27 سبتمبر 2018
المنظور الليبرالي وتونس
إذا نظرنا من منظور ديمقراطي، ستكون تونس البلد الأفضل لما تحقق بعد الثورات، حيث ما زال "المسار الديمقراطي" يحكم الوضع. لكن، كيف يمكن أن ينجح هذا المسار والوضع الاقتصادي يتردّى، ووضع الشعب يزداد بؤساً؟
ربما هذا الأمر هو الذي يوضح اختلاف المنظورات في ما يخصّ الثورات العربية، حيث إن الميل العام لتيار عريض من الليبراليين و"الديمقراطيين" (وهم بالمناسبة غالبية الأحزاب المعارضة وكل نخبها) يقوم على التأكيد على منظور ديمقراطي، يعتبر أن سبب الثورات وهدفها هو تجاوز الاستبداد الذي اتسمت به النظم وبناء نظام ديمقراطي، ويستنتج أن الثورات فتحت الطريق لمسار ديمقراطي، هو النتيجة الطبيعية لهذه الثورات، وهو الانتصار الكبير الذي نتج عنها. وهو ما يوصله إلى نتيجة أن التجربة المصرية سقطت بـ "انقلاب عسكري" ألغى النظام الديمقراطي، وأسقط الرئيس "المنتخب"، وأعاد إنتاج الاستبداد. وأن التجربة التونسية هي الناجحة، حيث استمر المسار الديمقراطي، على الرغم من الإرباكات التي كادت تطيحه. وبالتالي، باتت تونس المثال الناجح للثورات العربية.
يجري التركيز هنا على "الحرية والديمقراطية" أولوية وأساساً لتحقيق التطور والاستقرار، و"مطالب الشعب" (كما يشير بعضهم). وأن ما هو مطلوب هو الإصرار على إنجاح هذه التجربة، لأنها "النتيجة الطبيعية" للثورات، والانتصار "الحقيقي" لها. ولهذا، تُرى الثورات لحظة انفجارية حدثت وانتهت، بعد أن أسست لانطلاق المسار الديمقراطي. لنعود إلى التركيز على الديمقراطية/ الاستبداد مطمحاً، بعد أن كانت المعادلة هي: الاستبداد الجاثم/ الديمقراطية.
من هذا المنظور، يُنظر إلى التجربة التونسية على أنها الناجحة، حيث ما زال المسار الديمقراطي قائماً، وما زال تنافس الأحزاب وصندوق الاقتراع هو الذي يحكم التجربة. ربما يشير ذلك إلى طبيعة فهم الديمقراطية، كونها تعدّد أحزاب وانتخابات، ولا شك في أنه مفهوم قاصر، وسطحي، لأن الديمقراطية أعمق من ذلك. وهذا أمر يوضح مدى قصور الوعي بالديمقراطية ذاتها، حيث تظهر كأنها كاريكاتور، حتى من الزاوية الديمقراطية وحدها. لكن، ربما يكون السؤال الأهم، ونحن في خضم الثورة: بماذا تأتي الديمقراطية؟ بمعنى، ما هي طبيعة الأحزاب التي تُنجحها الانتخابات، حتى من دون أن نسأل كيف تنجح؟
ما أفضت إليه الانتخابات، كما ظهر في تونس، ومصر كذلك، هو نجاح أحزابٍ ذات ارتباطٍ وثيق بالنظام القديم، أو هي لا تختلف مع النظام القديم من حيث المنظور الاقتصادي، فهي كلها تنطلق من استمرار السياسة الاقتصادية التي تعمّمت منذ بدء مسار اللبرلة، أي أنها أحزابٌ تعبّر بالضرورة عن مصالح رأسماليات مسيطرة في المستوى الاقتصادي، ومتداخلة مع الطغم المالية العالمية، وخاضعة لشروطها التي يعمّمها صندوق النقد الدولي. في مصر، التزمت جماعة الإخوان المسلمين هذه السياسة، وعملت على الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي، واستمر النظام بعدها في المسار نفسه. وفي تونس، استمرت حركة النهضة (وتحالفها في الترويكا) بالسياسة القديمة نفسها، ثم قبلت بحكومة "تكنوقراط" تنفذ شروط صندوق النقد الدولي. وفي انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2014 التشريعية، تقاسم النظام القديم (نداء تونس) وحركة النهضة مع أحزاب أصغر السيطرة على البرلمان، وهي مستمرة في الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي، ولمجمل السياسات التي يقرّرها خدمةً للطغم المالية الإمبريالية.
لهذا، وجدنا أن الانتخابات أتت بأحزاب، ربما أنها تتنافس على الرغم من حاجتها للوحدة، لكنها ممعنة في المسار الاقتصادي القديم الذي كان الأساس الذي دفع الشعوب إلى الثورة، لأنه أفقرها وهمّشها بشكل مريع (وفق كل الإحصائيات). بمعنى أن تنافس هذه الأحزاب هو التعبير عن اختلافاتٍ بين فئات الرأسمالية نفسها. ولهذا، تُدفع بضغط القوى الخارجية للوحدة في مواجهة "الكارثة" التي هي الثورة، وفق منظور هذه القوى.
قامت الأحزاب "المنتخبة" بتنفيذ سياسات صندوق النقد الدولي، فعملت على "تحرير" العملة والإمعان في الخصخصة، وزيادة الأسعار، خصوصاً ما يمسّ الطبقات الشعبية مباشرةً، فوسّعت من أزمة هذه الطبقات. هذا ما حدث في مصر وفي تونس. ولهذا، يبدو أن الانتخابات تأتي بأحزابٍ تمثل الطبقة الرأسمالية المافياوية ذاتها، بغض النظر عن طابعها الأيديولوجي. فهل يُنجح ذلك كله المسار الديمقراطي؟
يكتفي المنظور الليبرالي بذلك، ويعتبر أن التجربة ناجحةٌ، لأنها ما زالت قائمة على الانتخابات، وأن الحكم هو للأحزاب التي "تفرزها صناديق الاقتراع". لكن، هل يؤدي ذلك إلى تحقيق الاستقرار وتجاوز لحظة الثورة؟ أي هل ينهي الظروف التي فرضت نشوب الثورة؟
لا يسعى المنظور الليبرالي إلى الإجابة عن هذا السؤال، بالضبط لأنه لا يريد رؤية الظروف المعيشية التي تتحكّم بغالبية الشعب، بل يريد التعلق بالحريات والديمقراطية. لكن، هل يحقق المسار الديمقراطي ما يريده الشعب؟ بالتأكيد لا، بالضبط لأن الشعب الذي ثار، في غالبيته، ثار لأنه معطلٌ عن العمل أو مفقر ومهمّش، وأصلاً هذا هو الشعار الجوهري للثورة التونسية: العمل استحقاق، يا عصابة السرّاق. في تونس، كانت الشعارات المطلبية واضحة، أي العمل والأجر، وبالتالي، يصبح السؤال هو هل ترتضي كل هذه الطبقات التي ثارت بإبدال مطالبها المعيشية بمسارٍ ديمقراطيٍّ لا يتناول هذه المطالب؟
هنا، نعود إلى مسألة النظر إلى الثورة، فهل كانت نتيجة الاستبداد أو نتيجة البطالة والفقر والتهميش؟ ركّز المنظور البديل على أن ثورة الشعب كانت نتاج الوضع المعيشي، وأن الحرية والديمقراطية مطمح فئات وسطى، لا تعيش بالضرورة وضعاً اقتصادياً سيئاً. وبالتالي، ما دامت النخب قد سعت إلى أن تحقق مصالحها هي في الحرية والديمقراطية فقط، فهل يمكنها أن تؤسّس لنظام مستقر؟ لا شك في أن ذلك مستحيل، بالضبط لأن الطبقات الشعبية تعطي الأولوية لوضعها الاقتصادي، فهي غير قادرة على العيش، والوجود والحياة أولوية على كل شيء.
إذا ما عدنا إلى تونس، لا شك في أن النتيجة التي تتعمّم مثالاً سوف تسقط في أول امتحان شعبي. إذ يبدو واضحاً أن المسار الديمقراطي يتفارق مع المسار الشعبي، ويتناقض معه، بالضبط لأن "الأحزاب المنتخبة" تعمِّق من مشكلات الشعب، بإيغالها في الخصخصة واللبرلة، وفتح البلد لنهب الطغم الإمبريالية. وكذلك بالحرص على استمرار سلطة الرأسمالية المافياوية التي حكمت زمن بن علي، ثم ظلت تحكم. الأمر الذي يقود إلى استنتاج بسيط هو أن تونس مقبلة على ثورة جديدة، كما حدث في مصر بعد حكم "الإخوان المسلمين"، وما يمكن أن يحدث الآن ضد النظام "الجديد".
الديمقراطية التي يجري التهليل لها في تونس هي ديمقراطية الأحزاب الليبرالية التي تريد ضمان استمرار النظام ذاته، نظام الرأسمالية المافياوية، والتي سوف تسقط أمام أول تحرّك شعبي كبير. بالضبط، لأن الشعب يريد الخبز والحرية معاً.
إذن، تونس هي المثال على هزل المنظور الليبرالي.
ربما هذا الأمر هو الذي يوضح اختلاف المنظورات في ما يخصّ الثورات العربية، حيث إن الميل العام لتيار عريض من الليبراليين و"الديمقراطيين" (وهم بالمناسبة غالبية الأحزاب المعارضة وكل نخبها) يقوم على التأكيد على منظور ديمقراطي، يعتبر أن سبب الثورات وهدفها هو تجاوز الاستبداد الذي اتسمت به النظم وبناء نظام ديمقراطي، ويستنتج أن الثورات فتحت الطريق لمسار ديمقراطي، هو النتيجة الطبيعية لهذه الثورات، وهو الانتصار الكبير الذي نتج عنها. وهو ما يوصله إلى نتيجة أن التجربة المصرية سقطت بـ "انقلاب عسكري" ألغى النظام الديمقراطي، وأسقط الرئيس "المنتخب"، وأعاد إنتاج الاستبداد. وأن التجربة التونسية هي الناجحة، حيث استمر المسار الديمقراطي، على الرغم من الإرباكات التي كادت تطيحه. وبالتالي، باتت تونس المثال الناجح للثورات العربية.
يجري التركيز هنا على "الحرية والديمقراطية" أولوية وأساساً لتحقيق التطور والاستقرار، و"مطالب الشعب" (كما يشير بعضهم). وأن ما هو مطلوب هو الإصرار على إنجاح هذه التجربة، لأنها "النتيجة الطبيعية" للثورات، والانتصار "الحقيقي" لها. ولهذا، تُرى الثورات لحظة انفجارية حدثت وانتهت، بعد أن أسست لانطلاق المسار الديمقراطي. لنعود إلى التركيز على الديمقراطية/ الاستبداد مطمحاً، بعد أن كانت المعادلة هي: الاستبداد الجاثم/ الديمقراطية.
من هذا المنظور، يُنظر إلى التجربة التونسية على أنها الناجحة، حيث ما زال المسار الديمقراطي قائماً، وما زال تنافس الأحزاب وصندوق الاقتراع هو الذي يحكم التجربة. ربما يشير ذلك إلى طبيعة فهم الديمقراطية، كونها تعدّد أحزاب وانتخابات، ولا شك في أنه مفهوم قاصر، وسطحي، لأن الديمقراطية أعمق من ذلك. وهذا أمر يوضح مدى قصور الوعي بالديمقراطية ذاتها، حيث تظهر كأنها كاريكاتور، حتى من الزاوية الديمقراطية وحدها. لكن، ربما يكون السؤال الأهم، ونحن في خضم الثورة: بماذا تأتي الديمقراطية؟ بمعنى، ما هي طبيعة الأحزاب التي تُنجحها الانتخابات، حتى من دون أن نسأل كيف تنجح؟
ما أفضت إليه الانتخابات، كما ظهر في تونس، ومصر كذلك، هو نجاح أحزابٍ ذات ارتباطٍ وثيق بالنظام القديم، أو هي لا تختلف مع النظام القديم من حيث المنظور الاقتصادي، فهي كلها تنطلق من استمرار السياسة الاقتصادية التي تعمّمت منذ بدء مسار اللبرلة، أي أنها أحزابٌ تعبّر بالضرورة عن مصالح رأسماليات مسيطرة في المستوى الاقتصادي، ومتداخلة مع الطغم المالية العالمية، وخاضعة لشروطها التي يعمّمها صندوق النقد الدولي. في مصر، التزمت جماعة الإخوان المسلمين هذه السياسة، وعملت على الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي، واستمر النظام بعدها في المسار نفسه. وفي تونس، استمرت حركة النهضة (وتحالفها في الترويكا) بالسياسة القديمة نفسها، ثم قبلت بحكومة "تكنوقراط" تنفذ شروط صندوق النقد الدولي. وفي انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2014 التشريعية، تقاسم النظام القديم (نداء تونس) وحركة النهضة مع أحزاب أصغر السيطرة على البرلمان، وهي مستمرة في الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي، ولمجمل السياسات التي يقرّرها خدمةً للطغم المالية الإمبريالية.
لهذا، وجدنا أن الانتخابات أتت بأحزاب، ربما أنها تتنافس على الرغم من حاجتها للوحدة، لكنها ممعنة في المسار الاقتصادي القديم الذي كان الأساس الذي دفع الشعوب إلى الثورة، لأنه أفقرها وهمّشها بشكل مريع (وفق كل الإحصائيات). بمعنى أن تنافس هذه الأحزاب هو التعبير عن اختلافاتٍ بين فئات الرأسمالية نفسها. ولهذا، تُدفع بضغط القوى الخارجية للوحدة في مواجهة "الكارثة" التي هي الثورة، وفق منظور هذه القوى.
قامت الأحزاب "المنتخبة" بتنفيذ سياسات صندوق النقد الدولي، فعملت على "تحرير" العملة والإمعان في الخصخصة، وزيادة الأسعار، خصوصاً ما يمسّ الطبقات الشعبية مباشرةً، فوسّعت من أزمة هذه الطبقات. هذا ما حدث في مصر وفي تونس. ولهذا، يبدو أن الانتخابات تأتي بأحزابٍ تمثل الطبقة الرأسمالية المافياوية ذاتها، بغض النظر عن طابعها الأيديولوجي. فهل يُنجح ذلك كله المسار الديمقراطي؟
يكتفي المنظور الليبرالي بذلك، ويعتبر أن التجربة ناجحةٌ، لأنها ما زالت قائمة على الانتخابات، وأن الحكم هو للأحزاب التي "تفرزها صناديق الاقتراع". لكن، هل يؤدي ذلك إلى تحقيق الاستقرار وتجاوز لحظة الثورة؟ أي هل ينهي الظروف التي فرضت نشوب الثورة؟
لا يسعى المنظور الليبرالي إلى الإجابة عن هذا السؤال، بالضبط لأنه لا يريد رؤية الظروف المعيشية التي تتحكّم بغالبية الشعب، بل يريد التعلق بالحريات والديمقراطية. لكن، هل يحقق المسار الديمقراطي ما يريده الشعب؟ بالتأكيد لا، بالضبط لأن الشعب الذي ثار، في غالبيته، ثار لأنه معطلٌ عن العمل أو مفقر ومهمّش، وأصلاً هذا هو الشعار الجوهري للثورة التونسية: العمل استحقاق، يا عصابة السرّاق. في تونس، كانت الشعارات المطلبية واضحة، أي العمل والأجر، وبالتالي، يصبح السؤال هو هل ترتضي كل هذه الطبقات التي ثارت بإبدال مطالبها المعيشية بمسارٍ ديمقراطيٍّ لا يتناول هذه المطالب؟
هنا، نعود إلى مسألة النظر إلى الثورة، فهل كانت نتيجة الاستبداد أو نتيجة البطالة والفقر والتهميش؟ ركّز المنظور البديل على أن ثورة الشعب كانت نتاج الوضع المعيشي، وأن الحرية والديمقراطية مطمح فئات وسطى، لا تعيش بالضرورة وضعاً اقتصادياً سيئاً. وبالتالي، ما دامت النخب قد سعت إلى أن تحقق مصالحها هي في الحرية والديمقراطية فقط، فهل يمكنها أن تؤسّس لنظام مستقر؟ لا شك في أن ذلك مستحيل، بالضبط لأن الطبقات الشعبية تعطي الأولوية لوضعها الاقتصادي، فهي غير قادرة على العيش، والوجود والحياة أولوية على كل شيء.
إذا ما عدنا إلى تونس، لا شك في أن النتيجة التي تتعمّم مثالاً سوف تسقط في أول امتحان شعبي. إذ يبدو واضحاً أن المسار الديمقراطي يتفارق مع المسار الشعبي، ويتناقض معه، بالضبط لأن "الأحزاب المنتخبة" تعمِّق من مشكلات الشعب، بإيغالها في الخصخصة واللبرلة، وفتح البلد لنهب الطغم الإمبريالية. وكذلك بالحرص على استمرار سلطة الرأسمالية المافياوية التي حكمت زمن بن علي، ثم ظلت تحكم. الأمر الذي يقود إلى استنتاج بسيط هو أن تونس مقبلة على ثورة جديدة، كما حدث في مصر بعد حكم "الإخوان المسلمين"، وما يمكن أن يحدث الآن ضد النظام "الجديد".
الديمقراطية التي يجري التهليل لها في تونس هي ديمقراطية الأحزاب الليبرالية التي تريد ضمان استمرار النظام ذاته، نظام الرأسمالية المافياوية، والتي سوف تسقط أمام أول تحرّك شعبي كبير. بالضبط، لأن الشعب يريد الخبز والحرية معاً.
إذن، تونس هي المثال على هزل المنظور الليبرالي.