31 أكتوبر 2024
قوة التسامح والديمقراطية والحداثة.. صادق خان بعد أحمد بوطالب
أراد عمدة لندن الجديد، صادق خان، في حفل تنصيبه يوم 7 مايو/ أيار الجاري، إبراز الطابع التاريخي لانتصاره. لذلك افتتح الحفل بقوله اسمي "صادق خان، وأنا عمدة لندن". هناك من رأى في كلامه تعبيراً عن فرحة ابن المهاجر الباكستاني الذي نشأ في مسكن وفّرته البلدية، مع باقي أفراد أسرته. وهناك من رأى في ذلك طريقة ضمنية لإظهار هويته مسلماً، وهذه النقطة هي التي أثارت اهتمام وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية، غير أن صادق خان، ولتبديد الشكوك والتأويلات المغرضة والقراءات العنصرية الماكرة، قال "أنا بريطاني وأوروبي وإنجليزي من ديانة إسلامية، ومن أصل آسيوي وبإرث باكستاني. أنا أب وزوج".
أمام هذا التحوّل النوعي في سيرورة أعرق تجربة ديمقراطية، تحسن الإشادة بالوجه الآخر للمملكة المتحدة، والتي في خضم الحملة لتنظيم استفتاء حول انسحابها أو بقائها في الاتحاد الأوروبي، وفي ظل تصاعد المد الشعبوي في عدد من دول أوروبا، وانتشار المشاعر المعادية للمهاجرين، والنزعة الوطنية المنغلقة، والمنطوية على نفسها، اختار الناخبون في عاصمتها التفاؤل والانفتاح، وانتصروا للتنوع والتسامح، وهو اختيار غير مسبوق، حيث تترجم نسبة 57% التي صوّتت لصالح خان انتصاراً لهذه الاختيارات.
وكان لافتاً أن منافس صادق خان، من حزب المحافظين، زاك غولد سميث، قاد حملة شرسة، واستخدم خطاباً قاسياً، ولم يتردد فيه في التهجم على صادق خان باعتباره مسلما، بل ألصق به جملة من الصفات، في محاولة لتشويه سمعته، وربطه بالحركات الإرهابية، غير أنه كانت لسكان لندن قراءة أخرى وتفسير مغاير، حيث غلبوا العقل والحكمة على المشاعر الساخنة والمتوترة المرتبطة بلحظة الانتخابات وسياقها، واختاروا الأمل بدل الخوف، والوحدة عوض الانقسام، على غير ما سعى إليه بشكل ملحوظ مرشح المحافظين.
كشف صادق خان، في أول خطاب له، عن توجهاته الاستراتيجية وقناعاته، فقد اعتبر أنه عمدة لجميع اللندنيين، وقال إن الخوف لا يجلب أمناً أكثر، بل هو المصدر الفعلي للضعف، وليست سياسة الخوف موضع ترحيب في مدينة لندن. وكان هذا هو رده المباشر والصريح على المخاوف التي راودت صفوف المحافظين، وأنصار الإسلاموفوبيا، علماً أنه تعرّض لحملة تشهيرٍ واتهاماتٍ مجّانيةٍ وغير مبرّرة، وجهت إليه، حتى من رئيس الوزراء المحافظ، ديفيد كاميرون.
وفي افتتاحيتها التي خصصتها، يوم 10 مايو/أيار الجاري، لفوز صادق خان بعمودية لندن، رأت صحيفة لوموند الفرنسية، الرصينة والمؤثرة، أن عمدة لندن الجديد يستحق التحية، لأنه تمكّن من تحويل المعيقات إلى إمكانيات للنجاح والانتصار، فصادق خان ابن سائق الحافلة، وتأسيساً على مساراته المهنية والسياسية والشخصية الغنية والمثيرة، بات يجسد الإسلام المتنور والمنفتح والمندمج في الثقافة وأنماط العيش الأوروبية، وهذا هو السلاح الأفضل والفعال لمواجهة التطرف الإسلامي، وما زاد في تعزيز نجومية صادق خان وقوته أنه أدى القسم في كاتدرائية ساوث ورك، وهي أحد المعاقل التاريخية للمسيحية في بريطانيا، في رسالة تحمل أكثر من دلالة إلى المتشددين والمتطرفين، على اختلاف مرجعياتهم وأهدافهم ومذاهبهم.
ويمكن الربط بين تألق خان وصعود نجمه وبين حزب العمال الذي ترشح تحت لوائه، فهذا الحزب، ونظراً لما أصبح يملكه من إمكانات فكريةٍ وسياسيةٍ وتراكمٍ وخبرةٍ وتماسكٍ تنظيمي، تمكّن من إرساء ثقافةٍ ومنظومة قيمٍ، تشكّل البوصلة التي يهتدي بها، في التعامل مع النخب المنحدرة من الجيل الثاني من المهاجرين، وعرف كيف تندمج نخبة مسلمة في صفوفه، خلافا للحزب الاشتراكي الفرنسي، مثلاً، الذي وإن خصص بعض المناصب لأبناء المهاجرين، ولا سيما العناصر التي يعتبرها واعدةً من الناحية السياسية، فإن المواقع المتقدمة في اللوائح الانتخابية للحزب تبقى بعيدة المنال بالنسبة لأبناء المهاجرين من أصول مختلفة. وهذا أمر يراه خبراء ومراقبون فرنسيون خطأ استراتيجياً مكلفاً تدفع ثمنه فرنسا.
لم تتأثر الكتلة الناخبة في لندن بالإسلاموفوبيا والحملات المعادية للمسلمين، خصوصاً في الأوساط اليمينية والمحافظة، والملاحظ أن صادق خان لم يستعمل عقيدته الدينية في الحملة الانتخابية، ولم يوظفها ورقةً لدغدغة عواطف الناخبين من أصول إسلامية، على الرغم من أنه لا يخفي انتماءه إلى هذه العقيدة، ولا يتردّد في الافتخار بها والاستئناس بمبادئها، بل انخرط في الاستحقاق الانتخابي التاريخي مستنداً إلى مبادئ حزبه وشعاراته المركزية بشأن العدالة الاجتماعية، وهي الشعارات نفسها التي أقنعته بالانتماء إلى حزب العمال، متحرّراً من الاعتبارات الدينية والعرقية والإيديولوجية والثقافية، علاوة على وجود منظومة حقوقية قوية، وتبقى القواعد الدستورية والقانونية التي سيزاول العمدة الجديد، على أساسها، صلاحياته، والبرامج المقترحة هي العوامل الحاسمة في مثل هذه المعارك السياسية.
يستدعي قصة نجاح صادق خان في لندن إلى البال نجاح الهولندي من أصل مغربي، أحمد بوطالب، والذي يشغل حالياً منصب عمدة مدينة روتردام العاصمة الاقتصادية لهولندا، والتي يتعايش فيها أزيد من 170 جنسية. وكما صادق خان، ينحدر بوطالب (مواليد عام 1971) من أصول اجتماعية فقيرة، فقد ولد وترعرع في قرية صغيرة في إقليم الناظور، شمال شرق المغرب، وكان والده إمام مسجد، قبل أن يهاجر سنة 1976 إلى هولندا، رفقة أسرته، بعد أن عجز عن تحمل مصاريف الدراسة، ولم يكن عمره قد تجاوز خمسة عشر عاماً. الإرادة الصلبة والرغبة القوية في فرض الذات، لدى بوطالب مكّنتاه من تحقيق نجاح لافت في حياته، خصوصاً في المجال السياسي، ولعب دوراً كبيراً في تهدئة النفوس، إثر اغتيال المخرج الهولندي ثيو فان كوخ سنة 2004، على يد مهاجر من أصل مغربي. وخاطب عمدة روتردام مغاربة هولندا آنذاك: من لا يريد المشاركة في قيم مجتمع مفتوح، مثل المجتمع الهولندي، عليه أن يتحمل النتائج، أو أن يحزم حقائبه ويرحل، عليكم أن تكفّوا عن الصراخ بأنكم ضحايا.
وكما حسم صادق خان اختياراته الأيديولوجية بانتسابه إلى حزب العمال الذي يتبنى قيم اليسار، فإن بوطالب هو الآخر، ومنذ اللحظات الأولى لتشكل وعيه السياسي، قرّر الانتماء إلى حزب العمال الهولندي اليساري، وتدرّج، على غرار صادق خان، في عدة مناصب، من مستشار صحافي لوزارة الإعلام الهولندية إلى مدير مؤسسة "فورم" لتعدد الثقافات، فكاتب دولة في الشؤون الاجتماعية، فعمدة روتردام. علما أن العمدة في هولندا تعينه المؤسسة الملكية، على غير عمدة لندن الذي عليه اجتياز امتحان صناديق الاقتراع. وسبق أن اختارت مجلة السفير الهولندية بوطالب شخصية العام سنة 2014، نظرا لدوره في تحسين صورة مدينة روتردام في المحافل الدولية، وقد نافسه في ذلك الاستطلاع رئيس الوزراء الهولندي الحالي مارك روتة والملكة السابقة بياتريكس.
يتدخّل بوطالب الذي يؤمن ويدافع عن مجتمع متسامح ديمقراطي يحمي الأقليات بشكل متواصل لتنوير الرأي العام الهولندي، والدفاع عن الأغلبية الصامتة من المهاجرين ذوي الأصول المسلمة، والتي تذهب ضحية سلوكات معزولة، فهو مثل صادق خان عمدة لكل سكان روتردام التي قال بشأنها: "في مدينة أحبّها، يقصد مدينة روتردام، أرفض أن ينام أي شخص في الشارع، حفاظاً على الكرامة الإنسانية".
ما يجب ملاحظته في قراءة النموذجين أن المحدّدات الهوياتية والدينية ليست حاسمة في تقرير مصير هذا الفرد أو ذاك، في مجتمعٍ كالمجتمع البريطاني أو الهولندي، حيث العلاقة بين المواطن والدولة تتأسس على الحق والواجب، تؤطرها نصوص قانونية وآليات مؤسساتية. وهذا هو جوهر الديمقراطية والمواطنة والحداثة والعقلانية، وتشكّل هذه العناصر مجتمعةً الجدار الأمني الذي يمكن أن يجنّبنا كوارث النعرات والاحتقانات الطائفية والمذهبية والعرقية، خصوصاً في سياق انهيار الدول وتفكك بنياتها وخدماتها. وفي ظل غياب نقط ارتكاز أساسية كفيلة بأن تؤمن طفرة حضارية وديمقراطية وثقافية وثورة اقتصادية واجتماعية، تضع مجتمعات المنطقة العربية على سكة الإصلاحات والمصالحات والانتقالات الكبرى، بما فيها إرساء مصالحة مع السياق التاريخي الذي ننتمي إليه، عوض أن تظل المنطقة سجينة ماضٍ مقدسٍ يكبح جماح الابتكار والاجتهاد، ويشل العقل والتفكير النقدي المنتج والفعال. وعوض أن تصبح رهينة أنماط تفكير وتأويل وتدبير، تلغي أي إمكانيةٍ للقطع مع الانغلاق والتخلف والانفصام والاستبداد بكل أنواعه، علماً أن الانتماء إلى الحداثة أصبح الآن اختياراً حتمياً وأساسياً ومصيرياً لا مفر منه. وهذا ما أكده المفكر التونسي، عبد المجيد الشرفي، في محاضرة ألقاها، أخيراً، في أكاديمية المملكة المغربية في الرباط، فقد اعتبر أن النمط الغربي أصبح كونياً، ووريث أنماط حضارية سابقة، آخرها الحضارة الإسلامية، حيث أخذ منها جميعها، لكنه تجاوزها، بالقطع مع توظيف الدين لإضفاء المشروعية على المؤسسات، ونزع القناع الديني الذي كان يحجب طبيعتها، فتحوّلت إلى مؤسساتٍ بشرية، وبالتالي، نسبية، وليست مطلقة. واعتبر الشرفي هذا التحول جوهر الحداثة، وبداية نشأة النظم الديمقراطية. وذهب، في المحاضرة نفسها، إلى اعتبار أن المجتمعات الإسلامية تجاوزت مرحلة قبول هذه الحداثة أو رفضها، فهو يرى أن علينا، إذا أردنا أن ننخرط في التاريخ، أن نتبنى هذه القيم بدون احتراز، معللاً ذلك بأن الحداثة، على الرغم من نشأتها في الغرب، فإنها صالحة لكل المجتمعات البشرية، وتمثل أفقاً يسعى إلى تحقيقه الناس، متى كانوا واعين بأنها جديرةٌ بأن تطبق في الواقع.
أمام هذا التحوّل النوعي في سيرورة أعرق تجربة ديمقراطية، تحسن الإشادة بالوجه الآخر للمملكة المتحدة، والتي في خضم الحملة لتنظيم استفتاء حول انسحابها أو بقائها في الاتحاد الأوروبي، وفي ظل تصاعد المد الشعبوي في عدد من دول أوروبا، وانتشار المشاعر المعادية للمهاجرين، والنزعة الوطنية المنغلقة، والمنطوية على نفسها، اختار الناخبون في عاصمتها التفاؤل والانفتاح، وانتصروا للتنوع والتسامح، وهو اختيار غير مسبوق، حيث تترجم نسبة 57% التي صوّتت لصالح خان انتصاراً لهذه الاختيارات.
وكان لافتاً أن منافس صادق خان، من حزب المحافظين، زاك غولد سميث، قاد حملة شرسة، واستخدم خطاباً قاسياً، ولم يتردد فيه في التهجم على صادق خان باعتباره مسلما، بل ألصق به جملة من الصفات، في محاولة لتشويه سمعته، وربطه بالحركات الإرهابية، غير أنه كانت لسكان لندن قراءة أخرى وتفسير مغاير، حيث غلبوا العقل والحكمة على المشاعر الساخنة والمتوترة المرتبطة بلحظة الانتخابات وسياقها، واختاروا الأمل بدل الخوف، والوحدة عوض الانقسام، على غير ما سعى إليه بشكل ملحوظ مرشح المحافظين.
كشف صادق خان، في أول خطاب له، عن توجهاته الاستراتيجية وقناعاته، فقد اعتبر أنه عمدة لجميع اللندنيين، وقال إن الخوف لا يجلب أمناً أكثر، بل هو المصدر الفعلي للضعف، وليست سياسة الخوف موضع ترحيب في مدينة لندن. وكان هذا هو رده المباشر والصريح على المخاوف التي راودت صفوف المحافظين، وأنصار الإسلاموفوبيا، علماً أنه تعرّض لحملة تشهيرٍ واتهاماتٍ مجّانيةٍ وغير مبرّرة، وجهت إليه، حتى من رئيس الوزراء المحافظ، ديفيد كاميرون.
وفي افتتاحيتها التي خصصتها، يوم 10 مايو/أيار الجاري، لفوز صادق خان بعمودية لندن، رأت صحيفة لوموند الفرنسية، الرصينة والمؤثرة، أن عمدة لندن الجديد يستحق التحية، لأنه تمكّن من تحويل المعيقات إلى إمكانيات للنجاح والانتصار، فصادق خان ابن سائق الحافلة، وتأسيساً على مساراته المهنية والسياسية والشخصية الغنية والمثيرة، بات يجسد الإسلام المتنور والمنفتح والمندمج في الثقافة وأنماط العيش الأوروبية، وهذا هو السلاح الأفضل والفعال لمواجهة التطرف الإسلامي، وما زاد في تعزيز نجومية صادق خان وقوته أنه أدى القسم في كاتدرائية ساوث ورك، وهي أحد المعاقل التاريخية للمسيحية في بريطانيا، في رسالة تحمل أكثر من دلالة إلى المتشددين والمتطرفين، على اختلاف مرجعياتهم وأهدافهم ومذاهبهم.
ويمكن الربط بين تألق خان وصعود نجمه وبين حزب العمال الذي ترشح تحت لوائه، فهذا الحزب، ونظراً لما أصبح يملكه من إمكانات فكريةٍ وسياسيةٍ وتراكمٍ وخبرةٍ وتماسكٍ تنظيمي، تمكّن من إرساء ثقافةٍ ومنظومة قيمٍ، تشكّل البوصلة التي يهتدي بها، في التعامل مع النخب المنحدرة من الجيل الثاني من المهاجرين، وعرف كيف تندمج نخبة مسلمة في صفوفه، خلافا للحزب الاشتراكي الفرنسي، مثلاً، الذي وإن خصص بعض المناصب لأبناء المهاجرين، ولا سيما العناصر التي يعتبرها واعدةً من الناحية السياسية، فإن المواقع المتقدمة في اللوائح الانتخابية للحزب تبقى بعيدة المنال بالنسبة لأبناء المهاجرين من أصول مختلفة. وهذا أمر يراه خبراء ومراقبون فرنسيون خطأ استراتيجياً مكلفاً تدفع ثمنه فرنسا.
لم تتأثر الكتلة الناخبة في لندن بالإسلاموفوبيا والحملات المعادية للمسلمين، خصوصاً في الأوساط اليمينية والمحافظة، والملاحظ أن صادق خان لم يستعمل عقيدته الدينية في الحملة الانتخابية، ولم يوظفها ورقةً لدغدغة عواطف الناخبين من أصول إسلامية، على الرغم من أنه لا يخفي انتماءه إلى هذه العقيدة، ولا يتردّد في الافتخار بها والاستئناس بمبادئها، بل انخرط في الاستحقاق الانتخابي التاريخي مستنداً إلى مبادئ حزبه وشعاراته المركزية بشأن العدالة الاجتماعية، وهي الشعارات نفسها التي أقنعته بالانتماء إلى حزب العمال، متحرّراً من الاعتبارات الدينية والعرقية والإيديولوجية والثقافية، علاوة على وجود منظومة حقوقية قوية، وتبقى القواعد الدستورية والقانونية التي سيزاول العمدة الجديد، على أساسها، صلاحياته، والبرامج المقترحة هي العوامل الحاسمة في مثل هذه المعارك السياسية.
يستدعي قصة نجاح صادق خان في لندن إلى البال نجاح الهولندي من أصل مغربي، أحمد بوطالب، والذي يشغل حالياً منصب عمدة مدينة روتردام العاصمة الاقتصادية لهولندا، والتي يتعايش فيها أزيد من 170 جنسية. وكما صادق خان، ينحدر بوطالب (مواليد عام 1971) من أصول اجتماعية فقيرة، فقد ولد وترعرع في قرية صغيرة في إقليم الناظور، شمال شرق المغرب، وكان والده إمام مسجد، قبل أن يهاجر سنة 1976 إلى هولندا، رفقة أسرته، بعد أن عجز عن تحمل مصاريف الدراسة، ولم يكن عمره قد تجاوز خمسة عشر عاماً. الإرادة الصلبة والرغبة القوية في فرض الذات، لدى بوطالب مكّنتاه من تحقيق نجاح لافت في حياته، خصوصاً في المجال السياسي، ولعب دوراً كبيراً في تهدئة النفوس، إثر اغتيال المخرج الهولندي ثيو فان كوخ سنة 2004، على يد مهاجر من أصل مغربي. وخاطب عمدة روتردام مغاربة هولندا آنذاك: من لا يريد المشاركة في قيم مجتمع مفتوح، مثل المجتمع الهولندي، عليه أن يتحمل النتائج، أو أن يحزم حقائبه ويرحل، عليكم أن تكفّوا عن الصراخ بأنكم ضحايا.
وكما حسم صادق خان اختياراته الأيديولوجية بانتسابه إلى حزب العمال الذي يتبنى قيم اليسار، فإن بوطالب هو الآخر، ومنذ اللحظات الأولى لتشكل وعيه السياسي، قرّر الانتماء إلى حزب العمال الهولندي اليساري، وتدرّج، على غرار صادق خان، في عدة مناصب، من مستشار صحافي لوزارة الإعلام الهولندية إلى مدير مؤسسة "فورم" لتعدد الثقافات، فكاتب دولة في الشؤون الاجتماعية، فعمدة روتردام. علما أن العمدة في هولندا تعينه المؤسسة الملكية، على غير عمدة لندن الذي عليه اجتياز امتحان صناديق الاقتراع. وسبق أن اختارت مجلة السفير الهولندية بوطالب شخصية العام سنة 2014، نظرا لدوره في تحسين صورة مدينة روتردام في المحافل الدولية، وقد نافسه في ذلك الاستطلاع رئيس الوزراء الهولندي الحالي مارك روتة والملكة السابقة بياتريكس.
يتدخّل بوطالب الذي يؤمن ويدافع عن مجتمع متسامح ديمقراطي يحمي الأقليات بشكل متواصل لتنوير الرأي العام الهولندي، والدفاع عن الأغلبية الصامتة من المهاجرين ذوي الأصول المسلمة، والتي تذهب ضحية سلوكات معزولة، فهو مثل صادق خان عمدة لكل سكان روتردام التي قال بشأنها: "في مدينة أحبّها، يقصد مدينة روتردام، أرفض أن ينام أي شخص في الشارع، حفاظاً على الكرامة الإنسانية".
ما يجب ملاحظته في قراءة النموذجين أن المحدّدات الهوياتية والدينية ليست حاسمة في تقرير مصير هذا الفرد أو ذاك، في مجتمعٍ كالمجتمع البريطاني أو الهولندي، حيث العلاقة بين المواطن والدولة تتأسس على الحق والواجب، تؤطرها نصوص قانونية وآليات مؤسساتية. وهذا هو جوهر الديمقراطية والمواطنة والحداثة والعقلانية، وتشكّل هذه العناصر مجتمعةً الجدار الأمني الذي يمكن أن يجنّبنا كوارث النعرات والاحتقانات الطائفية والمذهبية والعرقية، خصوصاً في سياق انهيار الدول وتفكك بنياتها وخدماتها. وفي ظل غياب نقط ارتكاز أساسية كفيلة بأن تؤمن طفرة حضارية وديمقراطية وثقافية وثورة اقتصادية واجتماعية، تضع مجتمعات المنطقة العربية على سكة الإصلاحات والمصالحات والانتقالات الكبرى، بما فيها إرساء مصالحة مع السياق التاريخي الذي ننتمي إليه، عوض أن تظل المنطقة سجينة ماضٍ مقدسٍ يكبح جماح الابتكار والاجتهاد، ويشل العقل والتفكير النقدي المنتج والفعال. وعوض أن تصبح رهينة أنماط تفكير وتأويل وتدبير، تلغي أي إمكانيةٍ للقطع مع الانغلاق والتخلف والانفصام والاستبداد بكل أنواعه، علماً أن الانتماء إلى الحداثة أصبح الآن اختياراً حتمياً وأساسياً ومصيرياً لا مفر منه. وهذا ما أكده المفكر التونسي، عبد المجيد الشرفي، في محاضرة ألقاها، أخيراً، في أكاديمية المملكة المغربية في الرباط، فقد اعتبر أن النمط الغربي أصبح كونياً، ووريث أنماط حضارية سابقة، آخرها الحضارة الإسلامية، حيث أخذ منها جميعها، لكنه تجاوزها، بالقطع مع توظيف الدين لإضفاء المشروعية على المؤسسات، ونزع القناع الديني الذي كان يحجب طبيعتها، فتحوّلت إلى مؤسساتٍ بشرية، وبالتالي، نسبية، وليست مطلقة. واعتبر الشرفي هذا التحول جوهر الحداثة، وبداية نشأة النظم الديمقراطية. وذهب، في المحاضرة نفسها، إلى اعتبار أن المجتمعات الإسلامية تجاوزت مرحلة قبول هذه الحداثة أو رفضها، فهو يرى أن علينا، إذا أردنا أن ننخرط في التاريخ، أن نتبنى هذه القيم بدون احتراز، معللاً ذلك بأن الحداثة، على الرغم من نشأتها في الغرب، فإنها صالحة لكل المجتمعات البشرية، وتمثل أفقاً يسعى إلى تحقيقه الناس، متى كانوا واعين بأنها جديرةٌ بأن تطبق في الواقع.