، في مصر، ليس المواطن "مواطناً" بحق، إلا إذا توفرت له مصادر القوة في ذاته، أو استقواء بمعارفه وعلاقاته. هناك تراتبية طبقية، ينصاع لها الجميع، طوعاً أو كرهاً، فالمواطنون درجات، حسب طبيعة المحصلة النهائية لقوة كل منهم وحدودها، القوة الفعلية لا الرسمية. فالمواطن العادي لا يضارع وكيل النيابة، ومواطنة الأخير تنكمش أمام مواطنة ضابط الشرطة الذي يعاني بدوره من تدنٍّ وظيفي وأدبي أمام نظيره في جهاز أمن الدولة، لكنهما سواء في التعامل بحذر واحترام مع مليونير أو سليل عائلة معروفة.
الانقسام في مصر طبقي، وظيفي، عائلي، جغرافي. وهذا مصدر الخطر الحقيقي على السلام الاجتماعي، حيث الفجوة تزداد بين الطبقات، ويترسخ التمييز المجتمعي بشكل مخيف. فمن لديه قدرة مالية أو نفوذ سياسي أو علاقات واتصالات يحقق لنفسه وأهله ما لا يحلم به آخرون، ويحمي نفسه ومصالحه مما يطاول الآخرين.
وفي ظل الفساد والمحسوبية، لا فرق بين مسلم ومسيحي، ولا بين متعلم وأُمي، أو صعيدي وبورسعيدي. فسواء صام المسيحي مع المسلم احتراماً لمشاعره، أو لم يفعل، سيكون الحصول على وظيفة للأكثر نفوذاً أو قدرة على شرائها. ليس بالضرورة بالمال المباشر، وإنما من خلال شبكة علاقات عميقة رأسياً، أو واسعة أفقياً. طائفية مصر لا تنبع من تنوع هويات أو اختلاف مرجعيات، طائفية طبقية، تجمع فئات وأصولاً وعقائد وقدرات متفاوتة. تمتاز فيها الطبقات عن بعضها بشبكية مصالحها ونفاذية أدواتها. تلك هي الطائفية الجديدة، كما أبدعتها مصر.