29 سبتمبر 2017
أسماء نساء في حارتنا
لم نعرف، بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على طفولتنا في المخيم، السرّ وراء هوس بركات الموسى في حفظ أسماء النساء في حارتنا والحارات المجاورة. كان بركات يعاني من قصور ذهني،.كان عمره العقلي أقل من عمره الزمني. كان يكبرنا عمراً. ولد في قرية عرب الزبيد شمالي صفد قبل النكبة بسنوات قليلة. غابت طفولتنا، ولم نكتشف ذلك السرّ، وإنْ كان بعضنا يُرجع الأمر إلى قصوره الذهني. كان بركات ضخم الجسد، طويلاً وعريضاً. يداه خشنتان كبيرتان، ملامحه قاسية، سرعان ما تختفي قسوتها عندما يتكّلم، فترى أمامك طفلاً يلفظ حرف الجيم زاياً، والصاد سيناً والراء لاماً. كان حين تُغضبه مداعبات أحدنا، نحن الصغار، يعضّ على ظاهر كفه اليسرى، ويهجم علينا، محاولاً الإمساك بنا، ليضربنا بقبضةٍ، كأنها مطرقة. لاحظنا جميعاً كيف صار جلد ظاهر كفه قاسياً، مثل جلد فيل عجوز. لم يكن بركات يذكر من طفولته في فلسطين حكاياتٍ يحكيها لنا، على الرغم من أنه عاش طفولةً، فرضتها عليه فوضى جينية ربما، أو مرض أصاب أمه في أثناء حملها به، أو ربما، كما كنا نقول في زمن الوعي اللاحق، إنه اختار أو قرّر أن يظل طفلاً، مثلما قرر أوسكار ماتزيرات، الشخصية الرئيسة في "طبل الصفيح"، الرواية الخالدة للألماني غونثر غراس، والتي تؤرخ لمرحلة مهمةٍ من تاريخ ألمانيا النازية.
كان يحلو لنا أن نتخيّل أن بركات الذي كان في الثالثة، أيام صعود العنف الصهيوني والقتل والتهجير بحق الفلسطينيين، واحتلال أرضهم وتغييب البلاد التي ولد فيها، خلف تسميةٍ جديدةٍ، قرّر، مثلما فعل أوسكار ماتزيرات في فترة صعود النازية، أن يبقى طفلاً لعله يحافظ، في قراره المرعب هذا، على بلاده فلسطين في عقل الطفل الذي كانه، لكن جسده نما وغلظ وإخشوشن. ومع ذلك كله، ظلت الحروف الأبجدية تحبو على لسانه، كما تحبو على لسان الطفل الذي ولد وعاش في قرية عرب الزبيد في شمالي صفد.
أتذكّر اليوم بركات موسى، وأنا أتابع مسخرة المساخر في الانتخابات البلدية في الأراضي الفلسطينية، حيث تتسابق الفصائل سباقاً يثير السخرية لإخفاء أسماء النساء المرشحات في الانتخابات، فتارة يضع فصيل مفردة "أخت" فقط، بدلاً من الاسم الحقيقي للمرشحة، وتارة يضع فصيلا آخر "زوجة أو حرم السيد فلان"، وكأن اسم تلك المرأة رجس من عمل الشيطان، أو هو عورة يجب إخفاؤها، خوفاً من ارتكاب المعاصي والموبقات. لم يتخيل جيلنا الذي عاش بدايات الثورة الفلسطينية، في منتصف الستينات، وواكبها في فتوة أحلامها وسطوة انكساراتها، أن نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم من حضيض فكري، وظلمةٍ ما بعدها ظلمة، حيث تختفي المرأة الفلسطينية التي حملت السلاح، وناضلت إلى جانب رفاقها من الرجال، مقاتلة وأسيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية، أن تختفي في غياهب التخلف الذي يرى أن ليس وجهها عورةً وحسب، بل اسمها الذي حملته منذ ولادتها. ولا تقتصر الكارثة على فكر تلك الفصائل، بل تنطح مثقفون اعتراضاً، فلجأوا إلى التاريخ الإسلامي، باحثين عن سند فكري يعينهم على عدم شرعية إخفاء اسم المرأة في القوائم الانتخابية، في عصر الفكر الأصولي الذي أغلق على الوعي، وقطع الطريق على كل فكر مغاير لهيمنته وسطوته.
كان بركات الموسى ينادي أولاد حارتنا بأسماء أمهاتنا. كان يعرف كل الأسماء، وكان ينادي علينا بفرح، وكانت أمهاتنا يفرحن بأسمائهن على لسانه، وكان آباؤنا يلاطفون بركات حافظ الأسماء، لكي لا تغيب في زحمة الشقاء في سنوات اللجوء الأولى. وكنا فخورين بأسماء فاطمة وروزا وأمينة وآمنة وخزنة وصبحة وخديجة، وكانت الأزقة الضيقة تعرف الأسماء، وكانت أمهات الشهداء يحلمن بخلود أسمائهن الحسنى، فهذه فاطمة أم الشهيد، وتلك روزا أم الفقيد.
كان يحلو لنا أن نتخيّل أن بركات الذي كان في الثالثة، أيام صعود العنف الصهيوني والقتل والتهجير بحق الفلسطينيين، واحتلال أرضهم وتغييب البلاد التي ولد فيها، خلف تسميةٍ جديدةٍ، قرّر، مثلما فعل أوسكار ماتزيرات في فترة صعود النازية، أن يبقى طفلاً لعله يحافظ، في قراره المرعب هذا، على بلاده فلسطين في عقل الطفل الذي كانه، لكن جسده نما وغلظ وإخشوشن. ومع ذلك كله، ظلت الحروف الأبجدية تحبو على لسانه، كما تحبو على لسان الطفل الذي ولد وعاش في قرية عرب الزبيد في شمالي صفد.
أتذكّر اليوم بركات موسى، وأنا أتابع مسخرة المساخر في الانتخابات البلدية في الأراضي الفلسطينية، حيث تتسابق الفصائل سباقاً يثير السخرية لإخفاء أسماء النساء المرشحات في الانتخابات، فتارة يضع فصيل مفردة "أخت" فقط، بدلاً من الاسم الحقيقي للمرشحة، وتارة يضع فصيلا آخر "زوجة أو حرم السيد فلان"، وكأن اسم تلك المرأة رجس من عمل الشيطان، أو هو عورة يجب إخفاؤها، خوفاً من ارتكاب المعاصي والموبقات. لم يتخيل جيلنا الذي عاش بدايات الثورة الفلسطينية، في منتصف الستينات، وواكبها في فتوة أحلامها وسطوة انكساراتها، أن نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم من حضيض فكري، وظلمةٍ ما بعدها ظلمة، حيث تختفي المرأة الفلسطينية التي حملت السلاح، وناضلت إلى جانب رفاقها من الرجال، مقاتلة وأسيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية، أن تختفي في غياهب التخلف الذي يرى أن ليس وجهها عورةً وحسب، بل اسمها الذي حملته منذ ولادتها. ولا تقتصر الكارثة على فكر تلك الفصائل، بل تنطح مثقفون اعتراضاً، فلجأوا إلى التاريخ الإسلامي، باحثين عن سند فكري يعينهم على عدم شرعية إخفاء اسم المرأة في القوائم الانتخابية، في عصر الفكر الأصولي الذي أغلق على الوعي، وقطع الطريق على كل فكر مغاير لهيمنته وسطوته.
كان بركات الموسى ينادي أولاد حارتنا بأسماء أمهاتنا. كان يعرف كل الأسماء، وكان ينادي علينا بفرح، وكانت أمهاتنا يفرحن بأسمائهن على لسانه، وكان آباؤنا يلاطفون بركات حافظ الأسماء، لكي لا تغيب في زحمة الشقاء في سنوات اللجوء الأولى. وكنا فخورين بأسماء فاطمة وروزا وأمينة وآمنة وخزنة وصبحة وخديجة، وكانت الأزقة الضيقة تعرف الأسماء، وكانت أمهات الشهداء يحلمن بخلود أسمائهن الحسنى، فهذه فاطمة أم الشهيد، وتلك روزا أم الفقيد.