31 أكتوبر 2024
ميشيل روكار... الثقافة أساس ممارسة السلطة
شكّل الوزير الأول الفرنسي السابق ميشيل روكار الذي رحل قبل أيام، بحكم مساره السياسي الغني وخصاله ومبادئه وقناعاته الفكرية، مرجعاً مثالياً في مجتمع اليسار الفرنسي. وجاء رحيله تراجيديا أخلاقية للمشهد الحزبي والسياسي، خصوصاً في ظل التراجعات المستمرة والانكسارات الكثيرة والصراعات المدمرة التي بات يعرفها الحزب الاشتراكي الفرنسي.
بعد ذيوع خبر وفاته، سارع الفاعلون السياسيون في فرنسا إلى الإشادة بالرجل وتعداد خصاله ومناقبه، من اليسار واليمين. أشاد رئيس الجمهورية، فرانسوا هولاند، أشاد بالرجل الذي استطاع أن يصالح بين اليوتوبيا والحداثة. وقال عنه الوزير الأول الحالي، مانويل فالس، إنه كان بمثابة أب له في السياسة، وكان صاحب رؤية استشرافية. ووصفه وزير الدفاع السابق، بيار شوفنمان، بالمناضل الصادق الذي كان يؤمن بقوة الأفكار، فيما وصفه زعيم جبهة اليسار، جون لوك ملانشو، بالمتنور الذي كانت الحياة تمثل عنده درساً.
وعلى غرار قادة اليسار ومسؤوليه، أغدق زعماء اليمين، على اختلاف حساسياته، المديح وجميل الأوصاف على ميشيل روكار، بما في ذلك اليمين المتطرّف، حيث وجهت زعيمة الجبهة الوطنية، ماري لوبين، رسالة تعزية إلى أقربائه، أشادت فيها بقناعاته، كما أقيمت سلسلة من التظاهرات، لتكريمه بما يليق بالمواقف التي عبر عنها، والقيم التي دافع من أجلها، خصوصاً وأنه يعدّ، وبدون شك، أحد المساهمين الأساسيين الذين لعبوا دوراً حيوياً في التجديد الثقافي لليسار، بما يجعل منه يساراً متحرّرا من أصفاد الماركسية، ليصبح يساراً إصلاحياً، يعرف كيف يضبط إيقاع المشهد السياسي أكثر منه يسار منذور للتوجيه والتحكّم، يسار مجتمعي أكثر منه يسار للدولة، ينأى بنفسه عن الأوهام الثورية، ليتصالح مع الواقع باعتماد رؤية واقعية. وهذا ما جعل فترة تولي روكار منصب الوزير الأول تتميّز بإصلاحات اقتصادية واجتماعية ومالية، فالسياسة عنده كانت ملازمةً للمعنى، ورديفاً للانفلات من دكتاتورية اللحظة، والعمل بدون كلل على فهم الحاضر من أجل تفكير جيد في المستقبل والمشروع المجتمعي المنشود.
تساءل روكار، مرّة، هل يجب أن تكون السياسة ميداناً للكذب؟ وفي تساؤله هذا نقد سافر ولاذع للطبقة السياسية التي جبلت على النفاق، ولم تعترف به وبرجالات من عياره، أمثال الجنرال ديغول ومانديس فراس وبير موروا، حيث كان يصعب على هذه الطبقة أن تقبل أن يكون هؤلاء القادة من طينةٍ خاصةٍ، أو يشكلون عالماً قائماً بذاته، فروكار وسيراً على منوال القادة الكبار، أقام جسراً مباشراً مع الشعب، أي علاقات فوق حزبية، الشيء الذي أوقد نار الضغينة في نفوس عدد من الفاعلين السياسيين، لأنهم رأوا في ذلك اكتساحاً للرجل، وانتصاراً جلياً له، وسطوعاً لنجمه وكاريزميته. وعلى الرغم من أن الأفكار والقيم التي كان يؤمن بها جعلت منه أقلية داخل اليسار، فإنه لم ينحن للعاصفة، بل ظل حاملاً لواء التجديد والانفتاح والتغيير والإصلاح، فقد شكل نقد ما يوصف بأنه نفاق اليسار مكوناً ثابتاً في فكر روكار، من منطلق أن اليسار الحديث أخلاقي.
كان مع تحرير المستعمرات من السيطرة الكولونيالية، وندّد بحرب الجزائر وبمختلف أشكال
القمع والتنكيل التي مورست على ثوار جبهة التحرير الوطني، وكانت تلك المرحلة مفصليةً ومحدّدةً في بلورة قناعاته السياسية والإيديولوجية. كما كان وراء إحلال السلام والأمن في كلدونيا الجديدة، وكان ضد المركزية المفرطة للعاصمة باريس، ودافع عن تحرير المجتمع المدني الذي خنقته طبقةٌ سياسيةٌ صماء، ومعزولة عن الشعب، فهو كان يؤمن بضرورة تحويل المجتمع إلى فاعل سياسي، وأن تكون السياسة من أجل الجميع. وهذا ما جعله يحظى بلقب المؤسس الفعلي والشرعي لليسار الثاني المختزل في مفهوم الاشتراكية الديمقراطية التي لم يستسغها الرئيس الراحل، فرنسوا متيران. وعندما تولى قيادة الحزب الاشتراكي، سعى إلى إحداث رجّةٍ فكريةٍ وتنظيميةٍ عميقة، وعمل على مصالحة اليسار مع الاقتصاد والتحلي بالواقعية، لكنه سرعان ما قدّم استقالته، وكان هذا القرار الأسوأ في حياته، لآن ذلك كان يعني نهاية آماله وأحلامه السياسية.
اللافت في المسار السياسي والحزبي لميشيل روكار الذي يعتبر امتداداً طبيعياً لمانديس فرانس أن الرجل كان يكره فرانسوا متيران، فبسبب الأخير، عانى سياسياً، وتسمّمت حياته بشكل عام، فهو المسؤول عن الإساءة لسمعته لدى الصحافيين، كما كان يخصص له حصصاً من الإهانة كل أسبوع، وتأسيساً على هذه العلاقة المتوترة بين الرجلين، لم يتردّد روكار في تحميل مسؤولية آلام اليسار وإخفاقاته لمتيران، فهو الذي دفعه دفعاً إلى الفشل والهشاشة والضعف. والأفظع بالنسبة لروكار رؤيته ميتران يعود إلى قصر الإليزيه، مجسّداً في فرانسوا هولاند، الرئيس الفرنسي الحالي الذي يعتبره روكار ابناً لمتيران، وأحد الخريجين المتفوّقين من مدرسته التي من تعاليمها الأساسية "كل ما ليس له دلالة وترجمة انتخابية ليس له أي أهمية. يجب الاهتمام فقط بالقريب والمباشر وتدبير اليومي"ـ فهولاند مثل متيران، نسي الاهتمام بالاقتصاد، لأنه ينتمي إلى سياسةٍ عاجزةٍ عن التمييز بين المهم وغير المهم، وهذا ما جعل روكار يمنح نقطة سيئة لهولاند. وفي نظره، فإن متيران يمثل الأب الروحي لهذا الجيل من الاشتراكيين الحاكمين والمسؤولين السياسيين الذين يتنازلون عن كل شيء، إرضاءً لنزوات وسائل الإعلام.
وكان لميشيل روكار مفهوم نبيل للسلطة، فالطموح وممارسة السلطة ينهضان على أساس قوة الأفكار والمعرفة والثقافة وعدالتها، وليس على أساس توظيف الأفكار، لخدمة استراتيجية وحيدة هي الفوز بالسلطة.
المؤكد أن بصمات ميشيل روكار في الحقل السياسي الفرنسي والسياسة العمومية ستظل راسخة وعصية على الاندثار، فالحاملون لأفكاره وقيمه والحالمون بمشاريعه لن يرضخوا لنزوات السياسيين وطموحاتهم الضيقة، وإن كانوا يشعرون بخيبة أمل وبإحباط كبير، لكون ما دافع عنه روكار أصبح عرضةً للتدمير والإتلاف.
بعد ذيوع خبر وفاته، سارع الفاعلون السياسيون في فرنسا إلى الإشادة بالرجل وتعداد خصاله ومناقبه، من اليسار واليمين. أشاد رئيس الجمهورية، فرانسوا هولاند، أشاد بالرجل الذي استطاع أن يصالح بين اليوتوبيا والحداثة. وقال عنه الوزير الأول الحالي، مانويل فالس، إنه كان بمثابة أب له في السياسة، وكان صاحب رؤية استشرافية. ووصفه وزير الدفاع السابق، بيار شوفنمان، بالمناضل الصادق الذي كان يؤمن بقوة الأفكار، فيما وصفه زعيم جبهة اليسار، جون لوك ملانشو، بالمتنور الذي كانت الحياة تمثل عنده درساً.
وعلى غرار قادة اليسار ومسؤوليه، أغدق زعماء اليمين، على اختلاف حساسياته، المديح وجميل الأوصاف على ميشيل روكار، بما في ذلك اليمين المتطرّف، حيث وجهت زعيمة الجبهة الوطنية، ماري لوبين، رسالة تعزية إلى أقربائه، أشادت فيها بقناعاته، كما أقيمت سلسلة من التظاهرات، لتكريمه بما يليق بالمواقف التي عبر عنها، والقيم التي دافع من أجلها، خصوصاً وأنه يعدّ، وبدون شك، أحد المساهمين الأساسيين الذين لعبوا دوراً حيوياً في التجديد الثقافي لليسار، بما يجعل منه يساراً متحرّرا من أصفاد الماركسية، ليصبح يساراً إصلاحياً، يعرف كيف يضبط إيقاع المشهد السياسي أكثر منه يسار منذور للتوجيه والتحكّم، يسار مجتمعي أكثر منه يسار للدولة، ينأى بنفسه عن الأوهام الثورية، ليتصالح مع الواقع باعتماد رؤية واقعية. وهذا ما جعل فترة تولي روكار منصب الوزير الأول تتميّز بإصلاحات اقتصادية واجتماعية ومالية، فالسياسة عنده كانت ملازمةً للمعنى، ورديفاً للانفلات من دكتاتورية اللحظة، والعمل بدون كلل على فهم الحاضر من أجل تفكير جيد في المستقبل والمشروع المجتمعي المنشود.
تساءل روكار، مرّة، هل يجب أن تكون السياسة ميداناً للكذب؟ وفي تساؤله هذا نقد سافر ولاذع للطبقة السياسية التي جبلت على النفاق، ولم تعترف به وبرجالات من عياره، أمثال الجنرال ديغول ومانديس فراس وبير موروا، حيث كان يصعب على هذه الطبقة أن تقبل أن يكون هؤلاء القادة من طينةٍ خاصةٍ، أو يشكلون عالماً قائماً بذاته، فروكار وسيراً على منوال القادة الكبار، أقام جسراً مباشراً مع الشعب، أي علاقات فوق حزبية، الشيء الذي أوقد نار الضغينة في نفوس عدد من الفاعلين السياسيين، لأنهم رأوا في ذلك اكتساحاً للرجل، وانتصاراً جلياً له، وسطوعاً لنجمه وكاريزميته. وعلى الرغم من أن الأفكار والقيم التي كان يؤمن بها جعلت منه أقلية داخل اليسار، فإنه لم ينحن للعاصفة، بل ظل حاملاً لواء التجديد والانفتاح والتغيير والإصلاح، فقد شكل نقد ما يوصف بأنه نفاق اليسار مكوناً ثابتاً في فكر روكار، من منطلق أن اليسار الحديث أخلاقي.
كان مع تحرير المستعمرات من السيطرة الكولونيالية، وندّد بحرب الجزائر وبمختلف أشكال
اللافت في المسار السياسي والحزبي لميشيل روكار الذي يعتبر امتداداً طبيعياً لمانديس فرانس أن الرجل كان يكره فرانسوا متيران، فبسبب الأخير، عانى سياسياً، وتسمّمت حياته بشكل عام، فهو المسؤول عن الإساءة لسمعته لدى الصحافيين، كما كان يخصص له حصصاً من الإهانة كل أسبوع، وتأسيساً على هذه العلاقة المتوترة بين الرجلين، لم يتردّد روكار في تحميل مسؤولية آلام اليسار وإخفاقاته لمتيران، فهو الذي دفعه دفعاً إلى الفشل والهشاشة والضعف. والأفظع بالنسبة لروكار رؤيته ميتران يعود إلى قصر الإليزيه، مجسّداً في فرانسوا هولاند، الرئيس الفرنسي الحالي الذي يعتبره روكار ابناً لمتيران، وأحد الخريجين المتفوّقين من مدرسته التي من تعاليمها الأساسية "كل ما ليس له دلالة وترجمة انتخابية ليس له أي أهمية. يجب الاهتمام فقط بالقريب والمباشر وتدبير اليومي"ـ فهولاند مثل متيران، نسي الاهتمام بالاقتصاد، لأنه ينتمي إلى سياسةٍ عاجزةٍ عن التمييز بين المهم وغير المهم، وهذا ما جعل روكار يمنح نقطة سيئة لهولاند. وفي نظره، فإن متيران يمثل الأب الروحي لهذا الجيل من الاشتراكيين الحاكمين والمسؤولين السياسيين الذين يتنازلون عن كل شيء، إرضاءً لنزوات وسائل الإعلام.
وكان لميشيل روكار مفهوم نبيل للسلطة، فالطموح وممارسة السلطة ينهضان على أساس قوة الأفكار والمعرفة والثقافة وعدالتها، وليس على أساس توظيف الأفكار، لخدمة استراتيجية وحيدة هي الفوز بالسلطة.
المؤكد أن بصمات ميشيل روكار في الحقل السياسي الفرنسي والسياسة العمومية ستظل راسخة وعصية على الاندثار، فالحاملون لأفكاره وقيمه والحالمون بمشاريعه لن يرضخوا لنزوات السياسيين وطموحاتهم الضيقة، وإن كانوا يشعرون بخيبة أمل وبإحباط كبير، لكون ما دافع عنه روكار أصبح عرضةً للتدمير والإتلاف.