28 أكتوبر 2024
السياسة والكيانات الموازية
طرحت، أخيراً، في علاقةٍ بمحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، أكثر من أي وقت مضى، مسألة "الكيانات الموازية" ودورها في الشأن السياسي العام، أو ما يعبّر عن ذلك من مرادفاتٍ ومفرداتٍ تفيد عموماً هياكل شبه خفية، لا تتصدّر المشهد السياسي، لكنها تفضل التواري استراتيجية للعمل. والأكيد أن السياسة لم تخلُ يوماً من وجود مثل تلك الهيئات تلعب دوراً مفصلياً وأساسياً في توجيه القرارات.
لا أعتقد أن هذه الأطروحة عند المؤرخين تستقيم، فهم أميل إلى أن يحيلوا القرارات والأفعال تلك إلى أصحابها الظاهريين، في انحياز لمعقولية الحدث التاريخي، وهم أكثر ميلاً أيضاً إلى تقليل الحجم الذي يمكن لهؤلاء أن يلعبوه، فالأمر ليس ابتداعاً، فلقد احتفلت الأدبيات السلطانيات والنصح الأميري بوجود مثل هذه الكائنات. وحتى كتابات المؤرخين الأكثر عقلانيةً، على غرار ابن خلدون أو ابن هشام، وكذلك السير والمناقب، تذهب أحياناً إلى حد المبالغة التي تعتير أن جل الساسة، من ملوك وأمراء وسلاطين وأباطرة، لم يكونوا سوى دمىً في أيادي تلك الكائنات. ولم تشذّ الكتابات الحالية لمؤرخين وساسة، في ذكر أثر المحافل السرية، على غرار المحفل الماسوني والطوائف والمنظمات غير الحكومية والجمعيات، وغيرها من جماعاتٍ خفيةٍ ضاغطةٍ وذات نفوذٍ في صناعة القرار، بل إن عشيقات وراقصات وعرّافين ومشعوذين كان لهم، حسب بعض هذه الكتابات والسرديات الشفوية المتداولة، فضلا عن شهادات مكتوبة، دور في صناعة القرارات الكبرى... تجد هذه الروايات رواجاً في ظل ثقافةٍ سياسيةٍ، ما زالت، إلى حدٍّ ما، مشدودةً إلى الخصال الشخصية للساسة ونظريات المؤامرة، والعجائبي الغريب والملحمي الفائق، في ظل ضمورٍ من المؤسسات العقلانية، تمثلاً وواقعاً.
تحدّثنا ما تسرب من شهاداتٍ معاصرةٍ عن زعماء ورؤساء، حكمونا منذ عقود قريبة، عن ضعف هؤلاء. وتحكي أحياناً المصادر نفسها عن قراراتٍ لم تكن، في النهاية، سوى إملاءات دوائر نفوذ عائلي وشللي. ولعلّ ما يتردّد حالياً في تونس عن أثر دوائر العائلة دماً ومصاهرةً في مبادرة الباجي قائد السبسي، تشكيل حكومة الوحدة الوطنية مثلاً، يدعم، ربما على الأقل، في مخيال التونسيين خصوصاً تلك الفرضيات، كما أن مشاريع اقتصادية ومبادرات اجتماعية في عهد بن علي، وقوائم وزراء اشتغلوا معه، تثبت حاليا أنه لم ينتقيهم وفق معايير الجدارة والكفاءة، بل إنه لم يخترهم أصلاً. لقد أملته أمزجة الزوجات والعشيقات والخلان، وفرضتهم موازين القوى بين الشقوق المتصارعة في بطانته ومحيطه الخاص، وهي ما تشبه الأجنحة التي لا تعكس تبايناتٍ فكريةً، أو سياسيةً، بين مجموعات سياسية، إنما تقوم على اختلاف مصالح، لا تتوانى عن استعمال مؤسسات الدولة ومواردها، على غرار الجيش والمخابرات، فضلا على الجهاز البنكي والضرائب والأجهزة المالية، ويصبح تعزيز المواقع، من خلال الاختراق والتوظيف، أهم مكسبٍ، تحرص تلك الكيانات على إنجازه، سامحة لنفسها بتبعية جميع الأساليب المتاحة، على غرار شراء الذمم والابتزاز .. إلخ.
غير أن ما وقع في تركيا، أخيراً، وموجة التهم التي نسبت إلى الكيان الموازي، جماعة فتح الله
غولن (جماعة الخدمة)، وقدرات هذا الكيان على اختراق نسيج المجتمع الموازي، ربما تجعلنا امام كيانٍ يشكل دولةً موازيةً أصلاً، فهي أقرب إلى أن تكون دولةً داخل الدولة، ومجتمعاً داخل المجتمع. وهي، بهذا، قادرةٌ على التسلل إلى جميع مفاصل الدولة وخلايا المجتمع، على غرار الجيش والأمن، أو حتى الأمن الرئاسي، إلى جانب القضاء والتعليم ورجال الأعمال والإعلام، فإننا نتحدّث عن مجتمعين ودولتين، فالمسألة ليست مجرّد اختراقاتٍ ظرفية ومحدودة لحزبٍ، بل مجتمع مواز.
خارج الحالة التركية المعقدة والملتبسة، هناك مؤشرات عديدة على أن هناك كياناتٍ موازية (خليط من الشبكات والمستشارين واللوبيات ومراكز النفوذ والوسطاء والمخابرات والكائنات الخفية...) تلتصق بأجهزة الدولة ومؤسساتها السيادية، ولها قدرات هائلة على الضغط والتوجيه والنفوذ، من خلال التهديد أو الإيحاء به، أو الضغط أو الخنق أو الحصار .. إلخ. لقد استطاع أن يسرق السياسة برمتها، ويحوّل الفاعلين السياسيين الواقعيين إلى مجرد كومبارس، في لعب خيال الظل الملتبسة. في هذا الحقل السياسي الجديد، لا يمكن أن تحدّد المواقع والمواقف، لأن قواعد اللعب مفقودة أصلاً، فضلا عن أن اللاعبين السياسيين غير معروفين بالضرورة، وقد يكونوا مجرد أقنعة للميتافاعلين Méta-acteurs)). لا أعتقد أننا بدأنا عصر نهاية السياسة. ولكن، لا شك أننا نواجه أزمة هوية الفاعلين السياسيين الحقيقيين حالياً، من يحكم تونس حقيقة. ولن ننتظر نتائج الحوارات الجارية، حتى نرجّح الفرضيات التي قدمناها سابقاً. ولكن الأكيد أن دوائر المال والعائلة والإعلام ستكون لها بصمات في تشكيل الحكومة التونسية، وربما قد يكون ذلك بوابةً لرسوخ تلك الكيانات الموازية.
لا أعتقد أن هذه الأطروحة عند المؤرخين تستقيم، فهم أميل إلى أن يحيلوا القرارات والأفعال تلك إلى أصحابها الظاهريين، في انحياز لمعقولية الحدث التاريخي، وهم أكثر ميلاً أيضاً إلى تقليل الحجم الذي يمكن لهؤلاء أن يلعبوه، فالأمر ليس ابتداعاً، فلقد احتفلت الأدبيات السلطانيات والنصح الأميري بوجود مثل هذه الكائنات. وحتى كتابات المؤرخين الأكثر عقلانيةً، على غرار ابن خلدون أو ابن هشام، وكذلك السير والمناقب، تذهب أحياناً إلى حد المبالغة التي تعتير أن جل الساسة، من ملوك وأمراء وسلاطين وأباطرة، لم يكونوا سوى دمىً في أيادي تلك الكائنات. ولم تشذّ الكتابات الحالية لمؤرخين وساسة، في ذكر أثر المحافل السرية، على غرار المحفل الماسوني والطوائف والمنظمات غير الحكومية والجمعيات، وغيرها من جماعاتٍ خفيةٍ ضاغطةٍ وذات نفوذٍ في صناعة القرار، بل إن عشيقات وراقصات وعرّافين ومشعوذين كان لهم، حسب بعض هذه الكتابات والسرديات الشفوية المتداولة، فضلا عن شهادات مكتوبة، دور في صناعة القرارات الكبرى... تجد هذه الروايات رواجاً في ظل ثقافةٍ سياسيةٍ، ما زالت، إلى حدٍّ ما، مشدودةً إلى الخصال الشخصية للساسة ونظريات المؤامرة، والعجائبي الغريب والملحمي الفائق، في ظل ضمورٍ من المؤسسات العقلانية، تمثلاً وواقعاً.
تحدّثنا ما تسرب من شهاداتٍ معاصرةٍ عن زعماء ورؤساء، حكمونا منذ عقود قريبة، عن ضعف هؤلاء. وتحكي أحياناً المصادر نفسها عن قراراتٍ لم تكن، في النهاية، سوى إملاءات دوائر نفوذ عائلي وشللي. ولعلّ ما يتردّد حالياً في تونس عن أثر دوائر العائلة دماً ومصاهرةً في مبادرة الباجي قائد السبسي، تشكيل حكومة الوحدة الوطنية مثلاً، يدعم، ربما على الأقل، في مخيال التونسيين خصوصاً تلك الفرضيات، كما أن مشاريع اقتصادية ومبادرات اجتماعية في عهد بن علي، وقوائم وزراء اشتغلوا معه، تثبت حاليا أنه لم ينتقيهم وفق معايير الجدارة والكفاءة، بل إنه لم يخترهم أصلاً. لقد أملته أمزجة الزوجات والعشيقات والخلان، وفرضتهم موازين القوى بين الشقوق المتصارعة في بطانته ومحيطه الخاص، وهي ما تشبه الأجنحة التي لا تعكس تبايناتٍ فكريةً، أو سياسيةً، بين مجموعات سياسية، إنما تقوم على اختلاف مصالح، لا تتوانى عن استعمال مؤسسات الدولة ومواردها، على غرار الجيش والمخابرات، فضلا على الجهاز البنكي والضرائب والأجهزة المالية، ويصبح تعزيز المواقع، من خلال الاختراق والتوظيف، أهم مكسبٍ، تحرص تلك الكيانات على إنجازه، سامحة لنفسها بتبعية جميع الأساليب المتاحة، على غرار شراء الذمم والابتزاز .. إلخ.
غير أن ما وقع في تركيا، أخيراً، وموجة التهم التي نسبت إلى الكيان الموازي، جماعة فتح الله
خارج الحالة التركية المعقدة والملتبسة، هناك مؤشرات عديدة على أن هناك كياناتٍ موازية (خليط من الشبكات والمستشارين واللوبيات ومراكز النفوذ والوسطاء والمخابرات والكائنات الخفية...) تلتصق بأجهزة الدولة ومؤسساتها السيادية، ولها قدرات هائلة على الضغط والتوجيه والنفوذ، من خلال التهديد أو الإيحاء به، أو الضغط أو الخنق أو الحصار .. إلخ. لقد استطاع أن يسرق السياسة برمتها، ويحوّل الفاعلين السياسيين الواقعيين إلى مجرد كومبارس، في لعب خيال الظل الملتبسة. في هذا الحقل السياسي الجديد، لا يمكن أن تحدّد المواقع والمواقف، لأن قواعد اللعب مفقودة أصلاً، فضلا عن أن اللاعبين السياسيين غير معروفين بالضرورة، وقد يكونوا مجرد أقنعة للميتافاعلين Méta-acteurs)). لا أعتقد أننا بدأنا عصر نهاية السياسة. ولكن، لا شك أننا نواجه أزمة هوية الفاعلين السياسيين الحقيقيين حالياً، من يحكم تونس حقيقة. ولن ننتظر نتائج الحوارات الجارية، حتى نرجّح الفرضيات التي قدمناها سابقاً. ولكن الأكيد أن دوائر المال والعائلة والإعلام ستكون لها بصمات في تشكيل الحكومة التونسية، وربما قد يكون ذلك بوابةً لرسوخ تلك الكيانات الموازية.