24 أكتوبر 2024
الاتجار بالسوريات وتعميق الجرح
إذا كانت الحرب التي شنها النظام السوري على شعبه قد قتلت وشرّدت ملايينَ، وحولت ملايينَ أخرى إلى معوقين، فهي على الرغم من ذلك، لا تشكل سوى قمة جبل الجليد في المأساة السورية الكبرى التي لا تنتهي. تداعيات الحروب غالباً ما تكون أكثر مأساوية من الحدث المركزي نفسه، على هامش الحرب تنشأ ظروفٌ لا تقل وحشيةً عن الحرب نفسها. هذا ما يقوله الكشف في لبنان عن أكبر شبكة اتجار بالسوريات، وتعذيبهن وإجبارهن على ممارسة الدعارة. ولم يتورّع تجار البشر عن غرز سكينٍ إضافيةٍ في الجسد السوري الجريح بألف طعنةٍ وطعنة، وإذا كانت هذه المأساة قد تم اكتشافها، فكم من المآسي التي ما زالت في الخفاء؟ من تجارة البشر، إلى تجارة الأعضاء، إلى تجّار الموت في البحار، إلى اللصوص الذين ينتظرون الهاربين على الطرق لسلبهم أموالهم.. إلى عددٍ هائلٍ من الجرائم التي يتفتق عنها العقل الإجرامي المريض، للتنكيل بالضحايا والمحتاجين. لذلك، سننتظر في السنوات المقبلة، لنكتشف حجم الجريمة التي ارتكبت داخل سورية في قتل المعتقلين والمعتقلات وتعذيبهم، واغتصاب النساء على الحواجز والمناطق المقتحمة ونهبها. هذا في الداخل السوري، والكثيرون ممن نجوا في الهروب من الحرب، كانوا ضحايا، مرة أخرى، لتجار البشر واللصوص. وأعرف قصصاً في كل مكانٍ وجد فيه السوريون، من دول الجوار، التي تكاد مآسي اللاجئين فيها لا تنتهي، مرورا بالدول الأبعد، في مصر وليبيا وحتى السودان، وصولاً إلى مآسٍ في البرازيل وتايلاند وماليزيا وغيرها. إضافة إلى مآسي اللجوء الأوروبي، على الرغم من أن هؤلاء يعتبرون الأكثر حظاً من غيرهم بين الضحايا السوريين، حتى تكاد المأساة السورية تغطي العالم كله تقريباً.
للأسف، ليس الضحايا أرقاماً إحصائية، إنهم بشر من لحم ودم، قصص مدمية للقلب، قصص لا تنتهي، وليس هناك من أفقٍ لوضع حدٍّ لها.
وقع جريمة الاتجار بالسوريات في لبنان عليّ أكبر من وقع جرائم النظام نفسه، فلا يمكنني فهم مستوى انحطاط المجرم الذي يطعن المطعون أصلاً، والتوغل في ظلم المظلومين، فالتفاصيل المروّعة التي روتها المحرّرات من سجن العبودية تقشعر لها الأبدان. ولا تختلف عن التعذيب الذي تُمارسه فروع المخابرات السورية على السوريين، وكأن الشبكة امتدادٌ لهذه الفروع الأمنية التي توغلت في دم السوريين وإذلالهم.
رحلة الآلام التي خبرتها 74 فتاة سورية في هذا الجحيم متشابهة، تتراوح أعمارهن بين 16 عاماً، وأكبرهن لا تتجاوز السابعة والعشرين. لم تقتصر الجريمة على خداع الفتيات، وجلبهن من سورية وتشغيلهم في الدعارة بالقوة (حسب رواية جريدة "السفير" اللبنانية 2/4) وعبر سجنهن في أقبية فندقَي "سيلفر" و"شيه موريس" في المعاملتين في بيروت، بل أيضاً على تعنيفهن وتعذيبهن، وصولاً إلى قطع لسان إحداهن، والتسبب بوفاة أكثر من واحدة، وإجراء أكثر من مائتي عملية إجهاض، وفق اعترافات الطبيب "ر.ع" لقوى الأمن الداخلي، ووفق ما أكدت أكثر من ضحية.
وأفادت رنا (إحدى المحرّرات) بأنها كانت، ورفيقاتها، يُرغَمن على ممارسة الجنس مع عشرة إلى عشرين رجلاً لكل امرأة منهن في الليلة الواحدة. يبدأ العمل منذ العاشرة صباحاً وإلى السادسة من فجر اليوم الثاني. وغالباً ما تفرض عليهن ممارسات "مقرفة" وفق ما وصفنها، وكذلك ممارسة الجنس الجماعي.
الأسوأ في الموضوع أن أكثر من ضحيةٍ أوقفهن الأمن اللبناني، لا بوصفهن ضحايا، بل بوصفهن متهمات. وقال بعضهن إن أحد الأجهزة الأمنية أوقفهن سابقاً، ولكن كان يتم الإفراج عنهن، عبر تدخل جهات متنفذة، مما يسهّل لمشغليهن إعادة استغلالهن، إلى درجة قلن فيها إنهن ظنن "أن لا دولة في لبنان تحميهن".
بدأت عملية القبض على الشبكة، وفق مصادر قوى الأمن الداخلي اللبناني، بعدما تمكنت أربع فتيات من الفرار، يوم الجمعة العظيمة عند الطوائف الكاثوليكية، "حيث كان يوم عطلة، ولا زبائن في الفندق". كانت هناك حارسة واحدة، فاتفقت ثماني فتيات على تقييدها، ومن ثم أخذن مفتاح الباب، وتمكَّنَّ من الهروب، والتبليغ عن الشبكة.
ما يزيد في تعميق الجرح، تفاصيل تتعلق بقبض أزواج بعض الفتيات وأهلهن مبالغ مالية، لقاء تشغيلهم وتسليمهن إلى مشغليهم.
لا يمكن القبول بفكرة أنه كلما ازداد البشر ضعفاً تصبح حياتهم عرضةً لمزيدٍ من الانتهاك، على الرغم من أن هذا ما يحصل في الواقع الحقيقي كل يوم. في كل القيم الإنسانية، كلما ازدد الإنسان ضعفاً احتاج إلى حماية أكبر، لا يحتاجها الأقوياء. لكن هذه المعادلة، مهما جرى انتهاكها والدوس عليها، هي أساس القيم الإنسانية السليمة. لذلك، لا يجب المرور على هذه الجريمة بوصفها تفصيلاً من المأساة السورية الكبرى، وبذلك، يتم دفنها ودفن آلام ضحاياها معها. وليس غريباً أن تمر مرور الكرام، إذا كان أحد المتنفذين في السلطة في لبنان طرفاً فيها. فالذي أخرج ميشيل سماحة من السجن، وقد قُبض عليه وهو يريد تفجير لبنان، لن يوقف أي متنفذٍ متورطٍ، وضحاياها من السوريات الأكثر ضعفاً في العالم اليوم.
إنها جريمة كبرى، ولا يجب محاسبة الأشخاص الذين قاموا بها فحسب، بل محاسبة النظام السياسي الذي يمكن أن ترتكب جرائم كبرى، تحت سمعه وبصره أيضا.
للأسف، لا يُدين هذا النوع من الجرائم المجرمين وحدهم، والنظام السياسي الذي وقعت في ظله فحسب، بل يديننا نحن الذين نعجز عن فعل شيء للضحايا أيضاً. إنهن زوجاتنا وبناتنا وأخواتنا وأمهاتنا، نعجز عن حمايتهن من الوصول إلى أيدي المجرمين مرّة، ونعجز عن حمايتهن بعد معرفتنا الجحيم الذي خبرنه مرّة أخرى. هذا إذا لم نعاقبهن بالنبذ الاجتماعي والقتل بداعي الشرف. هكذا، يتعامل الضعفاء مع ضحاياهم، بمعاقبة الضحية بدل معاقبة الجلاد. لذلك، كل يوم يغدو السؤال أكثر إلحاحاً: من يحمي الضحية السورية من جلاديها الكثيرين؟
للأسف، ليس الضحايا أرقاماً إحصائية، إنهم بشر من لحم ودم، قصص مدمية للقلب، قصص لا تنتهي، وليس هناك من أفقٍ لوضع حدٍّ لها.
وقع جريمة الاتجار بالسوريات في لبنان عليّ أكبر من وقع جرائم النظام نفسه، فلا يمكنني فهم مستوى انحطاط المجرم الذي يطعن المطعون أصلاً، والتوغل في ظلم المظلومين، فالتفاصيل المروّعة التي روتها المحرّرات من سجن العبودية تقشعر لها الأبدان. ولا تختلف عن التعذيب الذي تُمارسه فروع المخابرات السورية على السوريين، وكأن الشبكة امتدادٌ لهذه الفروع الأمنية التي توغلت في دم السوريين وإذلالهم.
رحلة الآلام التي خبرتها 74 فتاة سورية في هذا الجحيم متشابهة، تتراوح أعمارهن بين 16 عاماً، وأكبرهن لا تتجاوز السابعة والعشرين. لم تقتصر الجريمة على خداع الفتيات، وجلبهن من سورية وتشغيلهم في الدعارة بالقوة (حسب رواية جريدة "السفير" اللبنانية 2/4) وعبر سجنهن في أقبية فندقَي "سيلفر" و"شيه موريس" في المعاملتين في بيروت، بل أيضاً على تعنيفهن وتعذيبهن، وصولاً إلى قطع لسان إحداهن، والتسبب بوفاة أكثر من واحدة، وإجراء أكثر من مائتي عملية إجهاض، وفق اعترافات الطبيب "ر.ع" لقوى الأمن الداخلي، ووفق ما أكدت أكثر من ضحية.
وأفادت رنا (إحدى المحرّرات) بأنها كانت، ورفيقاتها، يُرغَمن على ممارسة الجنس مع عشرة إلى عشرين رجلاً لكل امرأة منهن في الليلة الواحدة. يبدأ العمل منذ العاشرة صباحاً وإلى السادسة من فجر اليوم الثاني. وغالباً ما تفرض عليهن ممارسات "مقرفة" وفق ما وصفنها، وكذلك ممارسة الجنس الجماعي.
الأسوأ في الموضوع أن أكثر من ضحيةٍ أوقفهن الأمن اللبناني، لا بوصفهن ضحايا، بل بوصفهن متهمات. وقال بعضهن إن أحد الأجهزة الأمنية أوقفهن سابقاً، ولكن كان يتم الإفراج عنهن، عبر تدخل جهات متنفذة، مما يسهّل لمشغليهن إعادة استغلالهن، إلى درجة قلن فيها إنهن ظنن "أن لا دولة في لبنان تحميهن".
بدأت عملية القبض على الشبكة، وفق مصادر قوى الأمن الداخلي اللبناني، بعدما تمكنت أربع فتيات من الفرار، يوم الجمعة العظيمة عند الطوائف الكاثوليكية، "حيث كان يوم عطلة، ولا زبائن في الفندق". كانت هناك حارسة واحدة، فاتفقت ثماني فتيات على تقييدها، ومن ثم أخذن مفتاح الباب، وتمكَّنَّ من الهروب، والتبليغ عن الشبكة.
ما يزيد في تعميق الجرح، تفاصيل تتعلق بقبض أزواج بعض الفتيات وأهلهن مبالغ مالية، لقاء تشغيلهم وتسليمهن إلى مشغليهم.
لا يمكن القبول بفكرة أنه كلما ازداد البشر ضعفاً تصبح حياتهم عرضةً لمزيدٍ من الانتهاك، على الرغم من أن هذا ما يحصل في الواقع الحقيقي كل يوم. في كل القيم الإنسانية، كلما ازدد الإنسان ضعفاً احتاج إلى حماية أكبر، لا يحتاجها الأقوياء. لكن هذه المعادلة، مهما جرى انتهاكها والدوس عليها، هي أساس القيم الإنسانية السليمة. لذلك، لا يجب المرور على هذه الجريمة بوصفها تفصيلاً من المأساة السورية الكبرى، وبذلك، يتم دفنها ودفن آلام ضحاياها معها. وليس غريباً أن تمر مرور الكرام، إذا كان أحد المتنفذين في السلطة في لبنان طرفاً فيها. فالذي أخرج ميشيل سماحة من السجن، وقد قُبض عليه وهو يريد تفجير لبنان، لن يوقف أي متنفذٍ متورطٍ، وضحاياها من السوريات الأكثر ضعفاً في العالم اليوم.
إنها جريمة كبرى، ولا يجب محاسبة الأشخاص الذين قاموا بها فحسب، بل محاسبة النظام السياسي الذي يمكن أن ترتكب جرائم كبرى، تحت سمعه وبصره أيضا.
للأسف، لا يُدين هذا النوع من الجرائم المجرمين وحدهم، والنظام السياسي الذي وقعت في ظله فحسب، بل يديننا نحن الذين نعجز عن فعل شيء للضحايا أيضاً. إنهن زوجاتنا وبناتنا وأخواتنا وأمهاتنا، نعجز عن حمايتهن من الوصول إلى أيدي المجرمين مرّة، ونعجز عن حمايتهن بعد معرفتنا الجحيم الذي خبرنه مرّة أخرى. هذا إذا لم نعاقبهن بالنبذ الاجتماعي والقتل بداعي الشرف. هكذا، يتعامل الضعفاء مع ضحاياهم، بمعاقبة الضحية بدل معاقبة الجلاد. لذلك، كل يوم يغدو السؤال أكثر إلحاحاً: من يحمي الضحية السورية من جلاديها الكثيرين؟