08 نوفمبر 2024
ما بال الرئيس الفيليبيني؟
يدعو التنافر الذي ظهر بين الفيليبين والولايات المتحدة الأميركية، منذ تولى الرئيس الفيليبيني الجديد، رودريغو دوتيرتي (71 عاما) ، الرئاسة، في 30 يونيو/ حزيران الماضي، إلى الاعتقاد أن البلدين ليسا حليفين، ولم يكونا كذلك في أي يومٍ. فرَدّاً على اتهامات واشنطن والدول الغربية مانيلا بانتهاك حقوق الإنسان، انتقد الرئيس الفيليبيني الغرب، وتحدّث عن انعطافٍ نحو الصين وروسيا. لكن مَرَدّ تلك الانعطافة ربما تكون مرتكزات أساسية لدى الرجل أكثر منها ردود فعل لفظية آنيّة. وقد تتْبَع هذه الردود إجراءات عملية، تدخل معها البلاد في حربٍ باردةٍ مع واشنطن، لاحت بوادرها في حديثه عمّا سمّاه "الانفصال" عنها، معلناً ذلك في زيارته بكين.
لم يكن ينقص الرئيس دوتيرتي، وهو محامٍ فاز في الانتخابات الرئاسية في 9 مايو/ أيار الماضي، هجوم الدول الغربية على سياسته، ليرد عليها بعباراته التي جعلته مُتابَعاً، ومحط اهتمام وسائل الإعلام، وهو الموصوف بخطابه الشعبوي الذي اشتُهر به، عندما كان عمدة بلدية مدينة دفاو (جنوب). وبدأ هجوم كلٍّ من الولايات المتحدة والأمم المتحدة على الفيليبين، عندما اتهمتاها بانتهاك حقوق الإنسان، حيث وجَّهَتا انتقاداتٍ لها بسبب عملياتِ قتلٍ جرت في البلاد، بعد تسلُّمِه مقاليد الحكم. وقال خبيران في حقوق الإنسان في الأمم المتحدة إن تلك العمليات تجري خارج القانون ومن دون محاكمات، على هامش حملة "الحرب على المخدرات" التي شنها دوتيرتي. وقالت تقارير إن آلافاً قُتلوا خلال هذه الحملة، وهو ما نفاه الرئيس الفيليبيني، داعياً الأمم المتحدة إلى إرسال خبراء للتحقق من هذه المزاعم. ولم يكتفِ دوتيرتي بالنفي، بل نعت، في سبتمبر/ أيلول الماضي، الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بـ "ابن العاهرة"، كما دعا إلى تأسيس منظمة بديلة للأمم المتحدة. وبعد ساعاتٍ من قوله إنه لم ينعت أوباما بذلك، قال إنه يعتقد أن الأمين العام للأمم المتحدة (السابق)، بان كي مون، "أحمق"، لأنه أثار مسألة حقوق الإنسان في بلاده في إطار حربه على الجريمة.
وأوحت تصريحات دوتيرتي، شبه اليومية، حول الغرب وأميركا، وشيطنته لهما، للرأي العام
الغربي أن الشعب الفيليبيني يكره الولايات المتحدة، وجميع أبناء هذا الشعب يريدون فك تحالف بلادهم معها، وهي البلاد التي كان لافتاً، منذ استقلالها عن الولايات المتحدة في 1946، تبنيها تنظيم حكم مؤسساتي أقرب إلى النظام الأميركي، إضافة إلى مساندة مانيلا واشنطن في المحافل الدولية. ودفعت هذه الحالة أحد كُتَّاب صحيفة واشنطن بوست إلى أن يُعَنونَ مقالة له "إن وضعنا دوتيرتي على حِدةٍ فإن الفيليبينيين يحبون أميركا". وكتب، في مقالته التي نشرت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أنه تبعاً لدراسة أصدرها مركز بيو الأميركي للدراسات سنة 2005، فإنه لا يوجد بلد في العالم لديه هذه النسبة الكبيرة من الشعب المعجبة بأميركا، حيث إن لدى 92% منهم وجهة نظر إيجابية حولها، مع العلم أن هنالك شكوكا دائمة لديهم حول نشاطات واشنطن العسكرية، بسبب "دور أميركا الإمبريالي ووجودها العسكري الدائم". مضيفاً أن مصدر شعبية دوتيرتي ليس عداءه أميركا، بقدر ما هي مواقفه ضد الفقر والفساد والنخبة الحاكمة المستفيدة من الأوضاع القائمة.
والكاتب هنا محق، فلطالما كانت الفيليبين سند الولايات المتحدة في منطقة جنوب شرق آسيا، وشريكها الأقرب في تطبيقها سياساتها في تلك المنطقة الحيوية. وتاريخ العلاقة الحديثة بين الولايات المتحدة والفيليبين هو تاريخ التحالف الاستراتيجي العميق بينهما، حيث تعتمد عليها واشنطن في مراقبة النشاطات الاقتصادية والتجارية والعسكرية في هذه البقعة التي توليها واشنطن الأهمية القصوى. بل كانت تُعتبر مخفراً أميركيا متقدماً، تقوم القوات الأميركية - الفيليبينية المشتركة، انطلاقا منه، بجولاتٍ استطلاعية، وتنفذ تكتيكات ومناورات عسكرية سنوية، تهدف إلى ترسيخ الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، علاوة على إظهار التوثب الأميركي الدائم فيها بمثابة العصا الغليظة المرفوعة في وجه نمور المنطقة، وخصوصاً الصين. وقَمَعَ حكام الفيليبين، طوال فترة تحالفهم مع الولايات المتحدة، المعارضة الراديكالية، من دون أن يتلقوا انتقاداتٍ من واشنطن. واعتمدوا سياساتٍ اقتصادية وأجنداتٍ إعلاميةً تركِّز على نسبِ النمو التي تتحقق في البلاد، مُغْفِلين حجم الفقر والفساد الذي ينخرها، وهو ما تُغفِله عادة كذلك الصحف الأميركية، وكذلك كاتب مقالة "واشنطن بوست" المذكورة. فلم ينعكس النمو الاقتصادي الذي شهدته الفيليبين، والذي ترافق مع إصلاحاتٍ اقتصاديةٍ، نفذتها الحكومات التي أدارت البلاد بعد إطاحة حكم فرديناند ماركوس سنة 1986، تحسناً في مستوى معيشة غالبية السكان، وهو ما عزاه الرئيس دوتيرتي إلى الفساد. حيث تطرق إلى الفساد في بلاده، في الأيام الأولى التي أعقبت انتخابه قائلاً: "إن المسؤولين الفاسدين يجب أن يتقاعدوا أو يموتوا"، موجهاً الإدانة إلى النخب، بسبب الإخفاقات على هذا الصعيد، ما جعل ربع السكان يعيشون تحت خط الفقر.
وبينما يحيل الإعلام مواقف دوتيرتي، وما يتلفظ به، إلى "شعبويته الفظة"، إلا أن التفاتة إلى
تاريخه تُظهر أنه يستند إلى إرثٍ عقائدي، تنوّعت أشكال تكوينه وتراوحت، بين الموروث الإسلامي والإيديولوجي الشيوعي، ليصل إلى ما عزاه محللون إلى أصول فاشستية، وُصِم بها الرجل. فموقفه من الولايات المتحدة راجع إلى ما سمعه من جدته المسلمة عن انتهاكات القوات الأميركية، خلال احتلالها الفيليبين، وجرائمها بحق الشعب. أما مواقفه من الفقر والفساد فعزاه بعضهم إلى العلاقة التي ربطته، في أثناء دراسته، بأستاذه الجامعي الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي الفيليبيني. لذلك، موروث دوتيرتي الإيديولوجي، ومواقف الغرب منه، ومواقفه من الغرب، عوامل دفعته إلى تغيير البوصلة، والتوجه نحو الصين وروسيا. ففي حين قال إنه سيطلب من القوات الأميركية مغادرة بلاده، وألغى صفقة بنادق مع واشنطن، كما ألغى المناورات العسكرية السنوية معها، خصَّ الصين بأول زيارة له إلى الخارج، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وطلب مساعدة حكومتها، واعتبرها الأمل الاقتصادي الوحيد لبلاده، ودعا إلى الحوار لحل المشكلات الحدودية معها. مشيراً، في حديثٍ للتلفزيون الصيني، إلى الدعاية الأميركية التي اعتبرت الصين "طرفاً شريراً".
وكان لافتاً لقاء دوتيرتي مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في العاصمة البيروفية ليما، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وأعلن خلاله بوتين عن استعداد الشركات الروسية الاستثمار في الفيليبين. وكانت لافتة زيارة دوتيرتي سفينة الأميرال تريبوتس الحربية الروسية، في 6 يناير/ كانون الثاني الحالي، والتي رست، مع سفينة أخرى، في مانيلا أربعة أيام. وصرح حينها بأنه يأمل في "أن تصبح روسيا حليفة بلاده وحامية لها". مع العلم أن السفير الروسي في مانيلاً أبدى، قبل يوم من الزيارة، استعداد بلاده تزويد مانيلا بأسلحة متطورة.
لا يستقيم هذا القطع الذي يريده دوتيرتي مع أميركا إلا إذا وجد حلفاء جدداً يسندون توجهه، وهو ما يبدو أنه سينجح، مع تلهُّفِ روسيا والصين لنهجه المغاير لِما ألفوه من حكام الفيليبين. ولا بد أن حرباً باردة بين بلاده وواشنطن ستظهر، إلا أن قوة داعميه الجدد ربما تخفّف من نيرانها.
لم يكن ينقص الرئيس دوتيرتي، وهو محامٍ فاز في الانتخابات الرئاسية في 9 مايو/ أيار الماضي، هجوم الدول الغربية على سياسته، ليرد عليها بعباراته التي جعلته مُتابَعاً، ومحط اهتمام وسائل الإعلام، وهو الموصوف بخطابه الشعبوي الذي اشتُهر به، عندما كان عمدة بلدية مدينة دفاو (جنوب). وبدأ هجوم كلٍّ من الولايات المتحدة والأمم المتحدة على الفيليبين، عندما اتهمتاها بانتهاك حقوق الإنسان، حيث وجَّهَتا انتقاداتٍ لها بسبب عملياتِ قتلٍ جرت في البلاد، بعد تسلُّمِه مقاليد الحكم. وقال خبيران في حقوق الإنسان في الأمم المتحدة إن تلك العمليات تجري خارج القانون ومن دون محاكمات، على هامش حملة "الحرب على المخدرات" التي شنها دوتيرتي. وقالت تقارير إن آلافاً قُتلوا خلال هذه الحملة، وهو ما نفاه الرئيس الفيليبيني، داعياً الأمم المتحدة إلى إرسال خبراء للتحقق من هذه المزاعم. ولم يكتفِ دوتيرتي بالنفي، بل نعت، في سبتمبر/ أيلول الماضي، الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بـ "ابن العاهرة"، كما دعا إلى تأسيس منظمة بديلة للأمم المتحدة. وبعد ساعاتٍ من قوله إنه لم ينعت أوباما بذلك، قال إنه يعتقد أن الأمين العام للأمم المتحدة (السابق)، بان كي مون، "أحمق"، لأنه أثار مسألة حقوق الإنسان في بلاده في إطار حربه على الجريمة.
وأوحت تصريحات دوتيرتي، شبه اليومية، حول الغرب وأميركا، وشيطنته لهما، للرأي العام
والكاتب هنا محق، فلطالما كانت الفيليبين سند الولايات المتحدة في منطقة جنوب شرق آسيا، وشريكها الأقرب في تطبيقها سياساتها في تلك المنطقة الحيوية. وتاريخ العلاقة الحديثة بين الولايات المتحدة والفيليبين هو تاريخ التحالف الاستراتيجي العميق بينهما، حيث تعتمد عليها واشنطن في مراقبة النشاطات الاقتصادية والتجارية والعسكرية في هذه البقعة التي توليها واشنطن الأهمية القصوى. بل كانت تُعتبر مخفراً أميركيا متقدماً، تقوم القوات الأميركية - الفيليبينية المشتركة، انطلاقا منه، بجولاتٍ استطلاعية، وتنفذ تكتيكات ومناورات عسكرية سنوية، تهدف إلى ترسيخ الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، علاوة على إظهار التوثب الأميركي الدائم فيها بمثابة العصا الغليظة المرفوعة في وجه نمور المنطقة، وخصوصاً الصين. وقَمَعَ حكام الفيليبين، طوال فترة تحالفهم مع الولايات المتحدة، المعارضة الراديكالية، من دون أن يتلقوا انتقاداتٍ من واشنطن. واعتمدوا سياساتٍ اقتصادية وأجنداتٍ إعلاميةً تركِّز على نسبِ النمو التي تتحقق في البلاد، مُغْفِلين حجم الفقر والفساد الذي ينخرها، وهو ما تُغفِله عادة كذلك الصحف الأميركية، وكذلك كاتب مقالة "واشنطن بوست" المذكورة. فلم ينعكس النمو الاقتصادي الذي شهدته الفيليبين، والذي ترافق مع إصلاحاتٍ اقتصاديةٍ، نفذتها الحكومات التي أدارت البلاد بعد إطاحة حكم فرديناند ماركوس سنة 1986، تحسناً في مستوى معيشة غالبية السكان، وهو ما عزاه الرئيس دوتيرتي إلى الفساد. حيث تطرق إلى الفساد في بلاده، في الأيام الأولى التي أعقبت انتخابه قائلاً: "إن المسؤولين الفاسدين يجب أن يتقاعدوا أو يموتوا"، موجهاً الإدانة إلى النخب، بسبب الإخفاقات على هذا الصعيد، ما جعل ربع السكان يعيشون تحت خط الفقر.
وبينما يحيل الإعلام مواقف دوتيرتي، وما يتلفظ به، إلى "شعبويته الفظة"، إلا أن التفاتة إلى
وكان لافتاً لقاء دوتيرتي مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في العاصمة البيروفية ليما، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وأعلن خلاله بوتين عن استعداد الشركات الروسية الاستثمار في الفيليبين. وكانت لافتة زيارة دوتيرتي سفينة الأميرال تريبوتس الحربية الروسية، في 6 يناير/ كانون الثاني الحالي، والتي رست، مع سفينة أخرى، في مانيلا أربعة أيام. وصرح حينها بأنه يأمل في "أن تصبح روسيا حليفة بلاده وحامية لها". مع العلم أن السفير الروسي في مانيلاً أبدى، قبل يوم من الزيارة، استعداد بلاده تزويد مانيلا بأسلحة متطورة.
لا يستقيم هذا القطع الذي يريده دوتيرتي مع أميركا إلا إذا وجد حلفاء جدداً يسندون توجهه، وهو ما يبدو أنه سينجح، مع تلهُّفِ روسيا والصين لنهجه المغاير لِما ألفوه من حكام الفيليبين. ولا بد أن حرباً باردة بين بلاده وواشنطن ستظهر، إلا أن قوة داعميه الجدد ربما تخفّف من نيرانها.