31 أكتوبر 2024
إعلان استئناف الحروب الصليبية
(1)
منذ مائة عام تقريبا، وتحديدا يوم 9/12/1917، سقطت القدس في يد البريطانيين، وهزم جنود الإمبراطورية العثمانية. يومها قال الجنرال أللنبي: اليوم انتهت الحروب الصليبية.. وبعد مائة عام تقريبا، أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وبالتحديد يوم الأربعاء 6/12/2017 القدس عاصمة لإسرائيل، معلنا "استئناف الحروب الصليبية".
الفرق بين التاريخين، إعلان أللنبي وإعلان ترامب، خلاف بين مؤرخين، وربما فرق توقيت زمني، ولم يكن اختيار ترامب هذا التاريخ مصادفة، فقد مرّت سنة على ولايته رئيسا لأميركا، وانتظر حتى حلول "الذكرى" كي يعلن قراره.
وحتى لو كان توقيت الإعلان مصادفة، أو له علاقة بالموعد الذي يتعين فيه على رئيس البيت الأبيض التوقيع على قرار تأجيل نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، كما دأب أسلافه كل ستة أشهر، منذ عشرين عاما، امتثالا لقرار من الكونغرس، فثمة علاقة وطيدة بين ما فعله ترامب ورمزية إعلان أللنبي، ومن بعده الجنرال الفرنسي غورو، حينما احتل مدينة دمشق، وزار قبر صلاح الدين الأيوبي، وركله قائلا: ها قد عدنا يا صلاح الدين.
(2)
قد يرى بعضهم أن ثمّة ربطا متعسفا بين الدين والسياسة في الحدث الذي ألهب مشاعر ملايين المسلمين، لكن المطلعين على بواطن الأمور من الكتّاب والباحثين، والذين ينبشون فيما وراء الحدث، يعلمون أن قرار ترامب، وإن كان سياسيا بحتا، إلا أن له أبعادا ودوافع دينية، (واقتصادية أيضا!). وقد كتب في هذا كثيرون، وهم يقولون إن ترامب شأنه شأن أسلافه، مثل بوش الابن وريغان، كانوا جزءا من منظومة سياسية دينية تدين بالولاء لطائفة الصهيونيين الإنجيليين، تقول إنها تعد في الولايات المتحدة أكثر من سبعين مليونا، معظمهم من مؤيدي ترامب وجماعته، وينتمي لهذه الطائفة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، حيث صوت ما نسبته 81% منهم لترامب. وبنس، كما هو معروف، يرعى تنظيم دروس توراتية أسبوعية في البيت الأبيض. وقد تبنى الرئيس الأميركي أجندة اليمين المسيحي في عدة قضايا، مثل تعيين القضاة المحافظين ومعارضة الإجهاض وطريقة الاحتفال بعيد الميلاد. لكن أكثر هذه القضايا أهمية هي علاقة إسرائيل بالقدس. ووفق ما صرح جوني مور، الناطق باسم مجموعة المستشارين الإنجيليين للرئيس ترامب، لقناة سي إن إن" أن الرئيس "أثبت للمؤيدين الإنجيليين أنه يقول ما يفعل ويفعل ما يقول".
وفيما عارض الزعماء المسيحيون، بمن فيهم البابا فرانسيس، خطة ترامب لخشيتهم من أن تؤدي إلى إزهاق مزيد من الأرواح في المنطقة، فإن الأمر يختلف بالنسبة للإنجيليين الذين فرحوا بإعلان الرئيس الأميركي. وقد علقت باولا وايت، وهي أحد القساوسة المشرفين على مركز نيو ديستيني الإنجيلي، على قرار ترامب بقولها: "نحن الإنجيليين في حالة نشوة، لأن إسرائيل بالنسبة لنا أرض مقدسة، والشعب اليهودي أغلى صديق لنا".
(3)
يقول الباحثون إن أهمية القدس بالنسبة للمحافظين الإنجيليين مستمدّة من قراءاتهم للعهد القديم. في سفر 17:8 يعِدُ اليهود بملكية الأرض المقدسة، حيث يقول: "سأمنحك وذريتك من بعدك ملكية دائمة لأرض كنعان كلها، حيث تقيم الآن غريبا". ويرى إنجيليون عديدون في الكيان الصهيوني "تحقيقا لوعد توراتي لشعب الله المختار". وبالنسبة للأصوليين المسيحيين، فإن القدس في قلب تحقق النبوءة التوراتية عند اقتراب الساعة، حين يصبح ما يسمونه "جبل الهيكل" في القدس تحت السيطرة اليهودية المسيحية. فهم يعتقدون أن إعادة بناء الهيكل الثالث والأخير مكان المسجد الأقصى، قبلة المسلمين الأولى وثالث الحرمين، يحقّق النبوءة التوراتية. حيث "يعود" السيد المسيح، ويحكم الأرض مدة ألف عام، بعد أن يبيد "الكفار" (يعني نحن المسلمين!) في معركة هارمجدون الموعودة.
(4)
ويحق لنا بعد هذا، أن نسأل: من هم المتطرّفون، والأصوليون، والمهووسون دينيا؟ نحن أم هم؟ بل أي فكر داعشي يحكم البيت الأبيض، هذه الأيام؟
حينما يزلّ لسان زعيم عربي أو مسلم، بآية من آيات الجهاد، أو يستشهد بواقعة فيها رائحة كبرياء وكرامة، تستدعي تاريخا كانت فيه هذه الأمة تعيش عزّها، يُسارع الإعلام، ومن يحرّكه، إلى تدبيج التهم له، على اعتبار أنه رجل "مهووس دينيا". أما حينما يتفاخر ترامب بحضور مراسيم احتفال اليهود بعيد "الأنوار" أو الحانوكاه، فلا يجرؤ أحد من القوم بفتح فمه، بل يمتدحون وقاحته يوم أعلن، من قلب جزيرة العرب، أن أحد أهم مهامه القضاء على ما سمّاه "التطرّف الإسلامي".
لم يخدع ترامب أحدا، فقد كان وفيا للشعار الذي رفعه إبّان حملته الانتخابية، حينما أكد أن وقف انتشار "التطرّف الإسلامي" سيكون أولوية إدارته، في حال فوزه بمنصب الرئيس. وقال غير مرة إن "احتواء انتشار التطرّف الإسلامي أحد أهم أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة وكذلك العالم". والحقيقة أن استهداف ترامب الإسلام هو في العموم، وما ربطه بالتطرّف إلا حيلة بلاغية، لإخفاء حقيقة مشاعره تجاه هذا الدين وأهله.
ترامب، بإعلانه الاعتراف بنقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، يدشّن مرحلة جديدة من المواجهة بين الشرق والغرب، بين بلاده وأمة الإسلام. صحيح أن هذه الأمة الآن تبدو في أضعف حالاتها، لكنني أجازف وأقول إن بلادنا كانت تعيش الظروف نفسها، إن لم يكن أسوأ، حينما حرّر صلاح الدين بيت المقدس.
الفرق بين التاريخين، إعلان أللنبي وإعلان ترامب، خلاف بين مؤرخين، وربما فرق توقيت زمني، ولم يكن اختيار ترامب هذا التاريخ مصادفة، فقد مرّت سنة على ولايته رئيسا لأميركا، وانتظر حتى حلول "الذكرى" كي يعلن قراره.
وحتى لو كان توقيت الإعلان مصادفة، أو له علاقة بالموعد الذي يتعين فيه على رئيس البيت الأبيض التوقيع على قرار تأجيل نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، كما دأب أسلافه كل ستة أشهر، منذ عشرين عاما، امتثالا لقرار من الكونغرس، فثمة علاقة وطيدة بين ما فعله ترامب ورمزية إعلان أللنبي، ومن بعده الجنرال الفرنسي غورو، حينما احتل مدينة دمشق، وزار قبر صلاح الدين الأيوبي، وركله قائلا: ها قد عدنا يا صلاح الدين.
(2)
قد يرى بعضهم أن ثمّة ربطا متعسفا بين الدين والسياسة في الحدث الذي ألهب مشاعر ملايين المسلمين، لكن المطلعين على بواطن الأمور من الكتّاب والباحثين، والذين ينبشون فيما وراء الحدث، يعلمون أن قرار ترامب، وإن كان سياسيا بحتا، إلا أن له أبعادا ودوافع دينية، (واقتصادية أيضا!). وقد كتب في هذا كثيرون، وهم يقولون إن ترامب شأنه شأن أسلافه، مثل بوش الابن وريغان، كانوا جزءا من منظومة سياسية دينية تدين بالولاء لطائفة الصهيونيين الإنجيليين، تقول إنها تعد في الولايات المتحدة أكثر من سبعين مليونا، معظمهم من مؤيدي ترامب وجماعته، وينتمي لهذه الطائفة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، حيث صوت ما نسبته 81% منهم لترامب. وبنس، كما هو معروف، يرعى تنظيم دروس توراتية أسبوعية في البيت الأبيض. وقد تبنى الرئيس الأميركي أجندة اليمين المسيحي في عدة قضايا، مثل تعيين القضاة المحافظين ومعارضة الإجهاض وطريقة الاحتفال بعيد الميلاد. لكن أكثر هذه القضايا أهمية هي علاقة إسرائيل بالقدس. ووفق ما صرح جوني مور، الناطق باسم مجموعة المستشارين الإنجيليين للرئيس ترامب، لقناة سي إن إن" أن الرئيس "أثبت للمؤيدين الإنجيليين أنه يقول ما يفعل ويفعل ما يقول".
وفيما عارض الزعماء المسيحيون، بمن فيهم البابا فرانسيس، خطة ترامب لخشيتهم من أن تؤدي إلى إزهاق مزيد من الأرواح في المنطقة، فإن الأمر يختلف بالنسبة للإنجيليين الذين فرحوا بإعلان الرئيس الأميركي. وقد علقت باولا وايت، وهي أحد القساوسة المشرفين على مركز نيو ديستيني الإنجيلي، على قرار ترامب بقولها: "نحن الإنجيليين في حالة نشوة، لأن إسرائيل بالنسبة لنا أرض مقدسة، والشعب اليهودي أغلى صديق لنا".
(3)
يقول الباحثون إن أهمية القدس بالنسبة للمحافظين الإنجيليين مستمدّة من قراءاتهم للعهد القديم. في سفر 17:8 يعِدُ اليهود بملكية الأرض المقدسة، حيث يقول: "سأمنحك وذريتك من بعدك ملكية دائمة لأرض كنعان كلها، حيث تقيم الآن غريبا". ويرى إنجيليون عديدون في الكيان الصهيوني "تحقيقا لوعد توراتي لشعب الله المختار". وبالنسبة للأصوليين المسيحيين، فإن القدس في قلب تحقق النبوءة التوراتية عند اقتراب الساعة، حين يصبح ما يسمونه "جبل الهيكل" في القدس تحت السيطرة اليهودية المسيحية. فهم يعتقدون أن إعادة بناء الهيكل الثالث والأخير مكان المسجد الأقصى، قبلة المسلمين الأولى وثالث الحرمين، يحقّق النبوءة التوراتية. حيث "يعود" السيد المسيح، ويحكم الأرض مدة ألف عام، بعد أن يبيد "الكفار" (يعني نحن المسلمين!) في معركة هارمجدون الموعودة.
(4)
ويحق لنا بعد هذا، أن نسأل: من هم المتطرّفون، والأصوليون، والمهووسون دينيا؟ نحن أم هم؟ بل أي فكر داعشي يحكم البيت الأبيض، هذه الأيام؟
حينما يزلّ لسان زعيم عربي أو مسلم، بآية من آيات الجهاد، أو يستشهد بواقعة فيها رائحة كبرياء وكرامة، تستدعي تاريخا كانت فيه هذه الأمة تعيش عزّها، يُسارع الإعلام، ومن يحرّكه، إلى تدبيج التهم له، على اعتبار أنه رجل "مهووس دينيا". أما حينما يتفاخر ترامب بحضور مراسيم احتفال اليهود بعيد "الأنوار" أو الحانوكاه، فلا يجرؤ أحد من القوم بفتح فمه، بل يمتدحون وقاحته يوم أعلن، من قلب جزيرة العرب، أن أحد أهم مهامه القضاء على ما سمّاه "التطرّف الإسلامي".
لم يخدع ترامب أحدا، فقد كان وفيا للشعار الذي رفعه إبّان حملته الانتخابية، حينما أكد أن وقف انتشار "التطرّف الإسلامي" سيكون أولوية إدارته، في حال فوزه بمنصب الرئيس. وقال غير مرة إن "احتواء انتشار التطرّف الإسلامي أحد أهم أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة وكذلك العالم". والحقيقة أن استهداف ترامب الإسلام هو في العموم، وما ربطه بالتطرّف إلا حيلة بلاغية، لإخفاء حقيقة مشاعره تجاه هذا الدين وأهله.
ترامب، بإعلانه الاعتراف بنقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، يدشّن مرحلة جديدة من المواجهة بين الشرق والغرب، بين بلاده وأمة الإسلام. صحيح أن هذه الأمة الآن تبدو في أضعف حالاتها، لكنني أجازف وأقول إن بلادنا كانت تعيش الظروف نفسها، إن لم يكن أسوأ، حينما حرّر صلاح الدين بيت المقدس.