27 سبتمبر 2018
خط الغاز والثورة السورية... سيناريو "المؤامرة"
جرى، منذ بدء الثورة السورية، استخدام خطابٍ "مقنع" لتفسير ما يجري، فقد كان مطلوباً رفض أنها ثورة، والتأكيد على أنها مؤامرة. قام هذا الخطاب على فكرة "خط الغاز"، وجرى تأليف رواية تقول إن قطر طلبت مدّ خط أنابيب غاز إلى البحر المتوسط، وأن بشار الأسد رفض ذلك، نتيجة علاقته الجيدة مع روسيا، لأنه يُعتبر منافساً للخط الروسي الذي يغذّي أوروبا.
ولا شك في أن مسألة خطوط النفط والغاز كانت قد أخذت حيزاً من النقاش، وخضعت للمناورات بين الدول، نتيجة مصالح كل منها، فقد كان من أسباب احتلال أفغانستان مدّ خط نفط من بحر قزوين إلى المحيط الهندي عبر أفغانستان وباكستان. كما أنه جرت نقاشات وخلافات حول مدّ خط النفط من آسيا الوسطى إلى أوروبا، حيث كان الصراع يجري بين روسيا وتركيا حول أين يمكن أن يصبّ، بعد أن طرحت تركيا ميناء جيهان، وكانت روسيا تريد أن يمرّ بأراضيها.
لا ترغب روسيا في مدّ خط غاز، خصوصاً من الخليج العربي إلى البحر المتوسط، فذلك يشكّل تنافساً معها على السوق الأوروبي الذي هو أساسي بالنسبة لها. ولهذا، كانت تتخوّف من كل محاولات مدّ خطوط النفط والغاز إلى البحر المتوسط، حيث يكون سهلاً وصولها إلى أوروبا. لكن، لم يجرِ نقاش كبير حول الأمر حينها، ربما ظل "تحت الرماد"، فالأمر يشكّل حساسيةً عالية لروسيا التي يعتمد ثلثا دخلها على النفط والغاز.
ما يمكن توضيحه هنا أن النظام السوري لم يكن معنياً بالحساسية الروسية، ولم يفكّر بها أصلاً، لأن العلاقة مع روسيا لم تكن لا متطوّرة ولا حتى عادية، بل كانت باردة جداً. فقد زار بشار الأسد موسكو سنة 2008، وتكلم عن النفط والغاز والبحار الأربعة، لكنه وثّق علاقاته مع كل من قطر وتركيا، مع استمرار علاقته التقليدية مع إيران. وحين فرض الحصار الأميركي عليه توقيع اتفاق استراتيجي مع إيران، وقّع في المقابل اتفاقاً استراتيجياً مع تركيا. وقد ظهر المحور التركي السوري القطري تحالفاً موحداً، ومن خلاله قدّم بشار الأسد كل التنازلات الاقتصادية لهما. هذا هو محور الممانعة الذي يتغنى اليسار الممانع به إلى الآن.
ضمن هذه العلاقة الثلاثية المتطورة، طُرحت فكرة مدّ خط غاز إلى ميناء طرطوس. وكان البحث يجري بين كل من قطر وإيران من طرف كمصدّر للغاز، والنظام السوري بلد تصدير إلى أوروبا، مروراً بالعراق. وكان المطروح هو التصدير من حقل الغاز القطري الإيراني المشترك في الخليج. وقد جرى التوقيع على هذا الخط، على الرغم من الاعتراض الأميركي الشديد، لأن أميركا كانت تفرض الحصار على إيران، ولا تريد لها أن تصدّر الغاز، كونه يكسر الحصار. وحينها، جرى ضغط على قطر، لكي تمتنع عن المشاركة في الخط.
يوضح هذا الأمر أن النظام السوري لم يكن يرفض "خط الغاز"، بل وقّع عليه، ومن ضغط لمنعه هو أميركا. توقيع إيران والنظام مثبت، وهو ما أقرّه بشار الأسد أخيراً، حين قال "كان هناك خطان سيعبران سورية، أحدهما من الشمال إلى الجنوب يتعلق بقطر، والثاني من الشرق إلى الغرب إلى البحر المتوسط يعبر العراق من إيران، كنا نعتزم مد ذلك الخط من الشرق إلى الغرب".
جرى إخفاء هذه الوقائع بعد الثورة، بالضبط من أجل اختراع سبب يبرّر التآمر على النظام. ولا شك في أن مقابلة بشار الأسد مع صحيفة إيل جورنالي (30/ 12/ 2016، والنص منقول عن وكالة الأنباء السورية "سانا") توضّح هذه الفبركة. فمن الواضح أنه ارتبك حين سؤال الجريدة له حول "خط الغاز القطري". لهذا أجاب بطريقة مضحكة. قال "أعتقد أن هناك دولاً كانت تعارض سياسة سورية، لم ترغب بأن تصبح سورية مركزاً للطاقة، سواء كانت كهربائية أو نفطية، أو حتى أن تصبح نقطة تقاطع للسكك الحديدية، وما إلى ذلك، هذا أحد العوامل، لكن الخط المتجه من الشمال إلى الجنوب، وعلاقته بقطر لم يطرح علينا بشكل مباشر". على الرغم من أنه يقول "كان أحد العوامل المهمة، لكنه لم يعرض علينا بشكل علني، لكني أعتقد أنه كان مخططاً له". هو يعتقد أنه "كان مخططاً له"، وأنه قال "لا" لما كان يعتقد أنه كان مخططاً له. تحاول هذه الإجابة التوفيق بين الرواية المخترعة والواقع، حيث إن ما يؤكده هو أنه لم يُطرح مشروع مدّ خط أنابيب من "الشمال إلى الجنوب" (وليس من الجنوب إلى الشمال). وبالتالي، لم يقل "لا" على ما لم يُطرح عليه. ما طُرح هو خط أنابيب من الخليج عبر العراق إلى طرطوس، وبتشارك إيراني قطري، ولقد قال "نعم"، ووقع الاتفاق.
وفي جوّ الود الكبير الذي كان قائماً مع قطر، كان من الطبيعي أن يقول النظام "نعم"، فقد قدّم لقطر مشاريع اقتصادية عديدة، وسمح للاقتصاد التركي أن يسهم في تدمير قطاعاتٍ اقتصادية في سورية. كلام بشار الأسد واضح في موافقته، وتأكيده عدم معرفته بخط "شمال/ جنوب" (أو أن قطر لم تطرحه)، ويبدو من ذلك أنه حاول التأكيد على أن خط الغاز كان سبب "المؤامرة" التي يفرح باعتبارها كذلك، لكنه نفى أصلاً وجود مشروع خط أنابيب مطروح عليه. لهذا، تبدو الـ "لا" التي يقولها في المقابلة هي ضمن السيناريو المكتوب كخطاب يبرّر "المؤامرة" بعد نشوب الثورة، وليس لأنه قالها في الواقع، فقد أكد أن الأمر لم يطرح عليه "بشكل مباشر"، وهو يعتقد "أنه كان مخططاً له". لتبدو المسألة هنا مسألة "اعتقاد". والفرق كبير بين أنه كان هناك مشروع لمدّ خط أنابيب من الشمال إلى الجنوب، وطُرح عليه فرفضه، وبين أن المسألة لم تخرج عن مسألة الاعتقاد. هذا هو التخريج بين حقيقةٍ تتمثل في أنه لم يُطرح مشروع خط شمال/ جنوب، وبين السيناريو الذي بني على أن المشروع كان حقيقة، وكان سبب "المؤامرة. وكان السيناريو يحتاج إلى سبب، لكي يقول إن ما يجري ليس ثورة، بل مؤامرة نتيجة رفض مدّ خط أنابيب الغاز من قطر إلى تركيا مروراً بسورية. لكن تصريح "الرئيس" يقول إن المشروع لم يُطرح "بشكل مباشر"، وبالتالي، لم يكن بحاجة لقول "لا" مع حلفاء "حقيقيين"، و"أصدقاء كبار". وربما يمكن سرد كثيرٍ من كلمات التبجيل والتعظيم التي كانت ترد في التصريحات وفي الخطاب الإعلامي، وتُترجم بمشاريع اقتصادية فعلية.
ولا شك في أن الطرف الذي كان يرفض هو أميركا، بالضبط لأنه خط مشترك قطري إيراني، وهذا ما أقرّ بشار الأسد أنه وافق عليه. وكذلك روسيا التي كانت تتخوّف من نجاح المشروع، لأنها لا تريد منافساً لها في السوق الأوروبية التي تتعامل معها بوصفها احتكاراً خاصاً. وإذا كانت روسيا ترفض خط شمال/ جنوب، لأنه يمدّ الغاز إلى أوروبا، فأجدى أن ترفض كذلك خط شرق/ غرب، لأنه ينافس الخط الروسي. ولو كان الأسد رفض الخط الأول، نتيجة مراعاة "الرفاق الروس"، فأجدى أن يرفض الخط الثاني للسبب نفسه. ما أقصده أن النظام لم يكن حينها يأخذ في الحسبان الموقف الروسي، لأن علاقته بها كانت "في أدنى مستوياتها"، ولم يزرها سوى مرة، بينما زار أوروبا مرات عديدة (وهذا ما قاله بوتين في أحد تصريحاته، ليشير إلى أن العلاقة مع النظام لم تكن جيدة قبل الثورة). وقد كان حلف النظام هو تركيا/ قطر وإيران، وكانت العلاقة مع أميركا قد عادت إلى مجاريها "وأفضل"، كما قال السفير السوري في واشنطن سنة 2010.
لهذا، حين يشير بشار الأسد، في مقابلته مع الصحيفة الإيطالية، إلى أنه يعتقد "أن هناك العديد من الدول التي كانت تعارض سياسة سورية لم ترغب بأن تصبح سورية مركزاً للطاقة، سواء كانت كهربائية أو نفطية، أو حتى أن تصبح نقطة تقاطع للسكك الحديدية، وما إلى ذلك"، فلا شك أن من بين هؤلاء روسيا بالتحديد (وليس قطر الصديقة حينها)، لأنها تريد احتكار تزويد أوروبا بالنفط والغاز، ولا تريد منافسةً من أطراف أخرى. وكل المشاريع التي طُرحت لتصدير نفط وغاز آسيا الوسطى، والخليج، كانت تصطدم بالموقف الروسي. فاعتماد روسيا على النفط والغاز جعلها تحاول احتكار الأسواق، لكي تضمن تسويقه من دون منافسين. وعلى الرغم من أنها بحثت عن أسواقٍ عديدة مثل الصين، إلا أن اعتمادها الأساس حينها كان على السوق الأوروبي، وقد ظهر ذلك، حين أوقف خط الأنابيب المارّ من أوكرانيا، بعد العقوبات عليها، وباتت هي تبحث عن منفذ تركي.
واضحٌ، إذن، أن روسيا من الدول التي كانت لا ترغب أن تصبح سورية مركزاً للطاقة، وهذا أحد الأسباب الجوهرية التي فرضت التدخل العسكري في سورية، وتوقيع اتفاق مع النظام هو اتفاق احتلال روسي طويل الأمد، فهي تريد التحكّم في خطوط النفط والغاز، وهذا ينطبق على إيران كما على قطر. وبالتالي، لن يُنفّذ المشروع الذي وقع عليه الأسد لخط الأنابيب من الشرق إلى الغرب، لهذا السبب بالذات، بعد أن باتت روسيا المتحكّم بالنفط والغاز السوري، وكذلك بطرق المواصلات إلى البحر المتوسط. هل نعتبر أن ما جرى في سورية "مؤامرة روسية"؟ بالتأكيد لا، لكن روسيا استغلت الوضع، لكي تتدخل وتفرض حضورها، وتتحكّم بالقرار السياسي في دمشق. ومن ضمن أهدافها منع نشوء خط الغاز.
إذا كان النظام وأنصاره قد كتبوا سيناريو "الحرب على الغاز"، فقد وضعوا أحد الأسس التي يمكن على ضوئها فهم التدخل العسكري الروسي، والوحشية التي تمارسها ضد الشعب السوري، ومن ثم الاتفاق حول احتلالٍ طويل الأمد. فروسيا تستشرس من أجل منع كل محاولات مدّ خطوط نفطٍ إلى أوروبا، وهم داخلون في صراع عنيف من أجل التحكّم بسوق النفط والغاز. على الرغم من أن التطورات لم تكن في صالحهم نتيجة انهيار أسعار النفط. لكن، لا شك في أن التدخل في سورية كان يحمل الميل إلى منع "خط الغاز"، ليس القطري فقط بل الإيراني كذلك.
ألّف أيديولوجيو النظام "قصة خط أنابيب الغاز" من أجل القول إن ما جرى في سورية مؤامرة "قطرية"، بسبب رفض النظام مدّ خط أنابيب الغاز "من الشمال إلى الجنوب"، كما قال بشار الأسد قالباً الأمر، وهو القلب الذي يوضّح جوهر الأمر، أي أن هذا الأمر لم يُطرح، وأنه وافق على خط من الشرق إلى الغرب، من دون حساب لمصالح روسيا، بالضبط لأنها كانت خارج الحساب بالنسبة له، حيث كانت حساباته تتمحور حول كل من تركيا وقطر وإيران. وبالتالي، ينكشف أن هذا "التأليف" كان هزيلاً، ربما أقنع "مؤيدين"، لكنه لا يقنع غيرهم، وأنه كان يفرض تفسير الماضي باللاحق، أي تفسير الموقف من قطر وتركيا، بما كان يجب أن يقال عنهم بعد الثورة، وليس كما كان حقيقةً قبلها. بالضبط لربط الثورة بهما، ومن خلفهما أميركا. لكن، يشير كل سياق الواقع إلى غير ذلك، إلا لمن يمتلك "عقل سمكة" فينسى ما كان قبل يوم أو أسبوع، ليتمسّك بالرواية الرائجة اليوم، وبما تخدم من مصالح. ولا شك في أن ارتباكات تصريح بشار الأسد تشي بذلك كله، وتكشف ما حاول "التأليف" إخفاءه، وهو أنه لم يكن هناك خط غاز قطري، بل إن الخط المطلوب كانت قد جرت الموافقة عليه، وقطر جزء منه.
الذي يتدخل وفي رؤيته التحكّم بخطوط النفط والغاز هو روسيا، روسيا الإمبريالية التي تريد احتكار النفط والغاز، وهذا ما يجعلها حريصةً على السيطرة على "الشرق الأوسط".
ولا شك في أن مسألة خطوط النفط والغاز كانت قد أخذت حيزاً من النقاش، وخضعت للمناورات بين الدول، نتيجة مصالح كل منها، فقد كان من أسباب احتلال أفغانستان مدّ خط نفط من بحر قزوين إلى المحيط الهندي عبر أفغانستان وباكستان. كما أنه جرت نقاشات وخلافات حول مدّ خط النفط من آسيا الوسطى إلى أوروبا، حيث كان الصراع يجري بين روسيا وتركيا حول أين يمكن أن يصبّ، بعد أن طرحت تركيا ميناء جيهان، وكانت روسيا تريد أن يمرّ بأراضيها.
لا ترغب روسيا في مدّ خط غاز، خصوصاً من الخليج العربي إلى البحر المتوسط، فذلك يشكّل تنافساً معها على السوق الأوروبي الذي هو أساسي بالنسبة لها. ولهذا، كانت تتخوّف من كل محاولات مدّ خطوط النفط والغاز إلى البحر المتوسط، حيث يكون سهلاً وصولها إلى أوروبا. لكن، لم يجرِ نقاش كبير حول الأمر حينها، ربما ظل "تحت الرماد"، فالأمر يشكّل حساسيةً عالية لروسيا التي يعتمد ثلثا دخلها على النفط والغاز.
ما يمكن توضيحه هنا أن النظام السوري لم يكن معنياً بالحساسية الروسية، ولم يفكّر بها أصلاً، لأن العلاقة مع روسيا لم تكن لا متطوّرة ولا حتى عادية، بل كانت باردة جداً. فقد زار بشار الأسد موسكو سنة 2008، وتكلم عن النفط والغاز والبحار الأربعة، لكنه وثّق علاقاته مع كل من قطر وتركيا، مع استمرار علاقته التقليدية مع إيران. وحين فرض الحصار الأميركي عليه توقيع اتفاق استراتيجي مع إيران، وقّع في المقابل اتفاقاً استراتيجياً مع تركيا. وقد ظهر المحور التركي السوري القطري تحالفاً موحداً، ومن خلاله قدّم بشار الأسد كل التنازلات الاقتصادية لهما. هذا هو محور الممانعة الذي يتغنى اليسار الممانع به إلى الآن.
ضمن هذه العلاقة الثلاثية المتطورة، طُرحت فكرة مدّ خط غاز إلى ميناء طرطوس. وكان البحث يجري بين كل من قطر وإيران من طرف كمصدّر للغاز، والنظام السوري بلد تصدير إلى أوروبا، مروراً بالعراق. وكان المطروح هو التصدير من حقل الغاز القطري الإيراني المشترك في الخليج. وقد جرى التوقيع على هذا الخط، على الرغم من الاعتراض الأميركي الشديد، لأن أميركا كانت تفرض الحصار على إيران، ولا تريد لها أن تصدّر الغاز، كونه يكسر الحصار. وحينها، جرى ضغط على قطر، لكي تمتنع عن المشاركة في الخط.
يوضح هذا الأمر أن النظام السوري لم يكن يرفض "خط الغاز"، بل وقّع عليه، ومن ضغط لمنعه هو أميركا. توقيع إيران والنظام مثبت، وهو ما أقرّه بشار الأسد أخيراً، حين قال "كان هناك خطان سيعبران سورية، أحدهما من الشمال إلى الجنوب يتعلق بقطر، والثاني من الشرق إلى الغرب إلى البحر المتوسط يعبر العراق من إيران، كنا نعتزم مد ذلك الخط من الشرق إلى الغرب".
جرى إخفاء هذه الوقائع بعد الثورة، بالضبط من أجل اختراع سبب يبرّر التآمر على النظام. ولا شك في أن مقابلة بشار الأسد مع صحيفة إيل جورنالي (30/ 12/ 2016، والنص منقول عن وكالة الأنباء السورية "سانا") توضّح هذه الفبركة. فمن الواضح أنه ارتبك حين سؤال الجريدة له حول "خط الغاز القطري". لهذا أجاب بطريقة مضحكة. قال "أعتقد أن هناك دولاً كانت تعارض سياسة سورية، لم ترغب بأن تصبح سورية مركزاً للطاقة، سواء كانت كهربائية أو نفطية، أو حتى أن تصبح نقطة تقاطع للسكك الحديدية، وما إلى ذلك، هذا أحد العوامل، لكن الخط المتجه من الشمال إلى الجنوب، وعلاقته بقطر لم يطرح علينا بشكل مباشر". على الرغم من أنه يقول "كان أحد العوامل المهمة، لكنه لم يعرض علينا بشكل علني، لكني أعتقد أنه كان مخططاً له". هو يعتقد أنه "كان مخططاً له"، وأنه قال "لا" لما كان يعتقد أنه كان مخططاً له. تحاول هذه الإجابة التوفيق بين الرواية المخترعة والواقع، حيث إن ما يؤكده هو أنه لم يُطرح مشروع مدّ خط أنابيب من "الشمال إلى الجنوب" (وليس من الجنوب إلى الشمال). وبالتالي، لم يقل "لا" على ما لم يُطرح عليه. ما طُرح هو خط أنابيب من الخليج عبر العراق إلى طرطوس، وبتشارك إيراني قطري، ولقد قال "نعم"، ووقع الاتفاق.
وفي جوّ الود الكبير الذي كان قائماً مع قطر، كان من الطبيعي أن يقول النظام "نعم"، فقد قدّم لقطر مشاريع اقتصادية عديدة، وسمح للاقتصاد التركي أن يسهم في تدمير قطاعاتٍ اقتصادية في سورية. كلام بشار الأسد واضح في موافقته، وتأكيده عدم معرفته بخط "شمال/ جنوب" (أو أن قطر لم تطرحه)، ويبدو من ذلك أنه حاول التأكيد على أن خط الغاز كان سبب "المؤامرة" التي يفرح باعتبارها كذلك، لكنه نفى أصلاً وجود مشروع خط أنابيب مطروح عليه. لهذا، تبدو الـ "لا" التي يقولها في المقابلة هي ضمن السيناريو المكتوب كخطاب يبرّر "المؤامرة" بعد نشوب الثورة، وليس لأنه قالها في الواقع، فقد أكد أن الأمر لم يطرح عليه "بشكل مباشر"، وهو يعتقد "أنه كان مخططاً له". لتبدو المسألة هنا مسألة "اعتقاد". والفرق كبير بين أنه كان هناك مشروع لمدّ خط أنابيب من الشمال إلى الجنوب، وطُرح عليه فرفضه، وبين أن المسألة لم تخرج عن مسألة الاعتقاد. هذا هو التخريج بين حقيقةٍ تتمثل في أنه لم يُطرح مشروع خط شمال/ جنوب، وبين السيناريو الذي بني على أن المشروع كان حقيقة، وكان سبب "المؤامرة. وكان السيناريو يحتاج إلى سبب، لكي يقول إن ما يجري ليس ثورة، بل مؤامرة نتيجة رفض مدّ خط أنابيب الغاز من قطر إلى تركيا مروراً بسورية. لكن تصريح "الرئيس" يقول إن المشروع لم يُطرح "بشكل مباشر"، وبالتالي، لم يكن بحاجة لقول "لا" مع حلفاء "حقيقيين"، و"أصدقاء كبار". وربما يمكن سرد كثيرٍ من كلمات التبجيل والتعظيم التي كانت ترد في التصريحات وفي الخطاب الإعلامي، وتُترجم بمشاريع اقتصادية فعلية.
ولا شك في أن الطرف الذي كان يرفض هو أميركا، بالضبط لأنه خط مشترك قطري إيراني، وهذا ما أقرّ بشار الأسد أنه وافق عليه. وكذلك روسيا التي كانت تتخوّف من نجاح المشروع، لأنها لا تريد منافساً لها في السوق الأوروبية التي تتعامل معها بوصفها احتكاراً خاصاً. وإذا كانت روسيا ترفض خط شمال/ جنوب، لأنه يمدّ الغاز إلى أوروبا، فأجدى أن ترفض كذلك خط شرق/ غرب، لأنه ينافس الخط الروسي. ولو كان الأسد رفض الخط الأول، نتيجة مراعاة "الرفاق الروس"، فأجدى أن يرفض الخط الثاني للسبب نفسه. ما أقصده أن النظام لم يكن حينها يأخذ في الحسبان الموقف الروسي، لأن علاقته بها كانت "في أدنى مستوياتها"، ولم يزرها سوى مرة، بينما زار أوروبا مرات عديدة (وهذا ما قاله بوتين في أحد تصريحاته، ليشير إلى أن العلاقة مع النظام لم تكن جيدة قبل الثورة). وقد كان حلف النظام هو تركيا/ قطر وإيران، وكانت العلاقة مع أميركا قد عادت إلى مجاريها "وأفضل"، كما قال السفير السوري في واشنطن سنة 2010.
لهذا، حين يشير بشار الأسد، في مقابلته مع الصحيفة الإيطالية، إلى أنه يعتقد "أن هناك العديد من الدول التي كانت تعارض سياسة سورية لم ترغب بأن تصبح سورية مركزاً للطاقة، سواء كانت كهربائية أو نفطية، أو حتى أن تصبح نقطة تقاطع للسكك الحديدية، وما إلى ذلك"، فلا شك أن من بين هؤلاء روسيا بالتحديد (وليس قطر الصديقة حينها)، لأنها تريد احتكار تزويد أوروبا بالنفط والغاز، ولا تريد منافسةً من أطراف أخرى. وكل المشاريع التي طُرحت لتصدير نفط وغاز آسيا الوسطى، والخليج، كانت تصطدم بالموقف الروسي. فاعتماد روسيا على النفط والغاز جعلها تحاول احتكار الأسواق، لكي تضمن تسويقه من دون منافسين. وعلى الرغم من أنها بحثت عن أسواقٍ عديدة مثل الصين، إلا أن اعتمادها الأساس حينها كان على السوق الأوروبي، وقد ظهر ذلك، حين أوقف خط الأنابيب المارّ من أوكرانيا، بعد العقوبات عليها، وباتت هي تبحث عن منفذ تركي.
واضحٌ، إذن، أن روسيا من الدول التي كانت لا ترغب أن تصبح سورية مركزاً للطاقة، وهذا أحد الأسباب الجوهرية التي فرضت التدخل العسكري في سورية، وتوقيع اتفاق مع النظام هو اتفاق احتلال روسي طويل الأمد، فهي تريد التحكّم في خطوط النفط والغاز، وهذا ينطبق على إيران كما على قطر. وبالتالي، لن يُنفّذ المشروع الذي وقع عليه الأسد لخط الأنابيب من الشرق إلى الغرب، لهذا السبب بالذات، بعد أن باتت روسيا المتحكّم بالنفط والغاز السوري، وكذلك بطرق المواصلات إلى البحر المتوسط. هل نعتبر أن ما جرى في سورية "مؤامرة روسية"؟ بالتأكيد لا، لكن روسيا استغلت الوضع، لكي تتدخل وتفرض حضورها، وتتحكّم بالقرار السياسي في دمشق. ومن ضمن أهدافها منع نشوء خط الغاز.
إذا كان النظام وأنصاره قد كتبوا سيناريو "الحرب على الغاز"، فقد وضعوا أحد الأسس التي يمكن على ضوئها فهم التدخل العسكري الروسي، والوحشية التي تمارسها ضد الشعب السوري، ومن ثم الاتفاق حول احتلالٍ طويل الأمد. فروسيا تستشرس من أجل منع كل محاولات مدّ خطوط نفطٍ إلى أوروبا، وهم داخلون في صراع عنيف من أجل التحكّم بسوق النفط والغاز. على الرغم من أن التطورات لم تكن في صالحهم نتيجة انهيار أسعار النفط. لكن، لا شك في أن التدخل في سورية كان يحمل الميل إلى منع "خط الغاز"، ليس القطري فقط بل الإيراني كذلك.
ألّف أيديولوجيو النظام "قصة خط أنابيب الغاز" من أجل القول إن ما جرى في سورية مؤامرة "قطرية"، بسبب رفض النظام مدّ خط أنابيب الغاز "من الشمال إلى الجنوب"، كما قال بشار الأسد قالباً الأمر، وهو القلب الذي يوضّح جوهر الأمر، أي أن هذا الأمر لم يُطرح، وأنه وافق على خط من الشرق إلى الغرب، من دون حساب لمصالح روسيا، بالضبط لأنها كانت خارج الحساب بالنسبة له، حيث كانت حساباته تتمحور حول كل من تركيا وقطر وإيران. وبالتالي، ينكشف أن هذا "التأليف" كان هزيلاً، ربما أقنع "مؤيدين"، لكنه لا يقنع غيرهم، وأنه كان يفرض تفسير الماضي باللاحق، أي تفسير الموقف من قطر وتركيا، بما كان يجب أن يقال عنهم بعد الثورة، وليس كما كان حقيقةً قبلها. بالضبط لربط الثورة بهما، ومن خلفهما أميركا. لكن، يشير كل سياق الواقع إلى غير ذلك، إلا لمن يمتلك "عقل سمكة" فينسى ما كان قبل يوم أو أسبوع، ليتمسّك بالرواية الرائجة اليوم، وبما تخدم من مصالح. ولا شك في أن ارتباكات تصريح بشار الأسد تشي بذلك كله، وتكشف ما حاول "التأليف" إخفاءه، وهو أنه لم يكن هناك خط غاز قطري، بل إن الخط المطلوب كانت قد جرت الموافقة عليه، وقطر جزء منه.
الذي يتدخل وفي رؤيته التحكّم بخطوط النفط والغاز هو روسيا، روسيا الإمبريالية التي تريد احتكار النفط والغاز، وهذا ما يجعلها حريصةً على السيطرة على "الشرق الأوسط".