"25 يناير".. مخدّرات ونوستالجيا
لم يكن الاحتفال بالخامس والعشرين من يناير في مصر، هذا العام، مثل كل الأعوام الخمسة السابقة.
في مواجهة استبداد السلطة التي تكره الثورة، ثمّة نوستالجيا غامرة ومختلفة، استبدّت بعشاق يناير، فامتدت جسور الحنين، واشتعلت الذكريات في القلوب المتعبة، فأضاءت بحكايات الفخر والزهو، وتجديد النية في الانتصار للحلم الجريح.
ثمّة مفارقةٌ لافتة، أيضاً، برحيل شاعر الأغنية المصرية الطارحة في مراعي النوستالجيا، سيد حجاب، في اليوم التالي لذكرى الثورة.
وكأن سيد قصيدة الحنين والأسى على الأحلام الضائعة يعتذر للثورة بالرحيل في عيدها، بعد أن كتب ديباجة دستور قاتليها، وهو الذي قال فيهم شعراً:
العار على المشاع
عار على البيادة والقيادة
من اللي شار واللي طرح
للي اقترح للي شرح
واللي انشرح واللي أمر واللي أطاع.
خلا هذا العام من الدعوات الموغلة في الوهم والدجل التي تتوعد بإسقاط النظام وإنهاء الانقلاب في نصف ساعة.. غاب تجار الحراك ومحترفو ترويج المخدّرات الثورية الفتاكة، وحضر الحنين الشفيف، واندلعت الذكريات على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي لقاءات الأصدقاء، تستحضر الثورة، وتعتذر لها، وتجدّد العهد باستكمال الحلم.
هذا، بحد ذاته، تطوّر ملموس، يعيد الاعتبار للمعاني والقيم، ويسحب المسألة الثورية من تجارة ومضاربة، على طريقة الأسهم في البورصة، إلى داخل حدود الروح، فتفيض الدموع وتستيقظ المشاعر الراقية.. بعيداً عن بكوات النضال الوثير، المختبئين خلف شعارات "غلابة"، يؤدون أدواراً سريعة وخاطفة في مسرحياتٍ ثورية، بلا مضمون، ثم يبتلعهم النسيان، فلا ترى لهم أثراً أو تسمع صوتاً.
هذه المرّة، جيد أن تنكفئ الثورة على جرحها، تهدهد حلمها، وتغسله بالدمع، وتعده بألا تنساه أو تتخلى عنه، وتواجه نفسها بأنها انحرفت، حين سلمها بعض رموزها وأيقوناتها المنتحرة إلى ألد خصومها، وتنحرف أكثر، إذا صدّقت أولئك الذين يدلّسون على جمهورها بأنها سوف تنهض وتنتصر، بمساعدة الخارج، إقليمياً ودولياً.
حريّ بالثورة، وهي تحظى بكل هذا الفيض من الحنين، أن تراجع مسيرة السنوات الماضية، وخصوصاً سنوات ما بعد الانقلاب، وما انتشر فيها من أوهامٍ محسوبة على بعض رافضي سلطة القهر والاستبداد. وأتوقف هنا عند وهمين كبيرين، الأول: أن القوى الإقليمية والدولية حسمت أمرها، وقرّرت التخلص من سلطة الانقلاب التي صنعتها في مصر.. هذا الوهم روّجه محترفو عمليات سياسية، مع رحيل عاهل السعودية، الملك عبد الله، وطوال عامين، ثبتت ضحالة هذا التصور وتفاهته. ولذلك، يبدو نوعاً من التدجيل والنصب على الثورة أن يُعاد طرح الوهم ذاته، مجدّداً، في مفتتح العام السابع للثورة، فيقال للناس إن الحل سيأتي من ملك السعودية الجديد، بينما الواقع على الأرض يشير إلى استبسال سلطة الانقلاب في إثبات سعودية جزيرتي تيران وصنافير، وتجليات ذلك من تولي السعودية مشاريع تنمية سيناء، وفقاً للمعلن من نظام عبد الفتاح السيسي.
ولا يقل عن ذلك خطورةً الوهم القائل إن صحوة قادمة من الدولة العميقة، جيش وشرطة وقضاء، سوف تنهي الانقلاب، وتعيد الثورة والشرعية.. هذا كلام، فضلاً عن أنه يجافي العقل، فإنه، مثل سابقه من وهم الحسم الإقليمي، لم يفعلا شيئاً سوى إطفاء جذوة الحراك في الداخل، وتنويم الغضب والثورة، حتى ظن الناس أنه لم تعد ثمّة فائدة، وأن كل شيء قد استقر، السلطة على مقاعدها الفارهة، والمعارضة على شواطئ الثرثرة والسمسرة.
يعيش عبد الفتاح السيسي في وهم كبير، حين يتصوّر أنه حين يعيش في جلباب ترامب، فهذا يضمن له البقاء، ولن يسقط.
وتعيش بعض الأطراف المحسوبة على المعارضة وهماً أكبر، حين تصر على إغراق السوق بوعود الملك الذي سيسقط الانقلاب.
وبين الوهمين، تبقى الحقيقة التي ينبغي أن تتشبث بها الثورة: لا ترامب سيطيل عمر الانقلاب، ولا ملك السعودية سيقصّره.