18 يناير 2016
الغنوشي.. صاحب مشروع
محجوب أحمد قاهري
طبيب وناشط في المجتمع المدني، يكتب المقالات في عدد من المواقع في محاولة لصناعة محتوى جاد ورصين.
أثارت زيارة زعيم حركة النهضة، الشيخ راشد الغنوشي، افتتاح مؤتمر حزب نداء تونس جملة من ردود الأفعال المتفاوتة، وحتى المتناقضة داخل مكونات الحزب، فتراوحت بين الترحيب الحار بالضيف إلى الهتاف "شماتة" فيه باسم بورقيبة، بدلا من الشيخ عبد العزيز الثعالبي "الجدّ المشترك"، إلى حدّ استقالة بعض قيادات الحزب، رفضا لهذا الحضور.
ومع تباين ردود الأفعال بشأن هذا الحدث، عاد السؤال القديم الجديد، هل الغنوشي ماكر إلى حدّ أنه استطاع أن يكسر ظهر الحزب المتفوق في الانتخابات الأخيرة، وأن يعيد صياغته وتشكيله على هواه، بعد أن طرد منه من شاء، وخصوصاً جماعة اليسار الاستئصالي، أم أن الرجل كان مضطرا لمسايرة توجه عام، أسّس له الغرب، بعد أن جمع كل المتناقضات التي لا تجتمع ولا تتوافق فيما بينها، إلا على جثث الإسلاميين، وصنع منها حزب النداء الذي كان يحمل، في ذاته، كل آليات انفجاره؟
الحقيقة أنّ الغنوشي كان مضطرا لمسايرة الوضع، لدرايته بالهجمة الغربية والعربية على الإسلاميين المعتدلين، في كل دول العالم، ابتداء من غزة إلى مصر واليمن وليبيا وغيرها. والغنوشي، أساساً، مفكّر إسلامي لم يجرّب الحكم يوماً، لكنه وضع له تصوّرا مبنيّا على أساس المواطنة والتشاركية والديمقراطية، من دون أن يستثني أحداً من أبناء الدولة. وتشهد كتبه عليه، مثل "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، و"مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني"، وكثيراً ما بدا الرجل أكثر علمانية من العلمانيين، وأكثر تمسّكا بالديمقراطية من الديمقراطيين، ولم يخضع إلى إكراهات الإيديولوجيا، التي في عمقها فرز للآخرين، وسيفصح عن وجه حركة النهضة العلماني في مؤتمرها المقبل، بفصل جانبها الدعوي عن السياسي، فالغنوشي يعتقد أن الإسلام ينشأ ويترعرع في ظل مناخ عام من الحرية، لا يستثني أحدا داخل الدولة، ولا يتجاوز قوانينها.
وعمليّاً، سعى راشد الغنوشي، منذ نشأة الجماعة الإسلامية في بداية السبعينات، إلى تأسيس الاتجاه الإسلامي، في بداية الثمانينيات، إلى ممارسة قناعاته والتقدّم إلى العمل العلني، تحت مظلة قانون الدولة دون سواه. وأوّل طلب للحصول على تأشيرة عمل حركته كان يوم 6 يونيو/حزيران 1981، إلا أن طلب الترخيص قابلته السلطة باعتقال قيادات الاتجاه الإسلامي، وتكرّر الطلب، مرات، وفي كل مرّة كان يجابه بالعنف والدمويّة، خصوصاً بعد انقلاب 7 نوفمبر/تشرين ثاني 1987. وظلّت الحركة الإسلامية، بقيادة راشد الغنوشي، تعتمد السلمية، والسعي الدؤوب إلى العمل العلني تحت مظلة القانون، إلى أن حصلت على مبتغاها في 1 مارس/آذار 2011، أي بعد الثورة التونسية، وتمّ الاعتراف بها كياناً سياسياً قانونياً في البلاد.
بعد الثورة، لم يخترع الغنوشي جديدا، ولم يكن من المحدثين، فهو بصدد إعادة تجربة الإسلاميين ما بعد انقلاب الرئيس المخلوع زين العابدبن علي في 1987، مع فارق أنه، أمس، كان يبدو مخيّرا فيما أراد، واليوم هو مضطر إلى المضيّ في هذا الطريق، فإبان انقلاب 1987 كان من أوّل الموقعين على وثيقة "الميثاق الوطني"، وكانت ثقته في المخلوع بن علي عمياء، حتى أنه طبّق كلّ ما طلب منه، مثل تغيير اسم حركة الاتجاه الإسلامي إلى اسمها الحالي، حركة النهضة. وفي الأخير، أجهز بن علي على كل الإسلاميين بلا استثناء، بعد أن كشف عوراتهم، أو لنقل "طيبة قلوبهم"، وقطع أنفاسهم وأنفاس ذرّياتهم على مدى يفوق عشرين عاماً، وما بعد ثورة 2011، وجد الشيخ نفسه مضطراً إلى الخضوع إلى واقع جديد اتّصف بتدخّل قوى دولية، عربية وغربية، في الشأن التونسي لإقصاء الإسلاميين من الحكم، وهو ما حصل من دون أيّة مقاومة سياسيّة تذكر، بعد إضرابات وعمليات إرهابية كانت تحصد وجوهاً بارزة في المشهد السياسي، كما خضع إلى قبول الشروط التي فرضها الحزب الهجين، الذي صُنع لإقصاء الإسلاميين في الحكم، وهو حزب نداء تونس، والذي كان يحمل كل أسباب دماره منذ إنشائه، وكان محكوماً بالفشل والانقسام آجلا أو عاجلا، من دون تدخل أيّ أحد، ولو كان راشد الغنوشي نفسه. فقد جمع، في مكوناته، كل المتناقضات، من أقصى اليسار إلى اليمين، من المتسامحين إلى الدمويين الذي أفتوا بجواز قتل، ولو 20 ألف من الإسلاميين، كما ضمّ عشرات القيادات التي لا ترى أحداً أصلح منها، في ذواتها، لقيادة الحزب والدولة. وسريعاً ما التهبت نيران الحكم، وتشقق الحزب بمفعول ذاتي، إلى شقين بداية، وقد تكثر الشقوق لاحقا.
في المحصّلة، لم يكن الشيخ راشد الغنوشي مسؤولاً عن حرب الزعامات التي عصفت ب "نداء تونس"، ولم يكن ماكراً ليفجّر هذا الحزب المحكوم بالفشل منذ تأسيسه. كان الرجل مفكراً إسلامياً، من القلة القليلة الذين يحملون مشروع دولة تنبني على الحرية والديمقراطية، إلا أنه وجد نفسه مضطراً إلى مسايرة تجاذبات دولية وعربية على أرض تونس، تتصادم في معظمها مع الهوية، وتتناقض من الإسلام والإسلاميين، فجاراها تجنباً إلى مثل نتائج ما بعد انقلاب 1987، إلا أن التاريخ قد يعيد نفسه.
ومع تباين ردود الأفعال بشأن هذا الحدث، عاد السؤال القديم الجديد، هل الغنوشي ماكر إلى حدّ أنه استطاع أن يكسر ظهر الحزب المتفوق في الانتخابات الأخيرة، وأن يعيد صياغته وتشكيله على هواه، بعد أن طرد منه من شاء، وخصوصاً جماعة اليسار الاستئصالي، أم أن الرجل كان مضطرا لمسايرة توجه عام، أسّس له الغرب، بعد أن جمع كل المتناقضات التي لا تجتمع ولا تتوافق فيما بينها، إلا على جثث الإسلاميين، وصنع منها حزب النداء الذي كان يحمل، في ذاته، كل آليات انفجاره؟
الحقيقة أنّ الغنوشي كان مضطرا لمسايرة الوضع، لدرايته بالهجمة الغربية والعربية على الإسلاميين المعتدلين، في كل دول العالم، ابتداء من غزة إلى مصر واليمن وليبيا وغيرها. والغنوشي، أساساً، مفكّر إسلامي لم يجرّب الحكم يوماً، لكنه وضع له تصوّرا مبنيّا على أساس المواطنة والتشاركية والديمقراطية، من دون أن يستثني أحداً من أبناء الدولة. وتشهد كتبه عليه، مثل "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، و"مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني"، وكثيراً ما بدا الرجل أكثر علمانية من العلمانيين، وأكثر تمسّكا بالديمقراطية من الديمقراطيين، ولم يخضع إلى إكراهات الإيديولوجيا، التي في عمقها فرز للآخرين، وسيفصح عن وجه حركة النهضة العلماني في مؤتمرها المقبل، بفصل جانبها الدعوي عن السياسي، فالغنوشي يعتقد أن الإسلام ينشأ ويترعرع في ظل مناخ عام من الحرية، لا يستثني أحدا داخل الدولة، ولا يتجاوز قوانينها.
وعمليّاً، سعى راشد الغنوشي، منذ نشأة الجماعة الإسلامية في بداية السبعينات، إلى تأسيس الاتجاه الإسلامي، في بداية الثمانينيات، إلى ممارسة قناعاته والتقدّم إلى العمل العلني، تحت مظلة قانون الدولة دون سواه. وأوّل طلب للحصول على تأشيرة عمل حركته كان يوم 6 يونيو/حزيران 1981، إلا أن طلب الترخيص قابلته السلطة باعتقال قيادات الاتجاه الإسلامي، وتكرّر الطلب، مرات، وفي كل مرّة كان يجابه بالعنف والدمويّة، خصوصاً بعد انقلاب 7 نوفمبر/تشرين ثاني 1987. وظلّت الحركة الإسلامية، بقيادة راشد الغنوشي، تعتمد السلمية، والسعي الدؤوب إلى العمل العلني تحت مظلة القانون، إلى أن حصلت على مبتغاها في 1 مارس/آذار 2011، أي بعد الثورة التونسية، وتمّ الاعتراف بها كياناً سياسياً قانونياً في البلاد.
بعد الثورة، لم يخترع الغنوشي جديدا، ولم يكن من المحدثين، فهو بصدد إعادة تجربة الإسلاميين ما بعد انقلاب الرئيس المخلوع زين العابدبن علي في 1987، مع فارق أنه، أمس، كان يبدو مخيّرا فيما أراد، واليوم هو مضطر إلى المضيّ في هذا الطريق، فإبان انقلاب 1987 كان من أوّل الموقعين على وثيقة "الميثاق الوطني"، وكانت ثقته في المخلوع بن علي عمياء، حتى أنه طبّق كلّ ما طلب منه، مثل تغيير اسم حركة الاتجاه الإسلامي إلى اسمها الحالي، حركة النهضة. وفي الأخير، أجهز بن علي على كل الإسلاميين بلا استثناء، بعد أن كشف عوراتهم، أو لنقل "طيبة قلوبهم"، وقطع أنفاسهم وأنفاس ذرّياتهم على مدى يفوق عشرين عاماً، وما بعد ثورة 2011، وجد الشيخ نفسه مضطراً إلى الخضوع إلى واقع جديد اتّصف بتدخّل قوى دولية، عربية وغربية، في الشأن التونسي لإقصاء الإسلاميين من الحكم، وهو ما حصل من دون أيّة مقاومة سياسيّة تذكر، بعد إضرابات وعمليات إرهابية كانت تحصد وجوهاً بارزة في المشهد السياسي، كما خضع إلى قبول الشروط التي فرضها الحزب الهجين، الذي صُنع لإقصاء الإسلاميين في الحكم، وهو حزب نداء تونس، والذي كان يحمل كل أسباب دماره منذ إنشائه، وكان محكوماً بالفشل والانقسام آجلا أو عاجلا، من دون تدخل أيّ أحد، ولو كان راشد الغنوشي نفسه. فقد جمع، في مكوناته، كل المتناقضات، من أقصى اليسار إلى اليمين، من المتسامحين إلى الدمويين الذي أفتوا بجواز قتل، ولو 20 ألف من الإسلاميين، كما ضمّ عشرات القيادات التي لا ترى أحداً أصلح منها، في ذواتها، لقيادة الحزب والدولة. وسريعاً ما التهبت نيران الحكم، وتشقق الحزب بمفعول ذاتي، إلى شقين بداية، وقد تكثر الشقوق لاحقا.
في المحصّلة، لم يكن الشيخ راشد الغنوشي مسؤولاً عن حرب الزعامات التي عصفت ب "نداء تونس"، ولم يكن ماكراً ليفجّر هذا الحزب المحكوم بالفشل منذ تأسيسه. كان الرجل مفكراً إسلامياً، من القلة القليلة الذين يحملون مشروع دولة تنبني على الحرية والديمقراطية، إلا أنه وجد نفسه مضطراً إلى مسايرة تجاذبات دولية وعربية على أرض تونس، تتصادم في معظمها مع الهوية، وتتناقض من الإسلام والإسلاميين، فجاراها تجنباً إلى مثل نتائج ما بعد انقلاب 1987، إلا أن التاريخ قد يعيد نفسه.
محجوب أحمد قاهري
طبيب وناشط في المجتمع المدني، يكتب المقالات في عدد من المواقع في محاولة لصناعة محتوى جاد ورصين.
محجوب أحمد قاهري
مقالات أخرى
21 اغسطس 2015
16 اغسطس 2015
24 يونيو 2015