06 نوفمبر 2024
ألمانيا وقوة الاتحاد الأوروبي
جاء قرار الناخب البريطاني الخروج من الاتحاد الأوروبي بمثابة صدمةٍ للأوساط الأوروبية، إذ لم تكن، على ما يبدو، مستعدةً للتعامل مع خيار الخروج طوعاً من نادٍ يطمح عديدون إلى دخوله، على الرغم من زوال كثيرٍ من بريقه. وعلى الفور، سارعت ألمانيا إلى احتواء الموقف والحيلولة دون انفراط عقد الاتحاد، فدعت إلى تفعيل المادة 50 من اتفاقية لشبونة، فيما يشبه إجراءات الطرد، لمعاقبة بريطانيا على خيارها، ولمنع دولٍ أخرى من مجرد التفكير في السير على خطاها. وقد حصلت برلين في موقفها المتشدّد هذا على دعمٍ أميركي ملفت، إذ صرح الرئيس باراك أوباما أن بريطانيا ستأتي في ذيل قائمة الدول التي ستحظى بمعاملةٍ تجاريةٍ تفضيليةٍ مع الولايات المتحدة، بعد قرارها هجر الاتحاد الأوروبي. ما يعني تبلور موقف ألماني - أميركي مشترك على قاعدة منع انهيار الاتحاد الأوروبي، لأن ذلك سيؤدي، بحسب نخب واشنطن الليبرالية، إلى نتائج كارثية، ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب، إنما سياسياً بدرجة أكبر.
وتدرك الولايات المتحدة أهمية استمرار الاتحاد الأوروبي باعتباره الصيغة المثلى للحفاظ على الترتيبات السياسية والأمنية القائمة في أوروبا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وكونه يمثل الحل الأمثل للمشكلة الألمانية التي قضّت مضجع أوروبا قرناً، وورطت الولايات المتحدة في حربين عالميتين على أرضها. فمنذ الوحدة الألمانية عام 1871، والتي جاءت تتويجاً لهزيمة فرنسا واستسلامها أمام الإمارات الألمانية بقيادة بروسيا في حرب السبعين (1870)، وألمانيا تمثل التحدّي الأكبر لأمن القارة الأوروبية واستقراراها. قبل ذلك، لم تكن الإمارات الألمانية المبعثرة سوى منطقة عازلة بين القوى القارية الأوروبية الكبرى الثلاث (روسيا والامبراطورية النمساوية وفرنسا). لكن، بظهور ألمانيا الموحدة تغيرت الجغرافية السياسية للقارة الأوروبية إلى الأبد. وبمساحتها الكبيرة (بالمعايير الأوروبية)، وقاعدتها الصناعية الأكثر تطوراً في وادي الرور، وحجمها السكاني المعتبر، ونخبها الطموحة التي تتغذّى على نظريات تميز العرق الآري وتفرّد الروح الألمانية، بدأت ألمانيا الموحدة تبحث، في جوارها الأوروبي القلق، عن مجالات لتجسيد هذه الطاقات الصناعية والاقتصادية والسكانية الشابة والنوعية. من جانب آخر، ونتيجة افتقارها إلى عمق استراتيجي كبير، مقارنةً بفرنسا وروسيا مثلاً، كانت ألمانيا تشعر دوماً بحالةٍ من عدم الأمان، تحاول التخفيف منها، بالسعي الدائم والحثيث إلى منع قيام تحالفٍ بين القوتين البريتين الكبريين في أوروبا (فرنسا وروسيا)، وعندما كانت تنجح في ذلك، كانت تفشل في مقاومة إغراء مهاجمة فرنسا ومحاولة إخضاعها (حصل هذا ثلاث مرات في أقل من سبعين عاماً).
بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وتقسيمها، وجد الحلفاء (الأميركيون تحديداً) أن السبيل
الوحيد للحيلولة دون عودة ألمانيا إلى محاولة الهيمنة على أوروبا هو منعها من امتلاك استراتيجيةٍ قوميةٍ مستقلةٍ، وربطها بدلاً من ذلك، عسكرياً واقتصادياً، بأوروبا، وبفرنسا خصوصاً، لأن التوتر بين البلدين قاد إلى ثلاثة حروب كبرى أعوام 1870 و1914 و1939. وهكذا، تم دمج فرنسا وألمانيا عسكريا في حلف الناتو، وربطهما اقتصادياً من خلال المجموعة الاقتصادية الأوروبية التي تحولت لاحقا إلى الاتحاد الأوروبي.
طوّرت ألمانيا، على مدى عقود، قاعدةً صناعيةً تفوق قدرتها على استهلاك ما تنتجه من سلع وبضائع معمرة، تتمتع بأعلى مستويات الجودة، فكان بحثها المستمر عن أسواقٍ لتصريف منتجاتها سبيلها الوحيد للحفاظ على دوران عجلة إنتاجها الصناعي، وتحقيق نمو اقتصادي مستدام. ولتوفير هذه الأسواق، ومنعها من العودة إلى استخدام القوة، بحثاً عن مجالات حيوية لاستثمار طاقاتها وتصريفها، تم إنشاء السوق الأوروبية المشتركة. وتضم هذه السوق اليوم حوالى 500 مليون من البشر، يشترون البضائع الألمانية من دون جمارك، أو إجراءات حمائية أخرى للصناعات المحلية، وفوق ذلك كله، من دون الحاجة إلى القلق حول أسعار صرف العملات، مع وجود العملة الأوروبية الموحدة. من هذا الباب، يعد الحفاظ على منطقة اليورو أولويةً قصوى بالنسبة لألمانيا التي كانت، قبل أن تأخذ الصين مكانها قبل عامين، أكبر مصدّر للبضائع في العالم، حيث تصدر أكثر من نصف ناتجها المحلي، يذهب نصفه إلى أوروبا.
وبين عامي 1991 و2008، مثّل الاتحاد الأوروبي حجر الزاوية للاقتصاد الألماني، وأحد أهم أسباب تمكّنه من هضم عملية دمج ألمانيا الشرقية. وبحكم ثقلها المالي والاقتصادي في أوروبا، كانت ألمانيا قادرةً دوماً على فرض إرادتها داخل المفوضية الأوروبية، حتى إن بعضهم اتهمها باتخاذ الاتحاد الأوروبي ستاراً لهيمنتها الاقتصادية الفعلية على أوروبا. لكن سلاسة القيادة الألمانية لأوروبا بدأت تعاني صعوباتٍ، ابتداء من عام 2008، عندما أخذ الاتحاد الأوروبي يواجه سلسلة هزات اقتصادية وأمنية متلاحقة، انطلقت مع الأزمة المالية العالمية، ثم أزمة الديون اليونانية (وبدرجة أقل باقي دول جنوب أوروبا)، وصولاً إلى الأزمة الأوكرانية والمواجهة مع موسكو التي حاولت تالياً استخدام المسألة السورية لمعاقبة أوروبا على موقفها من ضم القرم وفرض عقوبات على روسيا، عبر إغراقها بموجاتٍ من اللاجئين السوريين الهاربين من جحيم القصف الروسي.
واقع الأمر أن ألمانيا أسهمت في نشوء بعض هذه الأزمات، إذ قاد نهمها لمزيدٍ من النفوذ الاقتصادي في أوروبا إلى نتائج عكس التي كانت ترجوها. ففي إطار سعيها إلى توسيع الأسواق لإنتاجها السلعي المتنامي حجماً وجودةً، قادت ألمانيا عملية توسيع الاتحاد الأوروبي شرقاً، من دون أن تدرك أنها بذلك إنما تزرع بذور تفكيكه. وقد شهدت أوروبا، في السنوات القليلة التالية، حركة هجرة عمالةٍ كبرى من الدول المنضمة حديثاً في الشرق، باتجاه غرب القارة، ما ساهم في صعود قوىً يمينيةٍ، استغلت استياء الطبقات الوسطى والفقيرة من استحواذ عمالة شرق أوروبا على فرص عملها، فأخذت تدعو إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي. وهكذا أخذت عملية التمدّد شرقاً تقود إلى الانحسار غرباً. وكان آخر أخطاء ألمانيا بهذا الاتجاه قيامها في ربيع عام 2014 بدور رئيس في إطاحة نظام الرئيس الأوكراني فيكتور يانكوفيتش الموالي لموسكو، لأنه رفض التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي (وهو أمر كان سيضيف إلى ألمانيا سوقاً حجمه 30 مليون نسمة).
قبل ذلك، كانت ألمانيا تثير حساسية معظم دول جنوب أوروبا، بسبب طريقة تعاملها مع أزمة
الديون اليونانية، إذ اعتبر كثيرون أن ألمانيا تسعى إلى معاقبة اليونان على سياساتٍ وضعتها برلين، وشجعت عليها. فعندما كان المال يعوز دول جنوب أوروبا لشراء البضائع الألمانية الفارهة، أقرضتها ألمانيا المال اللازم لذلك وبشروط ميسرة، إلى درجة أن هؤلاء لم يفعلوا شيئاً في العقدين الماضيين سوى اقتراض المال من ألمانيا لشراء البضائع الألمانية. وعندما عجزوا عن السداد، جاءت حكومة ميركل تطالبهم ببيع كل شيء، بما في ذلك التخلي لألمانيا عن حقهم السيادي، باتخاذ القرارات بشأن الضرائب وسياسات التقشف.
كل هذه العوامل، فضلاً عن التدفق غير المسبوق لموجات اللجوء من خارج القارة، أيقظت النزعات القومية التي لم تمت يوماً في أوروبا، وبدأت على الأثر كل حكومةٍ من حكومات دول الاتحاد الأوروبي تفكّر في سبل الخلاص الفردي، عبر خياراتٍ وسياساتٍ تحمي اقتصاداتها، وتضمن مصالح مواطنيها الذين أخذوا ينظرون إلى الاتحاد الأوروبي، وبروكسل تحديداً، باعتبارها مصدر تهديد مباشر لقوتهم اليومي.
خلال الفترة المقبلة سوف تراقب دول الاتحاد الأوروبي أداء بريطانيا، وقدرتها على التأقلم مع الوضع الجديد، وإذا تبين أنها تحقق نتائج إيجابية، فإن آخرين سوف يحذون بالتأكيد حذوها، ما يعني حتماً انهيار الاتحاد الأوروبي، والعودة إلى عهد الإجراءات الحمائية، بما في ذلك وضع القيود على انتقال السلع والبضائع والعمالة الوافدة من دول أوروبية أخرى، واستعادة القدرة على التحكم بالسياسات المالية والاقتصادية الوطنية، والعودة إلى صكّ العملة المحلية. هذا يعني، في المحصلة العودة إلى الظروف الاقتصادية والسياسية التي سادت أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، وقام الاتحاد الأوروبي بغرض التخلص منها ومنع تكرارها. فألمانيا قوةٌ صناعيةٌ واقتصادية كبرى، وكانت رفاهيتها تعتمد دوماً على استعداد الآخرين لفتح أسواقهم أمام بضائعها. بدون ذلك، تختنق ألمانيا، وتبدأ بالبحث عن خيارات أخرى. من هنا، يتأتى القلق الأميركي من احتمال تفكّك الاتحاد الأوروبي، وعودة ألمانيا إلى التفكير في امتلاك استراتيجية قومية مستقلة بعيداً عن النادي الليبرالي الغربي.
فوق ذلك، تخشى الولايات المتحدة أن يؤدي انهيار الاتحاد الأوروبي إلى التقارب بين أكبر قوتين بريتين في أوروبا، أي ألمانيا وروسيا على قاعدة الاعتمادية المتبادلة (interdependency)، بمعنى التكنولوجيا الألمانية في مقابل مصادر الطاقة الروسية، والاستثمارات الألمانية في مقابل اليد العاملة الروسية الرخيصة والمدربة. خلال القرن الماضي، تمحورت الاستراتيجية الأميركية حول منع أي قوة أوروبية (روسيا أو ألمانيا خصوصاً) من الهيمنة على القارة العجوز، لأن ذلك يمثل التهديد الاستراتيجي الأكبر لها ولمصالحها، وقد تدخلت الولايات المتحدة ثلاث مرات، خلال القرن الماضي، لمنع هذه الاحتمالية (مرتين ضد ألمانيا، ومرة خلال الحرب الباردة ضد روسيا).
من هذا الباب، تتأتى أهمية استمرار الاتحاد الأوروبي، أميركياً وأوروبياً أيضاً، باعتباره أداة لاحتواء طاقات ألمانيا الجبارة، وكبح جماح ميلها إلى الهيمنة العسكرية، في مقابل السماح لها بمقدارٍ من الهيمنة الاقتصادية. صحيح أن ألمانيا لم تتوفر لديها يوماً القدرة الكافية للسيطرة على أوروبا، لكنها لم تفقد يوماً الرغبة والسبب للقيام بذلك. وعبر الاتحاد الأوروبي، يمكن تهذيب هذه الرغبة وتحقيقها معاً، إنما بطرقٍ غير عسكرية.
وتدرك الولايات المتحدة أهمية استمرار الاتحاد الأوروبي باعتباره الصيغة المثلى للحفاظ على الترتيبات السياسية والأمنية القائمة في أوروبا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وكونه يمثل الحل الأمثل للمشكلة الألمانية التي قضّت مضجع أوروبا قرناً، وورطت الولايات المتحدة في حربين عالميتين على أرضها. فمنذ الوحدة الألمانية عام 1871، والتي جاءت تتويجاً لهزيمة فرنسا واستسلامها أمام الإمارات الألمانية بقيادة بروسيا في حرب السبعين (1870)، وألمانيا تمثل التحدّي الأكبر لأمن القارة الأوروبية واستقراراها. قبل ذلك، لم تكن الإمارات الألمانية المبعثرة سوى منطقة عازلة بين القوى القارية الأوروبية الكبرى الثلاث (روسيا والامبراطورية النمساوية وفرنسا). لكن، بظهور ألمانيا الموحدة تغيرت الجغرافية السياسية للقارة الأوروبية إلى الأبد. وبمساحتها الكبيرة (بالمعايير الأوروبية)، وقاعدتها الصناعية الأكثر تطوراً في وادي الرور، وحجمها السكاني المعتبر، ونخبها الطموحة التي تتغذّى على نظريات تميز العرق الآري وتفرّد الروح الألمانية، بدأت ألمانيا الموحدة تبحث، في جوارها الأوروبي القلق، عن مجالات لتجسيد هذه الطاقات الصناعية والاقتصادية والسكانية الشابة والنوعية. من جانب آخر، ونتيجة افتقارها إلى عمق استراتيجي كبير، مقارنةً بفرنسا وروسيا مثلاً، كانت ألمانيا تشعر دوماً بحالةٍ من عدم الأمان، تحاول التخفيف منها، بالسعي الدائم والحثيث إلى منع قيام تحالفٍ بين القوتين البريتين الكبريين في أوروبا (فرنسا وروسيا)، وعندما كانت تنجح في ذلك، كانت تفشل في مقاومة إغراء مهاجمة فرنسا ومحاولة إخضاعها (حصل هذا ثلاث مرات في أقل من سبعين عاماً).
بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وتقسيمها، وجد الحلفاء (الأميركيون تحديداً) أن السبيل
طوّرت ألمانيا، على مدى عقود، قاعدةً صناعيةً تفوق قدرتها على استهلاك ما تنتجه من سلع وبضائع معمرة، تتمتع بأعلى مستويات الجودة، فكان بحثها المستمر عن أسواقٍ لتصريف منتجاتها سبيلها الوحيد للحفاظ على دوران عجلة إنتاجها الصناعي، وتحقيق نمو اقتصادي مستدام. ولتوفير هذه الأسواق، ومنعها من العودة إلى استخدام القوة، بحثاً عن مجالات حيوية لاستثمار طاقاتها وتصريفها، تم إنشاء السوق الأوروبية المشتركة. وتضم هذه السوق اليوم حوالى 500 مليون من البشر، يشترون البضائع الألمانية من دون جمارك، أو إجراءات حمائية أخرى للصناعات المحلية، وفوق ذلك كله، من دون الحاجة إلى القلق حول أسعار صرف العملات، مع وجود العملة الأوروبية الموحدة. من هذا الباب، يعد الحفاظ على منطقة اليورو أولويةً قصوى بالنسبة لألمانيا التي كانت، قبل أن تأخذ الصين مكانها قبل عامين، أكبر مصدّر للبضائع في العالم، حيث تصدر أكثر من نصف ناتجها المحلي، يذهب نصفه إلى أوروبا.
وبين عامي 1991 و2008، مثّل الاتحاد الأوروبي حجر الزاوية للاقتصاد الألماني، وأحد أهم أسباب تمكّنه من هضم عملية دمج ألمانيا الشرقية. وبحكم ثقلها المالي والاقتصادي في أوروبا، كانت ألمانيا قادرةً دوماً على فرض إرادتها داخل المفوضية الأوروبية، حتى إن بعضهم اتهمها باتخاذ الاتحاد الأوروبي ستاراً لهيمنتها الاقتصادية الفعلية على أوروبا. لكن سلاسة القيادة الألمانية لأوروبا بدأت تعاني صعوباتٍ، ابتداء من عام 2008، عندما أخذ الاتحاد الأوروبي يواجه سلسلة هزات اقتصادية وأمنية متلاحقة، انطلقت مع الأزمة المالية العالمية، ثم أزمة الديون اليونانية (وبدرجة أقل باقي دول جنوب أوروبا)، وصولاً إلى الأزمة الأوكرانية والمواجهة مع موسكو التي حاولت تالياً استخدام المسألة السورية لمعاقبة أوروبا على موقفها من ضم القرم وفرض عقوبات على روسيا، عبر إغراقها بموجاتٍ من اللاجئين السوريين الهاربين من جحيم القصف الروسي.
واقع الأمر أن ألمانيا أسهمت في نشوء بعض هذه الأزمات، إذ قاد نهمها لمزيدٍ من النفوذ الاقتصادي في أوروبا إلى نتائج عكس التي كانت ترجوها. ففي إطار سعيها إلى توسيع الأسواق لإنتاجها السلعي المتنامي حجماً وجودةً، قادت ألمانيا عملية توسيع الاتحاد الأوروبي شرقاً، من دون أن تدرك أنها بذلك إنما تزرع بذور تفكيكه. وقد شهدت أوروبا، في السنوات القليلة التالية، حركة هجرة عمالةٍ كبرى من الدول المنضمة حديثاً في الشرق، باتجاه غرب القارة، ما ساهم في صعود قوىً يمينيةٍ، استغلت استياء الطبقات الوسطى والفقيرة من استحواذ عمالة شرق أوروبا على فرص عملها، فأخذت تدعو إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي. وهكذا أخذت عملية التمدّد شرقاً تقود إلى الانحسار غرباً. وكان آخر أخطاء ألمانيا بهذا الاتجاه قيامها في ربيع عام 2014 بدور رئيس في إطاحة نظام الرئيس الأوكراني فيكتور يانكوفيتش الموالي لموسكو، لأنه رفض التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي (وهو أمر كان سيضيف إلى ألمانيا سوقاً حجمه 30 مليون نسمة).
قبل ذلك، كانت ألمانيا تثير حساسية معظم دول جنوب أوروبا، بسبب طريقة تعاملها مع أزمة
كل هذه العوامل، فضلاً عن التدفق غير المسبوق لموجات اللجوء من خارج القارة، أيقظت النزعات القومية التي لم تمت يوماً في أوروبا، وبدأت على الأثر كل حكومةٍ من حكومات دول الاتحاد الأوروبي تفكّر في سبل الخلاص الفردي، عبر خياراتٍ وسياساتٍ تحمي اقتصاداتها، وتضمن مصالح مواطنيها الذين أخذوا ينظرون إلى الاتحاد الأوروبي، وبروكسل تحديداً، باعتبارها مصدر تهديد مباشر لقوتهم اليومي.
خلال الفترة المقبلة سوف تراقب دول الاتحاد الأوروبي أداء بريطانيا، وقدرتها على التأقلم مع الوضع الجديد، وإذا تبين أنها تحقق نتائج إيجابية، فإن آخرين سوف يحذون بالتأكيد حذوها، ما يعني حتماً انهيار الاتحاد الأوروبي، والعودة إلى عهد الإجراءات الحمائية، بما في ذلك وضع القيود على انتقال السلع والبضائع والعمالة الوافدة من دول أوروبية أخرى، واستعادة القدرة على التحكم بالسياسات المالية والاقتصادية الوطنية، والعودة إلى صكّ العملة المحلية. هذا يعني، في المحصلة العودة إلى الظروف الاقتصادية والسياسية التي سادت أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، وقام الاتحاد الأوروبي بغرض التخلص منها ومنع تكرارها. فألمانيا قوةٌ صناعيةٌ واقتصادية كبرى، وكانت رفاهيتها تعتمد دوماً على استعداد الآخرين لفتح أسواقهم أمام بضائعها. بدون ذلك، تختنق ألمانيا، وتبدأ بالبحث عن خيارات أخرى. من هنا، يتأتى القلق الأميركي من احتمال تفكّك الاتحاد الأوروبي، وعودة ألمانيا إلى التفكير في امتلاك استراتيجية قومية مستقلة بعيداً عن النادي الليبرالي الغربي.
فوق ذلك، تخشى الولايات المتحدة أن يؤدي انهيار الاتحاد الأوروبي إلى التقارب بين أكبر قوتين بريتين في أوروبا، أي ألمانيا وروسيا على قاعدة الاعتمادية المتبادلة (interdependency)، بمعنى التكنولوجيا الألمانية في مقابل مصادر الطاقة الروسية، والاستثمارات الألمانية في مقابل اليد العاملة الروسية الرخيصة والمدربة. خلال القرن الماضي، تمحورت الاستراتيجية الأميركية حول منع أي قوة أوروبية (روسيا أو ألمانيا خصوصاً) من الهيمنة على القارة العجوز، لأن ذلك يمثل التهديد الاستراتيجي الأكبر لها ولمصالحها، وقد تدخلت الولايات المتحدة ثلاث مرات، خلال القرن الماضي، لمنع هذه الاحتمالية (مرتين ضد ألمانيا، ومرة خلال الحرب الباردة ضد روسيا).
من هذا الباب، تتأتى أهمية استمرار الاتحاد الأوروبي، أميركياً وأوروبياً أيضاً، باعتباره أداة لاحتواء طاقات ألمانيا الجبارة، وكبح جماح ميلها إلى الهيمنة العسكرية، في مقابل السماح لها بمقدارٍ من الهيمنة الاقتصادية. صحيح أن ألمانيا لم تتوفر لديها يوماً القدرة الكافية للسيطرة على أوروبا، لكنها لم تفقد يوماً الرغبة والسبب للقيام بذلك. وعبر الاتحاد الأوروبي، يمكن تهذيب هذه الرغبة وتحقيقها معاً، إنما بطرقٍ غير عسكرية.