02 أكتوبر 2024
"أحرار الشام" وواشنطن .. الثقة المفقودة
لا يختلف مضمون البيان الذي أصدرته حركة أحرار الشام، قبل نحو أسبوعين، حول موقفها من بعض القضايا السورية، عن مضمون ميثاق الشرف الثوري الذي وقعته مع فصائل أخرى، في مايو/أيار 2014. فقد أعلنت الحركة، مرات، عدم ارتباطها بـ "القاعدة"، وأنها حركة ذات أجندة سورية، هدفها تحقيق مطالب الشعب، لكن البيان الجديد الذي جاء بصفة توضيحية كان بمثابة مانفيستو يموضع الحركة ضمن خط معتدل بصراحة، ويقطع الطريق على أي تأويلات عن وجود تباينات داخل الحركة بشأن القضايا الرئيسية، ويبعث رسالة واضحة للولايات المتحدة، أن الحركة ليس لها أي ارتباط بالقاعدة.
ليس البيان عادياً في دلالاته وتوقيته، فقد جاء بعد يومين من إعراب واشنطن عن قلقها من العلاقة التي تربط الحركة بجماعات متشددة، كما جاء في مرحلة صياغة التفاهمات الأميركية ـ التركية ليس لمحاربة "داعش" فحسب، وإنما لعموم الشمال السوري وموقع الفصائل المعتدلة فيها.
ليس هذا الانعطاف السياسي للحركة نابعاً من تغيرات أيديولوجية عقائدية صرفة داخل الحركة فقط، وإنما مرتبط بأسباب أكثر تعقيداً تتعلق بطبيعة العلاقات العسكرية والسياسية للحركة داخل سورية وخارجها.
بعبارة أخرى، يُراد لـ "أحرار الشام" من أطراف إقليمية أن تكون قوة وطنية ذات أجندة سورية مع خلفية إقليمية تقاتل "داعش" والنظام السوري معاً، وتكون نواة لجيش وطني في المدى المتوسط، وقوة عسكرية تناط بها مهام استراتيجية، كالسيطرة على المنطقة العازلة في حال تحرر إقامتها شمال سورية. وقد نجحت الحركة نجاحاً كبيراً، في الفترة الماضية، في تحقيق إنجازات عدة:
تبديل شعار الحركة من الجهاد وتطبيق الشريعة إلى "ثورة شعب". عزل أبو البراء معر شمارين، قائد القوة العسكرية المركزية في الحركة، من منصبه، المحسوب على الجناح المتشدد. الإعلان عن تشكيل نواة جيش نظامي له أهداف وطنية سورية خالصة. تزايد قوة الحركة من حيث عديدها البشري ومعداتها العسكرية.
دفعت هذه التطورات مسؤولين أميركيين إلى المطالبة بالانفتاح على الحركة: السفير الأميركي السابق في سورية، روبرت فورد، يقول إن "أحرار الشام" تقع في منطقة رمادية، وإذا لم تكن واشنطن مستعدة للحديث معهم ستجد قلائل مهمين تتحدث معهم. تشارلز ليستر الخبير في معهد بركنغنز في الدوحة يدعو، في تقرير نشره منتصف يوليو / تموز الماضي، إلى الانفتاح على الحركة التي تمر بعملية تدريجية نحو الاعتدال، وربما النضج السياسي. وفي 25 أغسطس/آب الماضي، بررت صحيفة نيويورك تايمز التعامل مع الحركة بسبب قوتها المنظمة، وأهميتها السياسية، وارتباطاتها القوية بقوى إقليمية، فضلاً عن موقفها المعادي من داعش.
ومع أن واشنطن قد أزالت اسم الحركة، أخيراً، من قائمة المجموعات الأجنبية، وما يمثل ذلك من بداية انفتاح أميركي جدي تجاه "أحرار الشام"، إلا أن الإدارة الأميركية ما تزال تنظر بريبة للحركة وترفض، حتى الآن، فتح أية علاقة مباشرة معها، قبل قطع علاقاتها نهائياً مع جبهة النصرة.
تتخوف الإدارة الأميركية من ارتباطات، ولو غير مباشرة، لـ "أحرار الشام" مع "القاعدة"، وخطورة وصول أي دعم لوجيستي لها للتنظيم. لذلك، تجد إدارة أوباما نفسها بين مطرقة التعامل مع فصائل وطنية قوية، لكنها ذات جذور إسلامية راديكالية (أحرار الشام) وسندان التعامل مع قوى وطنية علمانية، لكنها ضعيفة (الجبهة الشامية، الفرقة 30، حركة حزم، جبهة ثوار سوريا). والواضح أن المطالب التي نقلتها "نيويورك تايمز" عن مسؤولين أميركيين (محاربة داعش، قطع العلاقة مع النصرة) أربكت الحركة أكثر مما أراحتها، ووضعت إشارات استفهام حول أهداف واشنطن التي لم تتحدث قط عن محاربة النظام، وهذه نقطة خلاف رئيسية بين الحركة وأنقرة من جهة وواشنطن من جهة ثانية.
ويبدو أن إصرار الولايات المتحدة على قطع الحركة علاقتها مع جبهة النصرة يعكس، إما عدم فهم أميركي للواقع الميداني شمال سورية، أو أن واشنطن تتجه نحو إحداث صراع بين الحركة و"النصرة"، وهذا ما تتخوف منه قيادات في "أحرار الشام" التي تخشى أن يكون المطلب الأميركي فخاً للقضاء على الحركة، من أجل تحقيق هدفين: القضاء على أية محاولة لتشكيل نواة قوة وطنية، يمكن أن تستقطب القوى السورية الأخرى، فهذا أمر ليس مطلوباً أميركياً في هذه المرحلة، في ظل التحركات الدولية لإنضاج تسوية سياسية في سورية. إضعاف الحركة التي بدأت ترتبط بتحالف قوي مع الأتراك، يمكن أن تكون أداتها العسكرية في سورية، لا سيما في الشمال الذي يعج بالتناقضات التركية ـ الأميركية، بعنوان التحالف ضد "داعش".
وربما هذا ما يفسر الغموض الذي اكتنف البيان التوضيحي للحركة تجاه علاقتها مع "القاعدة"، فالحركة لم تعلن سوى قطع علاقتها التنظيمية فقط، ولم تتحدث عن علاقات التعاون الجارية مع "جبهة النصرة"، في دلالة واضحة على استمرار حالة انعدام الثقة، وأن الأمر ما زال يتطلب خطوات إضافية بين الجانبين.