08 نوفمبر 2024
مباراة في الحكومة المغربية الموعودة
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
تدور جولات تشكيل الحكومة الحادية والثلاثين في المغرب، في مشهد أشبه ما يكون بمباراة في كرة التنس بين لاعبين محترفين على طرفي الملعب؛ مع فوارق كثيرة بينهما، في مقدمتها اختلاف نوعية الأرضية (الصلبة/ الرملية) التي اعتاد كل منهما اللعب عليها، فالأول رجل خبر عوالم السياسية بامتياز، فيما قدم إليها الثاني من عالم المال والأعمال. أوكلت مهمة التحكيم، في ثالث مقابلة تاريخية يعرفها التاريخ السياسي الحديث للمغرب؛ بعد تجربة عبد الله إبراهيم وعبد الرحمن اليوسفي مع تسجيل تفرّد الراهنة بسياق خاص، إلى الشعب المغربي قاطبة.
مع طول زمن المباراة (مسلسل البلوكاج دخل شهره الثالث) قياسا إلى ما جرى به العرف في التجارب الحكومية السابقة، يشتد الضغط على اللاعبين، وتبعثر الخطط، من حين إلى آخر، قبل أن تُرتب من جديد. وبالموازاة مع ذلك، تزداد يقظة الجمهور الذي يستوعب تدريجياً قواعد اللعبة، ويفهم رويداً رويداً آليات اشتغالها عند كل مناورة من هذا الطرف أو ذاك.
في جهة نجد عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق، والأمين العام لحزب العدالة والتنمية؛ الفائز بمقعد برلماني، والمتصدّر انتخابات 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بمجموع 125 مقعداً برلمانياً (31%)، والمكلف بتشكيل الحكومة الجديدة بعد التعيين الملكي بمقتضى الفصل 47 من دستور 2011.
وفي الجهة المقابِلة، يقف رجل الأعمال، عزيز أخنوش، وزير الفلاحة والصيد البحري سابقا، ورئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي أسندت إليه رئاسته عقب مؤتمر استثنائي شكلي، نظمه الحزب، كي يتسلم من كان يرتدي عباءة التكنوقراط في الساحة السياسية حتى الأمس القريب مهام الإدارة بعد الانتخابات التشريعية التي لم يرشح نفسه إليها، وكانت حصيلة الحزب فيها 37 مقعداً في البرلمان (9%).
دخل بنكيران المباراة، وبجانبه دستور جديد بحاجة إلى تأويل ديمقراطي، وروح "20 فبراير" التي فتحت باب الإصلاحات في المغرب، بعد أن كانت الترتيبات جارية على قدم وساق
بينما يظهر الملياردير عزيز أخنوش للمواجهة حاملاً معه تجربته وزيراً في حكومتين، مرة باسم التكنوقراط وأخرى باسم حزب التجمع الوطني للأحرار، تماشياً مع ما يفرضه السياق. وكرجل أعمال وظف قربه من دوائر السلطة في إنجاح إمبراطوريته الاقتصادية في قطاع المحروقات التي تضرّرت كثيراً جرّاء الإصلاحات الاقتصادية التي أقدمت عليها الحكومة في الولاية السابقة. ومعه أيضاً رصيد علاقاته الشخصية مع جزء كبير من رجال الأعمال المغاربة والأجانب، ممن له معهم مصالح اقتصادية ومالية مشتركة. كما عزّز صفوفه في "هولدينغ" سياسي هذه المرة، وليس اقتصادياً، شكلت مع حزبي الاتحاد الدستوري والحركة الشعبية، المعروفين تاريخيا بأحزاب الإدارة ممن تزعم أنها تتبنى الرؤية الليبرالية في مرجعيتها، مع بقاء التباسٍ كبيرٍ بخصوص موقع حزب تاريخي عريق، كالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في هذا الهولدينغ السياسي، الحديث النشأة والتشكل، عقب تطور مسار المفاوضات.
كانت خطة رئيس الحكومة ذكيةً، حين قرّر اللعب على المكشوف، بلا كواليس ولا ستار ولا أبواب مغلقة، ما مكّنه من الحرق التدريجي لأوراق خصمه عن سبق إصرار، فهو لا يفوّت أي فرصةٍ يراها مناسبةً، من دون أن يزيح الستار عن خبايا كواليس المفاوضات للرأي العام المغربي، ممن لا يروق غالباً لباقي الأطراف التي تفضل التكتم. فالظاهر، حتى الآن، أن عزيز أخنوش يُمعن في الاشتراطات، وعينه على الحقائب الوزارية في القطاعات الحساسة (المالية، التجهيز، الصناعة، الخارجية، الطاقة...)، ففرَض إخراج حزب الاستقلال في بادئ الأمر، ثم عاد بعدها إلى المطالبة بإدخال أحزاب الهولدينغ السياسي في تحالفٍ هجينٍ، لا طعم ولا لون ولا رائحة له، للحكومة.
واضح، إذن، أنه كيف ما كانت مخرجات الأزمة الحكومية الحالية، وطبيعة الأحزاب التي
أولاً: قدرة عبد الإله بنكيران على إخراج ما كان يرمز إليه بالتماسيح والعفاريت، طوال ولايته الحكومية الأولى؛ أي أصحاب المصالح السياسية ولوبيات الاقتصاد، ممن يستعملون كل الطرق والوسائل، ويعتمدون على الدولة العميقة لحمايتهم، إلى الأضواء والمواجهة المباشرة على مرأى المواطنين ومسمعهم.
ثانياً: المشروعية الانتخابية، أي التعاقد السياسي الذي تصبح فيه نتائج الصندوق محدّداً أساسياً في تشكيل الحكومة وحده غير كاف لتسيير دولة، ما تزال السياسة فيها رهينةً، حتى إشعار آخر، بين أيدي رجال المال والأعمال من ناحية، ومفتقدةً، من ناحية أخرى، إلى تعدّدية حزبية حقيقية، يمكن الرهان عليها عند إجراء هذه العملية القيصرية للفصل بين الاقتصاد والسياسة.
ثالثاً: زئبقية ما يسمى التحكّم بتعبير رئيس الحكومة وأنصاره، أو جيوب المقاولة بلفظ زعيم الاتحاد الاشتراكي، عبد الرحمن اليوسفي، فالسلطوية سائلة في جسم الدولة، بشكلٍ يصعب معه تطويقها، في مجالٍ معلوم، أو حصرها في حزب معين، أو تبعيتها لمؤسسةٍ بذاتها، أو تعيينها في أفراد بأنفسهم.
رابعا: مدى فعالية دستور 2011؛ إذ وضعت الوثيقة الأسمى في البلد أمام امتحان عسير في الأزمة السياسية الحالية، خصوصا عندما اتضحت الفراغات التي اعترتها، ما فتح الباب لظهور تأويلاتٍ استبداديةٍ، ضدا على الروح والنَّفس العام للمرحلة بأكملها.
تبقى صفوة القول إن أي مخرج لهذه العرقلة المكلفة سياسياً واقتصادياً للبلاد غير مضمون، إذ بات مؤكّداً أن الحكومة المقبلة مهددة بالانفجار في كل حين، أو التوقف في أي لحظة. فكيف تمكن استعادة الثقة بين أطرافٍ بلغت هذا الحد من الخصومة والتعنت، ليس انتصاراً لهذا البرنامج أو تلك الخطة أو ذاك المشروع، بقدر ما هو دفاع عن المصالح الخاصة، وعقاب لشعب اختار لنفسه التحرّر التدريجي، بعد أن وجد زعامةً وطنيةً صادقةً كان يفتقدها.
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
محمد طيفوري
مقالات أخرى
23 أكتوبر 2024
11 أكتوبر 2024
22 سبتمبر 2024