لا يوجد كبير إلا الأسد
اللغة، حتى اللغة في "سورية الأسد"، قوية، بدليل أن مفردات الحياة اليومية عامرة بكلمات من قبيل: بطل، وشجاع، ومقدام، وصنديد، ونمر، وديب، وأسد... وفي الكلية الحربية، يطلبُ الضابطُ من طالب الضابط المتدرب أمراً، فإذا نفّذه على أكمل وجه، يمتدحه بقوله: آه يا وحش.
وللوحوش أهمية خاصة في سورية الأسد. رُوِيَتْ نكتةٌ عن مسؤولٍ جاء من دولة أجنبية، ليزور سورية في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، وكانت الاحتفالات بذكرى الحركة التصحيحية على أشدّها، واللافتات البيضاء تملأ الساحات العامة، وكأننا نعيش في خضمِّ معركة "ذات السواري"... فالتفت إلى مترجمه، وطلب منه أن يُطْلِعَه على محتوى اللافتات، فأفهمه أنها، كلها، تشيد بالأسد، فكتب في مذكّراته: الشيء الغريب أن الشعب السوري يحب "الأسد" أكثر من جميع الحيوانات الأخرى.
في "سورية الأسد" لا يوجد شيء مستحيل. ذات مرة، بعدما أصدر محمد ناجي عطري (أبو منير) تشكيلتَه الوزارية، شرع الناسُ يتحدّثون عن وجود وزيرين عجيبين فيها. كان أحدُهما يعمل، قبل الوزارة، سائقاً لحافلة ركاب "ميكروباص" على طريق حمص - مصياف، فتَحَوَّلَ، بلمح البصر، من كادح إلى وزير. والثاني يحمل شهادة علمية عالية، ومع ذلك بقي ردحاً طويلاً من الزمن بلا عمل، لأنه ممنوعٌ من التوظيف بسبب تقرير أمني يتهمه بمعاداة النهج القومي الاشتراكي، ولكنه كان، في الوقت نفسه، عضواً في أحد أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، ورشّحه حزبه للوزارة، فتحوّل من عاطلٍ من العمل إلى وزير.
لقد أجرت الحواشي السياسيةُ والمخابراتيةُ والإعلاميةُ الملحقة بنظام الأسد تعديلاً جوهرياً على المثل الشعبي "لا يوجد كبير غير الجَمَل"، فجعلته "لا يوجد كبير غير الأسد".
للحقيقة والتاريخ، لم يكن في سورية، خلال هذه الحقبة، كبيرٌ غير الأسد. ولكن بعض المسؤولين، مع ذلك، كانوا يعتقدون أنهم رجال دولة، وأن للواحد منهم كلمةً مسموعة، ومن ثم فهو يستطيع أن يأمر، وينهى، ويضع خططاً، ويُصدر قراراتٍ وفرماناتٍ. ففي يوم من الأيام، قرّر محافظ إدلب، وهو رجل يحمل شهادة الليسانس في الحقوق، أن يجتمعَ مع موظفي مديرية الزراعة في المحافظة، ليعرض عليهم مشروعاً مهماً. وبمجرد ما التأم الاجتماعُ، أبلغهم أنه قرّر زرع خمسة ملايين شجرة صفصاف على ضفاف المجرور الخاص بالصرف الصحي الذي ينقل فضلات إدلب، بطريقة الجريان السطحي، إلى منطقة قريبة من مدينة حلب.
ارتسمت ابتساماتٌ لاإرادية على وجوه بعض الحاضرين، انتبه إليها المحافظ، فانزعج منهم، وتوجّه إليهم بالسؤال عن رأيهم في الموضوع. ولأن الناس في حقبة الأسد يعرفون أن أخطر شيء هو (الرأي) فقد صمتوا، عدا واحد اشتهر بعناده ولامبالاته تجاه المسؤولين، اسـتأذن، وقال:
- الطريقة المثلى لجريان ماء الصرف الصحي الوسخ تتلخص في أن يجري ضمن أنابيب إسمنتية، فالجريان السطحي ينشر الروائح والجراثيم، ويصبح مرتعاً للحشرات والسحالي، أما زراعة أشجار الصفصاف، فتكون، عادةً، على ضفاف الأنهار والسواقي العذبة، والأهم من هذا وذاك هو الرقم الرهيب الذي تتحدّث عنه حضرتك، خمسة ملايين شجرة؟!... علمياً، يجب أن تترك مسافة بين الشجرة والأخرى لا تقل عن عشرين متراً، والكيلومتر هو ألف، أي أنه يتسع لخمسين شجرة على كل ضفة، أي ما يساوي مئة شجرة على الطرفين، ونحن لدينا 65 كيلومتراً الطول التقريبي للمجرور، أي أن ستة آلاف وخمسمئة شجرة تكفي، وإذا أردت أن توسع عملية التشجير، فيكون الخط مزدوجاً، تحتاج لثلاثة عشر ألفاً فقط...
ما حصل بنتيجة هذا الحوار غير المتكافئ أن المحافظ المذكور (ركب دماغه)، ودماغه، بحسب عادل إمام، جزمة قديمة، وبقي مصمّماً على زراعة الملايين الخمسة، ولم يستطع أحدٌ أن يعرف السر في حصول تلك المصادفة العجيبة التي جعلت القيادة الحكيمة تعيّنه وزيراً (للزراعة) في أول حكومة سورية قادمة.