27 أكتوبر 2024
مصر... تأميم المنابر وخدمة التطرّف
أعلنت وزارة الأوقاف المصرية، أخيراً،على لسان وكيلها لشؤون المساجد، الشيخ جابر طايع، عن تقديم وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة مقترحاً، بشأن إلزام جميع خطباء المساجد في مصر بخطبة مكتوبةٍ موحَّدة، يقرؤها كل الخطباء فوق جميع المنابر، في آنٍ معاً. وأوضح طايع أنه سيتم توزيع الخطبة الموحّدة على الدعاة من خلال موقع الوزارة، مؤكداً توقيع إجراءاتٍ جزائيةٍ تجاه الخطباء المخالفين لنصّ الخطبة وفقاً للقرار.
يتضمّن المقترح نقاطاً سلبية عديدة، كما أنه سيؤدي إلى عواقب وتبعات عديدة على المدى الطويل، فهو أولاً يطعن بقوة في كفاءة دعاة وزارة الأوقاف وخطبائها، وجدارتهم للقيام بمهمتهم، وأداء رسالتهم الدعوية، كما أنه يعني تلقائياً تفريغ وظيفة الكليات الدعوية في الأزهر من مضمونها، كونها ستنحصر في تفريخ دعاة "آليين" بلا روح، علاوة على فرضه وصايةً فوقيةً بالغة الخشونة على الدعاة، وتحويلهم إلى مجرّد "آلات حاكية" صمّاء، لا تجيد سوى النقل والتلقين، بالإضافة إلى أنه يقتل فيهم ملكة الاجتهاد والإبداع، كونه يساوي بين الدعاة المتميّزين المجتهدين الذين يعملون على تطوير قدراتهم، والدعاة الموظفين الروتينيين الذين لا يرون في الخطابة إلا مجرّد وظيفة للكسب.
ومن جهة أخرى، يُغفل المقترح الفروق المناطقية والاجتماعية التي تختلف من مكان إلى آخر، والتي تنعكس على اختلاف موضوع الخطبة، حسب اختلاف المكان، فما يتناسب مع الريف لا يتناسب مع الحضر، وما يتناسب مع الأحياء الراقية لا يتناسب بالضرورة مع الأحياء البسيطة، فضلاً عن إصابة المُصلّين في كل الأحوال بالملل والنفور من تلك الخُطب المملاة على الإمام مسبقاً.
وقد تحقق السلطة بعض أهدافها على المدى القريب، من تلك الحملة العاتية التي تنتهجها من أجل "تأميم" المساجد، إلا أن آثاراً خطيرة وعواقب وخيمة ستكون لها، وعلى المدييْن المتوسط و الطويل.
بدايةً، يتعيّن القول إن احتكار الدولة الخطاب الديني، وتوجيهه في اتجاه أحادي يتنافى بالأساس مع طبيعة التراث الإسلامي القائم على تعدّد المدارس الفقهية، وطبيعة العلوم الشرعية القابلة للأخذ والردّ، طبقاً لاختلاف تأويل النصوص الدينية. كما أن عملية "تأميم" المساجد تعني توريطاً صريحاً للمؤسسة الدينية الرسمية، في الصراع السياسي الجاري، وهو ما قد يؤدي إلى إسباغ شرعية دينية على المسلك السياسي للسلطة تجاه خصومها، ويُفنّد مزاعم المُتطرّفين بأنها حملة تجاه الدين، إلا أن الزّج بالمؤسسة الدينية الرسمية المصرية على هذا النحو يجعلها طرفاً في الأزمة السياسية في البلاد، وسيؤدي لاحقاً إلى إسقاط هيبتها في أعين العامة، حيث سيبدو خطابها كأنه مجرّد بوق للسلطة يردّد رغباتها، ويدور في فلكها، ولا يقول إلا ما يرضيها، وهذا يعني ضرباً لمصداقيتها في الصميم.
وهو ما سيدفع الناس إلى الإعراض عن خطابها، والبحث عن خطابٍ دينيٍّ بديل، يتمتع بقدر من المصداقية، ويكون على مسافةٍ ما من السلطة، وهو ما سيفسح المجال لظهور خطاب آخر، بعيد عن الأطر التقليدية، وسيكون غالباً على قدر من التشدّد والانغلاق، لأن التطرّف لا ينتشر ولا ينتعش إلا في مناخٍ قمعيٍّ ذي طابع إقصائي استئصالي.
تأتي هذه الخطوة حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الخطوات الخشنة التي اتخذتها وزارة الأوقاف منذ 3 يوليو/ تموز 2013، بغرض "تأميم" المنابر والمساجد وإحكام الدولة لقبضتها على المجال الديني وإخضاعه لهيمنتها ومصادرته بصورة كلية.
كانت البداية بقرار وزير الأوقاف في أغسطس/ آب 2013، منع إقامة صلاة الجمعة في الزوايا والمساجد الصغيرة، ثم جاء القرار 64 لوزير الأوقاف، في مارس/ آب 2014 بضم جميع المساجد والزوايا إلى الوزارة. وفي يونيو/ حزيران 2014، أصدر الرئيس المؤقت، عدلي منصور، القانون 51 الخاص بتنظيم الخطابة والدروس الدينية في المساجد، الذي قصر ممارسة العمل بالدعوة على خريجي الأزهر ومراحله التعليمية والمعاهد التابعة للأوقاف، ومنع سواهم من مزاولة الخطابة. وفي خطوةٍ شديدة الخشونة، منح القانون نفسه مفتشي الأوقاف سلطة مأمور الضبط القضائي في تنفيذ العقوبات التي نصّ عليها، والتي تصل إلى حد الحبس والغرامة، وقد سمح هذا القانون لوزارة الأوقاف باستبعاد نحو 12 ألفاً من الدعاة والخطباء من العمل بالدعوة واعتلاء المنابر.
كما منحت وزارة الأوقاف لنفسها الحقّ في تحديد موضوع خطبة الجمعة وأفكارها الرئيسية في كل بقاع مصر، عبر صدور ميثاق الشرف الدعوي الصادر في يونيو/ حزيران 2014، والذي نص على عدم جواز استغلال المساجد من أجل تحقيق منافع سياسية أو حزبية أو انتخابية. وامتدت تلك الإجراءات إلى كياناتٍ أخرى، اتخذت موقفاً محايداً، ونأت بنفسها عن الخوض في الأزمة الطاحنة بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين، مثل "الجمعية الشرعية" التي قررّت وزارة الأوقاف ضمّ مساجدها وإخضاعها لسيطرتها، وتعيين خطباء تابعين للوزارة بها، وحتى "الدعوة السلفية" لم تسلم من تلك الإجراءات، على الرغم من أن ذراعها السياسي "حزب النور" كان شريكاً أساسياً في ترتيبات ما بعد "3 يوليو".
تقول محصّلة تلك الخطوات، بوضوح، إن المسؤولين القائمين على شؤون الدعوة في مصر، يسعون إلى تملّق السلطة، عبر مزايدتهم الفجّة على المؤسسة الأمنية، بسعيهم الحثيث إلى تأميم المجال الديني، كما تقول إنهم لا يجيدون التفكير والتعاطي مع الأمور إلا بطريقة إقصائيةٍ استئصاليةٍ بالغة الخشونة، تتناسب مع طبيعة رجال الأمن، ولا تتناسب مع سمت رجال الوعظ والدعوة التي تقوم بطبيعتها على الأخذ والردّ، والنصيحة بالحكمة والموعظة الحسنة، ومقارعة الحجّة بالحجّة، ولا تقوم على المنع والترهيب والقمع.
يخبرنا التاريخ بوجود علاقةٍ طرديةٍ وثيقة، بين تأميم الدولة المجال الديني وانتشار التطرّف، فعندما تقوم السلطة بتأميم المنابر ومصادرة خطاب المؤسسة الدينية الرسمية لصالحها، ينفتح الباب واسعاً أمام مجالٍ دينيٍ موازٍ، يجنح خطابه نحو التشدّد والتطرّف، لا تنبع مقدرته على الانتشار من مصداقيته أو رصانته، بقدر ما تنبع من فقدان الناس الثقة في مصداقية الخطاب الديني "الدولتي"، فتغليب العقلية الأمنية، واستخدام الأساليب الاستئصالية في الساحة الدعوية، هو أفضل وقودٍ لنشر التطرّف، وسنكون، عندئذٍ، كالدبّة التي قتلت صاحبها، حينما أرادت حمايته من بعوضةٍ، فقذفته بحجرٍ أودى بحياته.
يتضمّن المقترح نقاطاً سلبية عديدة، كما أنه سيؤدي إلى عواقب وتبعات عديدة على المدى الطويل، فهو أولاً يطعن بقوة في كفاءة دعاة وزارة الأوقاف وخطبائها، وجدارتهم للقيام بمهمتهم، وأداء رسالتهم الدعوية، كما أنه يعني تلقائياً تفريغ وظيفة الكليات الدعوية في الأزهر من مضمونها، كونها ستنحصر في تفريخ دعاة "آليين" بلا روح، علاوة على فرضه وصايةً فوقيةً بالغة الخشونة على الدعاة، وتحويلهم إلى مجرّد "آلات حاكية" صمّاء، لا تجيد سوى النقل والتلقين، بالإضافة إلى أنه يقتل فيهم ملكة الاجتهاد والإبداع، كونه يساوي بين الدعاة المتميّزين المجتهدين الذين يعملون على تطوير قدراتهم، والدعاة الموظفين الروتينيين الذين لا يرون في الخطابة إلا مجرّد وظيفة للكسب.
ومن جهة أخرى، يُغفل المقترح الفروق المناطقية والاجتماعية التي تختلف من مكان إلى آخر، والتي تنعكس على اختلاف موضوع الخطبة، حسب اختلاف المكان، فما يتناسب مع الريف لا يتناسب مع الحضر، وما يتناسب مع الأحياء الراقية لا يتناسب بالضرورة مع الأحياء البسيطة، فضلاً عن إصابة المُصلّين في كل الأحوال بالملل والنفور من تلك الخُطب المملاة على الإمام مسبقاً.
وقد تحقق السلطة بعض أهدافها على المدى القريب، من تلك الحملة العاتية التي تنتهجها من أجل "تأميم" المساجد، إلا أن آثاراً خطيرة وعواقب وخيمة ستكون لها، وعلى المدييْن المتوسط و الطويل.
بدايةً، يتعيّن القول إن احتكار الدولة الخطاب الديني، وتوجيهه في اتجاه أحادي يتنافى بالأساس مع طبيعة التراث الإسلامي القائم على تعدّد المدارس الفقهية، وطبيعة العلوم الشرعية القابلة للأخذ والردّ، طبقاً لاختلاف تأويل النصوص الدينية. كما أن عملية "تأميم" المساجد تعني توريطاً صريحاً للمؤسسة الدينية الرسمية، في الصراع السياسي الجاري، وهو ما قد يؤدي إلى إسباغ شرعية دينية على المسلك السياسي للسلطة تجاه خصومها، ويُفنّد مزاعم المُتطرّفين بأنها حملة تجاه الدين، إلا أن الزّج بالمؤسسة الدينية الرسمية المصرية على هذا النحو يجعلها طرفاً في الأزمة السياسية في البلاد، وسيؤدي لاحقاً إلى إسقاط هيبتها في أعين العامة، حيث سيبدو خطابها كأنه مجرّد بوق للسلطة يردّد رغباتها، ويدور في فلكها، ولا يقول إلا ما يرضيها، وهذا يعني ضرباً لمصداقيتها في الصميم.
وهو ما سيدفع الناس إلى الإعراض عن خطابها، والبحث عن خطابٍ دينيٍّ بديل، يتمتع بقدر من المصداقية، ويكون على مسافةٍ ما من السلطة، وهو ما سيفسح المجال لظهور خطاب آخر، بعيد عن الأطر التقليدية، وسيكون غالباً على قدر من التشدّد والانغلاق، لأن التطرّف لا ينتشر ولا ينتعش إلا في مناخٍ قمعيٍّ ذي طابع إقصائي استئصالي.
تأتي هذه الخطوة حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الخطوات الخشنة التي اتخذتها وزارة الأوقاف منذ 3 يوليو/ تموز 2013، بغرض "تأميم" المنابر والمساجد وإحكام الدولة لقبضتها على المجال الديني وإخضاعه لهيمنتها ومصادرته بصورة كلية.
كانت البداية بقرار وزير الأوقاف في أغسطس/ آب 2013، منع إقامة صلاة الجمعة في الزوايا والمساجد الصغيرة، ثم جاء القرار 64 لوزير الأوقاف، في مارس/ آب 2014 بضم جميع المساجد والزوايا إلى الوزارة. وفي يونيو/ حزيران 2014، أصدر الرئيس المؤقت، عدلي منصور، القانون 51 الخاص بتنظيم الخطابة والدروس الدينية في المساجد، الذي قصر ممارسة العمل بالدعوة على خريجي الأزهر ومراحله التعليمية والمعاهد التابعة للأوقاف، ومنع سواهم من مزاولة الخطابة. وفي خطوةٍ شديدة الخشونة، منح القانون نفسه مفتشي الأوقاف سلطة مأمور الضبط القضائي في تنفيذ العقوبات التي نصّ عليها، والتي تصل إلى حد الحبس والغرامة، وقد سمح هذا القانون لوزارة الأوقاف باستبعاد نحو 12 ألفاً من الدعاة والخطباء من العمل بالدعوة واعتلاء المنابر.
كما منحت وزارة الأوقاف لنفسها الحقّ في تحديد موضوع خطبة الجمعة وأفكارها الرئيسية في كل بقاع مصر، عبر صدور ميثاق الشرف الدعوي الصادر في يونيو/ حزيران 2014، والذي نص على عدم جواز استغلال المساجد من أجل تحقيق منافع سياسية أو حزبية أو انتخابية. وامتدت تلك الإجراءات إلى كياناتٍ أخرى، اتخذت موقفاً محايداً، ونأت بنفسها عن الخوض في الأزمة الطاحنة بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين، مثل "الجمعية الشرعية" التي قررّت وزارة الأوقاف ضمّ مساجدها وإخضاعها لسيطرتها، وتعيين خطباء تابعين للوزارة بها، وحتى "الدعوة السلفية" لم تسلم من تلك الإجراءات، على الرغم من أن ذراعها السياسي "حزب النور" كان شريكاً أساسياً في ترتيبات ما بعد "3 يوليو".
تقول محصّلة تلك الخطوات، بوضوح، إن المسؤولين القائمين على شؤون الدعوة في مصر، يسعون إلى تملّق السلطة، عبر مزايدتهم الفجّة على المؤسسة الأمنية، بسعيهم الحثيث إلى تأميم المجال الديني، كما تقول إنهم لا يجيدون التفكير والتعاطي مع الأمور إلا بطريقة إقصائيةٍ استئصاليةٍ بالغة الخشونة، تتناسب مع طبيعة رجال الأمن، ولا تتناسب مع سمت رجال الوعظ والدعوة التي تقوم بطبيعتها على الأخذ والردّ، والنصيحة بالحكمة والموعظة الحسنة، ومقارعة الحجّة بالحجّة، ولا تقوم على المنع والترهيب والقمع.
يخبرنا التاريخ بوجود علاقةٍ طرديةٍ وثيقة، بين تأميم الدولة المجال الديني وانتشار التطرّف، فعندما تقوم السلطة بتأميم المنابر ومصادرة خطاب المؤسسة الدينية الرسمية لصالحها، ينفتح الباب واسعاً أمام مجالٍ دينيٍ موازٍ، يجنح خطابه نحو التشدّد والتطرّف، لا تنبع مقدرته على الانتشار من مصداقيته أو رصانته، بقدر ما تنبع من فقدان الناس الثقة في مصداقية الخطاب الديني "الدولتي"، فتغليب العقلية الأمنية، واستخدام الأساليب الاستئصالية في الساحة الدعوية، هو أفضل وقودٍ لنشر التطرّف، وسنكون، عندئذٍ، كالدبّة التي قتلت صاحبها، حينما أرادت حمايته من بعوضةٍ، فقذفته بحجرٍ أودى بحياته.