03 اغسطس 2022
الحريري يعود والإرباك سيد الموقف
فاجأ سعد الحريري اللبنانيين بعودته إلى لبنان الذي يغيب عنه، منذ نحو خمس سنوات، تخللتها ثلاث زيارات خاطفة لساعات إلى بيروت. وكان قد غادر البلد لأسباب أمنية إثر إسقاط قوى الممانعة في فريق 8 آذار الذي يقوده حزب الله حكومته في نهاية عام 2010، في اللحظة التي كان يهم فيها بدخول البيت الأبيض للاجتماع مع الرئيس الأميركي، باراك أوباما، رئيساً للحكومة اللبنانية. يبدو أنه عاد، هذه المرة، ليبقى، او على الأقل ليمكث بعض الوقت؛ ومناسبة العودة هي إحياء الذكرى الحادية عشرة لاغتيال والده رئيس الحكومة الأسبق، رفيق الحريري حيث تتهم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان خمسة عناصر من حزب الله بارتكاب الجريمة.
غير أن الحريري الابن عاد، على ما يبدو، مثقلا بالمسؤوليات وبالمشكلات السياسية والخاصة، وبذيول تعقيدات الوضعين، العربي والإقليمي، وبزواريب الساحة الداخلية ودهاليزها، ما جعل الصورة مشوشة لديه، ودفعه الى التعبير عن مرارته و"فش خلقه" في وجه حليفه المسيحي الرئيسي، رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، في الكلمة التي ألقاها في الاحتفال الحاشد الذي شارك فيه جعجع نفسه على رأس وفد من حزبه. وذهب إلى حد تحميله مسؤولية التأخر في إجراء "مصالحة مسيحية" مع خصمه ميشال عون منذ 28 سنة، في معرض كلامه عن الفراغ الحاصل في موقع رئاسة الجمهورية منذ نحو سنتين. ويعود هذا الاشتباك إلى الخلاف الحاصل منذ أشهر بين الرجلين بشأن كيفية إيجاد مخرج للمأزق الرئاسي. وقد شاء الحريري بذلك الغمز من قناة جعجع الذي فاجأ الحلفاء قبل الأخصام بتبني ترشيح خصمه التاريخي الجنرال عون لرئاسة الجمهورية، بعد أن كان جعجع هو نفسه، وطوال سنة ونصف السنة، المرشح الرسمي لقوى 14 آذار للرئاسة في مواجهة ترشيح حزب الله وفريقه عون.
ولكن، من أين بدأت القصة، وكيف تحولت إلى اشتباك بين من قاد معركة استعادة الاستقلال والسيادة والحرية وإخراج جيش "الوصاية السورية" من لبنان؟ منذ 25 مايو/أيار 2014، كانت جلسات الانتخاب في البرلمان تتوالى، وقد بلغت 35 جلسة من دون نتيجة، بسبب إصرار نواب كتلتي حزب الله والتيار العوني على التغيب عن الجلسات وتعطيل النصاب المطلوب لشرعية الانتخاب. وفيما كانت تزداد الأمور تعقيداً، ويزداد الشلل في الوضع السياسي والتعطيل للمؤسسات من حكومة وبرلمان، على وقع اشتداد عنف النظام السوري ووحشيته، وهو المُعوم والمُغطى من روسيا بوتين، وازدياد التدهور على الصعيد الإقليمي، وتصاعد حدة التوتر بين إيران والسعودية، وبالتالي، انسداد أفق الحل الداخلي، فاجأ الحريري حلفاءه في "14 آذار" قبل أخصامه في "8 آذار" بتبني ترشيح سليمان فرنجية الذي هو أحد أركان "8 آذار" والصديق الشخصي لبشار الأسد. أرادها الحريري "خطوة إنقاذية"، انطلاقا من أنه في لقاء بكركي (مقر رأس الكنيسة المارونية) كان البطريرك الماروني نفسه، بشارة الراعي، قد توافق مع أربعة قادة وشخصيات سياسية مارونية على حصر الرئاسة في واحد منهم، على أن يلتزم الآخرون بالتصويت لمن يقع عليه الاختيار منهم. وهؤلاء الأربعة هم ميشال عون وسمير جعجع وأمين الجميل وسليمان فرنجية، والأربعة موزعون اثنين من فريق "14 آذار" (جعجع والجميل) واثنين من فريق "8 آذار" (عون وفرنجية). وقد تم عملياً استثناء شخصيات مارونية أخرى، معتبرة من الممكن ومن الأسهل أن يحصل توافق حولها. وهذا ما حاول
شرحه الحريري في كلمته محاولاً إقناع الحلفاء بصوابية خياره، عندما قال إنه بترشيح فرنجية قد التزم بقرار بكركي. أما لماذا تبنى مرشحاً من الأخصام، فكشف الحريري أنه تم التفاهم بين أركان "14 آذار" على دعم ترشيح الجميل بدلا من جعجع، وبموافقته، في حال لاقى قبولاً عند فريق حزب الله، إلا أن ذلك لم يتحقق. وأكد الحريري، في هذا السياق، أنه خلال تلك الفترة تم التفاهم مع عون على تشكيل الحكومة التي يرأسها اليوم تمام سلام، بعد أن دامت الأزمة الحكومية أحد عشر شهراً (مارس/آذار 2013 – فبراير/شباط 2014)، ونفى أن يكون حصل أي تفاهم مع عون على الرئاسة، أو أي وعد له بذلك، على عكس ما قيل وتناقلته وسائل الإعلام يومها.
هكذا، وبهدف إخراج البلاد من هذا المأزق الخطير، لم يبق أمام الحريري إلا دعم ترشيح فرنجية. وهذا ما أثار غضب حليفه جعجع الذي تفصله عن فرنجية عداوة تاريخية، تعود إلى نحو أربعين سنة (1978) يوم اغتالت مجموعة من حزب الكتائب النائب طوني فرنجية، ابن رئيس الجمهورية الأسبق سليمان فرنجية (1970 - 1976) ووالد النائب الحالي وزعيم "تيار المردة" سليمان فرنجية، وكان الشاب جعجع أحد الكوادر العسكرية الذين شاركوا في العملية. يضاف إليها الخلاف السياسي الكبير بين الرجلين بشأن الخيارات السياسية، والعلاقة والخصومة مع النظام السوري، ولاحقاً الموقف من حزب الله، على الرغم من أن حوارات كانت قد بدأت بعيداً عن الأضواء منذ نحو سنتين بين "القوات" و"المردة"، بهدف تجاوز أحقاد الماضي، وتبريد النفوس بين المحازبين، تحديداً في محافظة الشمال، حيث يوجد الطرفان بشكل أساسي. وماذا كانت ردة فعل جعجع؟ فاجأ هو أيضا الحليف، واستقبل في مقره لأول مرة في معراب (على تلال جونية شمال بيروت) الجنرال اللدود، وأعلن في احتفالية تبني ترشيحه، بعد أن كانا قد تخاصما وتصارعا في مواجهاتٍ دمويةٍ، حصدت مئات القتلى بين عامي 1988 و1990. وهنا بيت القصيد أيضا، إذ بدت خطوة جعجع بمثابة "فعل نكاية"، خصوصا وأن الحريري كشف عن أن من وقف في وجه تبنيه ترشيح عون كان جعجع بالذات.
وهكذا، لم يعد للفريق "السيادي" مرشحه، وأصبح أمام مرشحين، كلاهما ينتميان للفريق الآخر الممانع. ومما زاد في الطين بلة أن الجلسة الأخيرة التي تلت تبني ترشيح جعجع عون، أن هذا الأخير استمر هو ونوابه بمقاطعة الجلسة بالتكافل والتضامن مع حزب الله. والأنكى أن فرنجية أعلن تضامنه مع موقف حزب الله، ولم ينزل إلى جلسة الانتخاب التي كان من الممكن نظرياً (وعددياً) أن تنتخبه رئيساً، إذ يقف رئيس المجلس نبيه بري، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، عمليا مع فرنجية، ولو أنهما لم يعلنا موقفهما رسميا إلى جانبه.
وخارج دهاليز السياسة اللبنانية، وحسابات سياسييها الضيقة والمتضادة و"الدكنجية"، يبقى أن الحريري كان صاحب الدعوة و"صاحب الدار" في مهرجان ذكرى والده، وأن تصرفه أشعل مواقع التواصل الاجتماعي من محازبي جعجع ضده، والأسوأ أنه كاد أن يشعل حريقا من شأنه أن يقضي على ما تبقى من قوى 14 آذار المتهاوية منذ فترة. فسارع، أمس، إلى إطفائه، وذلك بقيامه بزيارة ترطيب خواطر مفاجئة لجعجع. ولكن، هل سينطفئ فعلا؟
غير أن الحريري الابن عاد، على ما يبدو، مثقلا بالمسؤوليات وبالمشكلات السياسية والخاصة، وبذيول تعقيدات الوضعين، العربي والإقليمي، وبزواريب الساحة الداخلية ودهاليزها، ما جعل الصورة مشوشة لديه، ودفعه الى التعبير عن مرارته و"فش خلقه" في وجه حليفه المسيحي الرئيسي، رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، في الكلمة التي ألقاها في الاحتفال الحاشد الذي شارك فيه جعجع نفسه على رأس وفد من حزبه. وذهب إلى حد تحميله مسؤولية التأخر في إجراء "مصالحة مسيحية" مع خصمه ميشال عون منذ 28 سنة، في معرض كلامه عن الفراغ الحاصل في موقع رئاسة الجمهورية منذ نحو سنتين. ويعود هذا الاشتباك إلى الخلاف الحاصل منذ أشهر بين الرجلين بشأن كيفية إيجاد مخرج للمأزق الرئاسي. وقد شاء الحريري بذلك الغمز من قناة جعجع الذي فاجأ الحلفاء قبل الأخصام بتبني ترشيح خصمه التاريخي الجنرال عون لرئاسة الجمهورية، بعد أن كان جعجع هو نفسه، وطوال سنة ونصف السنة، المرشح الرسمي لقوى 14 آذار للرئاسة في مواجهة ترشيح حزب الله وفريقه عون.
ولكن، من أين بدأت القصة، وكيف تحولت إلى اشتباك بين من قاد معركة استعادة الاستقلال والسيادة والحرية وإخراج جيش "الوصاية السورية" من لبنان؟ منذ 25 مايو/أيار 2014، كانت جلسات الانتخاب في البرلمان تتوالى، وقد بلغت 35 جلسة من دون نتيجة، بسبب إصرار نواب كتلتي حزب الله والتيار العوني على التغيب عن الجلسات وتعطيل النصاب المطلوب لشرعية الانتخاب. وفيما كانت تزداد الأمور تعقيداً، ويزداد الشلل في الوضع السياسي والتعطيل للمؤسسات من حكومة وبرلمان، على وقع اشتداد عنف النظام السوري ووحشيته، وهو المُعوم والمُغطى من روسيا بوتين، وازدياد التدهور على الصعيد الإقليمي، وتصاعد حدة التوتر بين إيران والسعودية، وبالتالي، انسداد أفق الحل الداخلي، فاجأ الحريري حلفاءه في "14 آذار" قبل أخصامه في "8 آذار" بتبني ترشيح سليمان فرنجية الذي هو أحد أركان "8 آذار" والصديق الشخصي لبشار الأسد. أرادها الحريري "خطوة إنقاذية"، انطلاقا من أنه في لقاء بكركي (مقر رأس الكنيسة المارونية) كان البطريرك الماروني نفسه، بشارة الراعي، قد توافق مع أربعة قادة وشخصيات سياسية مارونية على حصر الرئاسة في واحد منهم، على أن يلتزم الآخرون بالتصويت لمن يقع عليه الاختيار منهم. وهؤلاء الأربعة هم ميشال عون وسمير جعجع وأمين الجميل وسليمان فرنجية، والأربعة موزعون اثنين من فريق "14 آذار" (جعجع والجميل) واثنين من فريق "8 آذار" (عون وفرنجية). وقد تم عملياً استثناء شخصيات مارونية أخرى، معتبرة من الممكن ومن الأسهل أن يحصل توافق حولها. وهذا ما حاول
هكذا، وبهدف إخراج البلاد من هذا المأزق الخطير، لم يبق أمام الحريري إلا دعم ترشيح فرنجية. وهذا ما أثار غضب حليفه جعجع الذي تفصله عن فرنجية عداوة تاريخية، تعود إلى نحو أربعين سنة (1978) يوم اغتالت مجموعة من حزب الكتائب النائب طوني فرنجية، ابن رئيس الجمهورية الأسبق سليمان فرنجية (1970 - 1976) ووالد النائب الحالي وزعيم "تيار المردة" سليمان فرنجية، وكان الشاب جعجع أحد الكوادر العسكرية الذين شاركوا في العملية. يضاف إليها الخلاف السياسي الكبير بين الرجلين بشأن الخيارات السياسية، والعلاقة والخصومة مع النظام السوري، ولاحقاً الموقف من حزب الله، على الرغم من أن حوارات كانت قد بدأت بعيداً عن الأضواء منذ نحو سنتين بين "القوات" و"المردة"، بهدف تجاوز أحقاد الماضي، وتبريد النفوس بين المحازبين، تحديداً في محافظة الشمال، حيث يوجد الطرفان بشكل أساسي. وماذا كانت ردة فعل جعجع؟ فاجأ هو أيضا الحليف، واستقبل في مقره لأول مرة في معراب (على تلال جونية شمال بيروت) الجنرال اللدود، وأعلن في احتفالية تبني ترشيحه، بعد أن كانا قد تخاصما وتصارعا في مواجهاتٍ دمويةٍ، حصدت مئات القتلى بين عامي 1988 و1990. وهنا بيت القصيد أيضا، إذ بدت خطوة جعجع بمثابة "فعل نكاية"، خصوصا وأن الحريري كشف عن أن من وقف في وجه تبنيه ترشيح عون كان جعجع بالذات.
وهكذا، لم يعد للفريق "السيادي" مرشحه، وأصبح أمام مرشحين، كلاهما ينتميان للفريق الآخر الممانع. ومما زاد في الطين بلة أن الجلسة الأخيرة التي تلت تبني ترشيح جعجع عون، أن هذا الأخير استمر هو ونوابه بمقاطعة الجلسة بالتكافل والتضامن مع حزب الله. والأنكى أن فرنجية أعلن تضامنه مع موقف حزب الله، ولم ينزل إلى جلسة الانتخاب التي كان من الممكن نظرياً (وعددياً) أن تنتخبه رئيساً، إذ يقف رئيس المجلس نبيه بري، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، عمليا مع فرنجية، ولو أنهما لم يعلنا موقفهما رسميا إلى جانبه.
وخارج دهاليز السياسة اللبنانية، وحسابات سياسييها الضيقة والمتضادة و"الدكنجية"، يبقى أن الحريري كان صاحب الدعوة و"صاحب الدار" في مهرجان ذكرى والده، وأن تصرفه أشعل مواقع التواصل الاجتماعي من محازبي جعجع ضده، والأسوأ أنه كاد أن يشعل حريقا من شأنه أن يقضي على ما تبقى من قوى 14 آذار المتهاوية منذ فترة. فسارع، أمس، إلى إطفائه، وذلك بقيامه بزيارة ترطيب خواطر مفاجئة لجعجع. ولكن، هل سينطفئ فعلا؟