مجنون في مركز الرقة الثقافي
كنا، في وقت مبكر من أعمارنا الأدبية، نهتمُّ بإقامة أمسيات أدبية في المراكز الثقافية في المدن والأرياف السورية. ولم نكن نبالي، إذذاكَ، بالمسافات، فقد كنا في عمر الشباب؛ نمتلك مؤخـرات قويـة تتحمـل المكوث على كراسي الحافـلات ساعات طويلة، وأجساماً لا يهمها البياتُ في أماكن متواضعـة.
كان مديرو المراكز الثقافية الذين تعينهم سلطةُ الحركة التصحيحية يفضلون استضافةَ الأدباء التقليديين الذين يقولون شعراً ونثراً من النوع الذي لا يهشُّ ولا يكشُّ ولا يعضُّ ولا يُخَرْمِشُ، لأن هؤلاء يجنبونهم السين والجيم أمام الأفرع الأمنية؛... ولكن مديري بعض المراكز كانوا يتجرأون على استضافة مجموعتنا الشابة، المحسوبة على تيار الحداثة، وتضم قصاصين عرباً يعشقون التجريب، وشعراءَ أكراداً قادمين من بلدة عامودا التي يكثرُ فيها شعراءُ "قصيدة النثر" إلى حد شيوع دعابة تقول إن كل شابين يمشيان في أزقة عامودا هما ثلاثة شعراء.
وكما يعلم الجميع؛ كان حافظ الأسد يمنع وجود أي نوع من المعارضة السياسية على الأراضي السورية، إلا أننا، نحن أفراد تلك المجموعة الأدبية، كنا مُتَّهَمين بالانتماء إلى المعارضة.. ومعارضتنا غريبة من نوعها، تتلخص في أننا لسنا من أتباع النظام.. وأما جمهور المراكز الثقافية، فلم يكن كله مطلعاً على هذه التفاصيل، بل كان هناك مَنْ يعتقد أن كل مَنْ يدخل المركز الثقافي هو من جند الحركة التصحيحية المجيدة.
دخلنا، مرة، إلى مكتب مدير المركز الثقافي في الرقة، قبيل الموعد المحدد للأمسية، فوجدنا مجموعة رجال، لا نعرفهم، جالسين عند المدير، فما إن رأونا حتى بدأوا يتملقوننا، لاعتقادهم أننا (تصحيحيون). سألنا أحدُهم، من دون مقدمات: هل قرأتم كتاب سيادة العماد مصطفى طلاس (هكذا تكلم الأسد)؟.. فكان سؤاله مدعاة للارتباك وانعقاد الألسن من قِبَلِنا، لكن رجلاً آخر من بينهم ساعدنا مِنْ حيث لا يدري، إذ قال لرفيقه مصححاً، مع ابتسامة الواثق: عفواً، عنوان الكتاب هو: (كذلك) قال الأسد.
ركب الرفيق الأول رأسه، وكان رأسُه، على ما بدا لنا، جزمة قديمة، وأكد أن العنوان هو: هكذا قال الأسد. فاضطر الثاني أن يركب رأسه مدافعاً عن العنوان الثاني، واحتدم الخلاف بينهما، إلى حين ألهمني الله تعالى فكرة التدخل بينهما، لفض الخلاف، فقلت:
إن الرفيق مصطفى طلاس، أبا فراس، أشد ذكاءً وحنكةً من أن يستخدم عنوان فريدريك نيتشه بحذافيره، وللحقيقة والتاريخ، العنوان الصحيح هو: كذلك قال الأسد.
بعد مضي سنين طويلة على الحادثة، وبالتحديد في سنة 2005، دُعيت إلى الرقة لإجراء ندوة حول مؤلفاتي القصصية، ومسلسلاتي التلفزيونية والإذاعية. وبعد الأمسية، دعاني أصدقاء إلى عشاء في مطعم شهير في المدينة. وهناك أمضينا سهرة صاخبة، عامرة بالضحك والمرح. وفي آخر السهرة، حكيتُ لهم حكايتي مع كتاب (كذلك قال الأسد) التي يعود تاريخها إلى ربع قرن مضى، فرد علي أحدهم، وقال إن رجلاً مجنوناً دخل إلى مكتب مدير المركز الثقافي العام الفائت، وسبّب للحاضرين حرجاً كبيراً.
سألته مستفسراً: وكيف يسمح الحراس لمجنون بدخول المركز؟
فقال: هو ليس مجنوناً، بل إنه رجل مثقف وذكي جداً. ولكن، ما حصل يوحي بأنه جنّ في تلك الهنيهة... ذلك أنه دخل مكتب المدير، فلاحظ أن الحاضرين واجمون، مكتئبون، ساكتون وكأن على رؤوسهم الطير. سألهم عن السبب، فقال لهم أحدهم، بصوت واهن، إن الرفيق جميل الأسد قد مات. فخرج الرجل عن طوره، وقال لهم:
مات؟ أي بالناقص منه. وبحفظ كندرتي. ليته لم يمت وحده، يا ليت ابن أخيه بشار الأسد مات معه، ورامي مخلوف، وعبد الحليم خدام، وأحمد حسون، و..
وقبل أن ينتهي من تعداد الذين يتمنى لهم الموت، لاحظَ أنه بقي في المكتب وحده.