ميركل أم أدونيس وغوار الطوشة؟
كان على ملايين السوريين الذين يهاجرون ويفرّون من بلدهم أن يبقوا فيه، فلا يغادرونه، إبادتهم فيه تفصيل، المهم أن يستحقوا تسميتهم شعباً ثورياً. هذا ما "علّمنا" إيّاه أدونيس (85 عاماً) قبل أسابيع. قال بوضوح، وازدراء، إن ثلث الشعب هاجر، ولا يوجد شعبٌ في العالم يهاجر، ونستمر في تسميته شعباً ثورياً. كان كلامه هذا قبل مقتل 71 سورياً في شاحنة لحوم دجاج مبرّد في بلدة نمساوية حدودية. وقبل مشاركته في مهرجان شعري في مقدونيا، بينما كانت أصوات آلاف السوريين اللاجئين الهاربين قريبة من أسماعه هناك، يطلبون ملاذاً وحناناً، وحياةً ما، فلم تأذن مقدونيا لهم بشيء من هذا، فارتحلوا إلى بلدانٍ أخرى. لم يكن في محله سؤال كثيرين في وسائل التواصل الاجتماعي عن أدونيس، ما إذا كان في دلوه شيء بشأن مواطنيه أولئك، ميّتين متجمدين في شاحنة العار تلك التي أصابت مسؤولين أوروبيين بخزي، فعبّروا عن شعورهم بحرجٍ ظاهر، وجهروا بتعاطفٍ مع الضحايا، ومع اللاجئين الهاربين إلى بلادهم. ثم أباحت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل (61 عاما)، دخول آلافٍ منهم، بتسهيلات استثنائية، فاستحقت حباَ لها استجدّ في جوانح السوريين.
لم تثر كل هذه القصة شيئاً في دريد لحام (81 عاما)، وشهرته غوار الطوشة، فلم يجهر بكلمةٍ عن جموع اللاجئين المهاجرين السوريين أولئك، وهو الذي كان سفير نيّات حسنةٍ للأمم المتحدة لرعاية الأطفال، وكان قد انتبه، الشتاء الماضي، إلى أن ثمة أطفالاً بردانين في بلده، فأعلن عن بيع سرواله الذي كان غوار الطوشة يرتديه، في مسلسلاتٍ ومسرحياتٍ وأفلام باقية في مباهج عربية سابقة، من أجل شراء ألبسةٍ يتدفأ بها أطفال بردانون. كان الرجل يصدر عن شعورٍ إنساني فيه، فراهنّا، نحن الذين شغفنا بهزلياته غير المنسية في زمن مضى، أنه لن يضنّ على بني جلدته، وهم يلوذون بأيّ قطارات وأيّ بحار وأيّ أسيجةٍ على أيّ حدود، بكلمة حنان طفيفة، غير أنه بادر إلى زيارة موقع للجيش الظالم، ليمحض عساكر فيه حباً، وهم الذين يرتكبون فعالاً سوداء، ثم نُسب إليه كلام عن ولعه ببشار الأسد، لم يكن ثمّة حاجة إلى أن ينفيه، فالمذكور إنْ لم يجد حبّاً من دريد لحام، من سيحبّه؟
ليس أدونيس من طينة غوار الطوشة، إنه بطريْرك الحداثة في الثقافة العربية، وكان الظنّ أن صفته هذه لن تجعله تقليدياً مثلنا، نحن من تسرق صورةٌ شائعة أبصارنا، فننكبّ على الكتابة عنها ندباً، ولعناً في العالم، كما صورة الطفل عيلان (أو أيلان)، السوري الكردي، ميّتاً على شاطئ تركي، لكنه فاجأنا بأنه مثلنا، وإن اختلف عنّا، في أن السوريين، اللاجئين والفارّين والمهاجرين، في ثلاجات الدجاج المجمد والمفازات والمخيمات والبحار والوديان ومحطات القطارات، يحظون بانتباهنا، فندبُّ الصوت عالياً من أجلهم، ونتوسّل العالم عساه يعطف عليهم بالرعاية، ولا نرحم بشار الأسد ونظامه من لعناتنا، وننادي بلجوئه وحده من سورية، فيعود أهلوها الذين غادروها لاجئين. ليس أدونيس، كما نحن التقليديين من أهل هذا الكلام، راح إلى الطفل "المكبوب على وجهه"، كما خاطب عيلان، في نصّ نشره أمس الخميس، آثر هذا الطفلَ وحدَه على ثلث الشعب الذي هاجر ويهاجر، وإنْ كتب له وعنه: تستطيع أن تنضمَّ إلى الأطفال الآخرين الذين سبقوك إلى الموت. لم يستطرد شاعرنا في كلامٍ عمّن قتل عيلان، فليس هذا من شواغله، فهو شاعرٌ مشغول بالتأمل والتفكر، لا بالبحث والتقصّي. وعندما قال ما قال، عن ذلك الثلث من ناس بلده، لم يعتن بهذا الأمر النافل، وآثر هجاء هؤلاء الناس، واستهجان هجرتهم، من دون أن يسمّيهم لاجئين، إيحاءً بأنهم هاجروا لأسباب الهجرة المعتادة، أي إلى ما أمكن من رغد العيش بدل قليلٍ منه في بلدهم. انفعل صديقنا صبحي حديدي، فنعت الشاعر الشهير بأنه ناطقٌ سفيه، ومنحلّ الضمير. لا يمضي مختتم هذه السطور إلى قولٍ كهذا، وإنما يرى أنجيلا ميركل خياراً، بدل أدونيس وزميله غوار الطوشة.