شيعة السفارة.. ولِمَ العجب؟
التعجب من طرح حزب الله الجديد، القديم، الذي تناول فيه أخيراً معارضيه من أبناء الطائفة التي ينتمي إليها، وأطلق عليهم تسمية "شيعة السفارة" (الأميركية طبعاً) لا يثير سوى التعجب. فهل يمكن لحزب قائم على أساس مذهبي أن يطرح خطاباً سوى هذا الخطاب؟ هل يمكن لأحدنا توقع خطاب ديمقراطي من حزب قام على أنقاض أحزاب أخرى، أو على أمجادها وتاريخها؟ وهل لنا أن ننسى أن هذا الحزب جيّر حتى الشهداء الذين كان ينعت رفاقهم بالكفرة، لخدمة أجندته وخطابه الإعلامي التمجيدي عبر ادعائه انتماءهم له، هم الذين قضوا حتى قبل تأسيسه، وحتى "قبل أن يكون لله أحزاب"، كما عبر مرة السياسي اللبناني الراحل جورج حاوي؟
مجرد استدعاء بسيط للذاكرة يؤكد أن مجد حزب الله استند على إقصاء الآخرين، وهو الحزب الذي نشأ في فترة كانت الأحزاب اللبنانية (سُمّيت بحكم الفرز المعمول به آنذاك بالوطنية) تعيش في طور القوة التي أهلتها تشكيل جبهة مقاومة لبنانية، لمحاربة الاحتلال الإسرائيلي بعد اجتياحه لبنان، ووصوله إلى بيروت سنة 1982، ضمت أحزاباً يسارية لبنانية وفصائل فلسطينية. وهي الأحزاب نفسها التي كانت، منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، منضوية في إطار المشروع الوطني اللبناني، الطارح صيغة لبنان العربي المتكامل مع محيطه، والمواجه في إطار تحالفه مع الثورة الفلسطينية للمشروع الصهيوني في المنطقة، والتي كانت تحارب المشروع اللبناني الآخر الطارح صيغة لبنان القوي في ضعفه، والمنعزل عن محيطه، والمنكفئ نحو دويلات طوائفه، المتحالفة بالضرورة مع كيان الطائفة الأقدم (إسرائيل). ظهر حزب الله في ذلك الطور، وبدأ كي يبني كيانه بتهديم الكيانات الأخرى، حيث شهد الجنوب اللبناني مخططات إقصاء لأعضاء من الحزب السوري القومي الاجتماعي من سكان الجنوب اللبناني، تكللت بمجزرة نفذها الحزب بحق أعضاء منه كانوا منضوين في إطار جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد إسرائيل، وحتى أعضاء ع
اديين. وتابع مشروعه التطهيري في الجنوب ضد الشيوعيين اللبنانيين، أبناء الطائفة نفسها، وخيّرهم بين العودة إلى أحضان الطائفة أو هجرة قراهم. منفذاً، في ذلك السياق، ممارسات قادت إلى اتهامه وقتها باغتيال كوادر من الحزب الشيوعي من أبناء الطائفة، أشهرها كانت عمليتا اغتيال الكاتبين والمفكرين، حسين مروة ومهدي عامل.
ولم يكتفِ الحزب بذلك، بل اعتمد، حين تنامت قواه، ووهنت قوة الأحزاب اليسارية التي كانت تحارب إسرائيل، على الاستئثار بحق حصري في مقاومة إسرائيل على ما تبقى من أراضٍ لبنانية محتلة، مانعاً الأحزاب الأخرى من الاستمرار بعملها المقاوم. فارضاً على من يود تنفيذ عمليات عسكرية ضد جنود الاحتلال شروطاً، ليس أقلها اطلاعه على مكان تنفيذ العملية والهدف وأسماء الذين سيشاركون فيها وتاريخ التنفيذ، وهي شروط لا يمكن أن يقبلها عاقل، يعتمد السرية في عمله المقاوم. وبهذه الممارسات، كرس حزب الله نفسه مقاوماً وحيداً لإسرائيل، وأسبغ صبغة مذهبية على المقاومة، بعد أن كان أعضاؤها ينحدرون من كل المناطق اللبنانية، وهي حقيقة لا يؤيدها سوى معرفة أن بلدة عرسال القصية في قضاء بعلبك البعيد عن الأحداث، قد قدمت وحدها عشرة شهداء، قضوا في أثناء تنفيذ عمليات عسكرية ضد القوات الإسرائيلية في الجنوب اللبناني، بحكم انتمائهم لكيانهم اللبناني، أولاً، ولجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ثانياً، عدا عن شهداء آخرين كانوا يقاتلون مع المقاومة الفلسطينية.
وليس سراً أن الحزب حاول سرقة تاريخ الآخرين ونسبه لنفسه. فمنذ سنوات، تكللت تلك السياسة بمسلسل "الغالبون" التلفزيوني الذي أنتجته قناة المنار التابعة لحزب الله، وأخرجه السوري باسل الخطيب، وعرض سنة 2011. ولاقى انتقاداً وهجوماً من كثيرين رأوا أنه يشوه تاريخ مقاومتهم الاحتلال الإسرائيلي، وينسب إلى الحزب عمليات عسكرية نفذها ضد إسرائيل، حتى قبل تأسيسه. ومن تلك الانتقادات، مثلاً، أنه حتى حركة أمل، حليفة حزب الله، لم تتورع عن انتقاد المسلسل، بسبب تغييب مشاركتها في معركة خلدة في 13 يونيو/حزيران 1982، وقتل فيها نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، يكوتيئيل آدم، وعدد من العناصر، وخسر فيها العدو عدة آليات ودبابات، وهي معركة شاركت فيها القوى اليسارية بفعالية، إذ كانت في أوج قوتها وعملها المقاوم يومذاك، نسبها المسلسل إلى حزب الله الذي لم تسجل له مشاركة فيها.
اعترض كثيرون من طوائف لبنانية أخرى على تدخل حزب الله اللبناني في الحرب في سورية، لكن الحزب لم يتناولهم بالطريقة التي تناول فيها أبناء الطائفة الشيعية المعارضين تلك السياسة. فالحزب بانتقاده أبناء الطائفة المعارضين، بطريقته تلك، لا يعتبرهم أناساً لهم الحق في معارضة سياساته، بل هم دجاجات خرجت عن السرب المهلل المبارك كل ما يقوم به، وإن اعترضوا على زج أخوتهم في حربٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، لم يعودوا أشخاصاً لهم كيان وشخصية تؤهلهم للمعارضة، أو حتى للإيمان بمذهب الحزب أو عدمه. بل هم شيعة ضالون، لا يمكن أن يكون لديهم عقل يخولهم تبنّي رأي مخالف، إلا إذا دفعهم شخص ما إلى ذلك ودفع لهم. وهؤلاء هم أنفسهم الذين يقول لسان حالهم: كيف لحزبٍ سمح لنفسه بامتلاك الحق بمعارضة سياسة بلاده في النأي بالنفس عن الحرب في سورية أن يمنع حق معارضته من قبل الآخرين؟
من هنا، التعجب من سياسة الإقصاء الجديدة (الناعمة) لا يمكن أن يبطله سوى معرفة سياسة الإقصاء القديمة (الخشنة والقاتلة) التي قابل بها الحزب معارضيه، حتى استتب له الأمر في الاستئثار بقرار الطائفة ومستقبلها والمضي قدماً، إلى حد امتلاكه القدرة والفعل للاستئثار بقرار البلاد ومستقبلها أيضاً.