28 مايو 2019
مسرح المصالحة
أشرف أبوخصيوان (فلسطين)
أخيرا، أصبح قطاع غزة مثل دار السينما، حضرت الجماهير والمتابعون والأنصار وأصحاب المزاج، لحضور فيلمهم المفضل، أحضروا معهم صغارهم، وقطعوا التذاكر واصطفوا في طابور طويل في انتظار ساعة الصفر، فتحت السينما أبوابها، وأطفأت أنوارها، وجلس المحبون والعاشقون والمتابعون في حالة من الترقب، ساد الصمت القاعة، وطال أمده في انتظار كشف الستار عن فيلهم المفضل، والذي يحمل اسما مشوّقا له صدى طويل، واستمرت الإعلانات والحوارات والنقاشات والتفاهمات والاتفاقيات عشرة أعوام وأكثر، وهي تروج الفيلم الذي يحمل اسم "المصالحة".
تأخر عرض الفيلم دقائق بعد عدة محاولات يائسة من فني الصوت ضبط المؤشرات والمؤثرات، وإخراج الصوت بشكل مناسب، ما إن أعلن فني الصوت عن نجاح تجاربه، حتى بدأت سرائر المتابعين بالانفراج، طال الوقت ولم يظهر الفيلم على الشاشة الكبيرة لحتى الآن.
في الكواليس، هناك نقاش حاد بين فنيي الصوت وصاحب الدار، ويتساءل كيف يمكن إطفاء الأضواء، ونحن مجتمع محافظ وملتزم، ألا تخشون الرذيلة! أثار ذلك السؤال حفيظة مخرج الفيلم الذي دفع أموال طائلة من أجل إنتاجه وإخراجه بهذه الطريقة، ناهيك عن المدة التي استغرقها الفيلم في التمثيل والإخراج وكتابة السيناريو، واستعانته بمصممين دوليين وعرب وأجانب في إضفاء لمسات جمالية على المونتاج والماكياج والإخراج.
أخيرا، وصل المختلفون إلى حلٍّ يرضي، في شكله، جميع الأطراف، وفي مضمونه لا بد من بث الفيلم خوفا من خسائر أصحاب دار السينما، وليس خوفا من غضب المتابعين والحضور. خرج المذيع الداخلي في دار السينما، وطلب من الحضور الصامت مزيداَ من الصمت، قائلا إن بث الفيلم يبدأ بعد لحظات، أريد أن أذكركم بأن هناك مشاهد قاسية وعنيفة، ونعتذر عن قسوتها.
تسمرت الأبصار أمام الشاشة الكبيرة، بدأ عرض الفيلم الذي طال انتظاره، بدأت الأحداث تتوالى وسط دموع الحاضرين، مشاهد الموت والدمار كانت حاضرة، ومشاهد العشق والغرام كانت تأتي خجولة، الحياة في فيلم المصالحة طويلة جداَ، لا يمكن وصف ممثلي الفيلم، غير أنهم أجادوا صناعة الانقسام والحصار والدمار والحروب المتتالية واللاحقة. ظهرت كل تفاصيل العذابات اليومية لمواطنين يسكنون في مدينة الظلام، يحيط بها السياج من كل جانبٍ والبحر الملوث من جانب آخر.
في الفيلم مشاهد لطفل صغير ينتظر أن يُفتح له المعبر من أجل الخروج لتناول علاجه، ورجل مقهور كان يبحث عن بضعه ليترات من البنزين لسيارته في محطات التعبئة التي نفذ منها الوقود، بينما تحرق الشموع أجساد أطفاله الصغار.
في ذروة العرض، شتم أحد الحاضرين الممثل الأصفر، فردّ عليه آخر بشتم الممثل الأخضر، فوقف عجوز ستيني داخل القاعة يرتدي قميصا أحمر قائلا: ألا يوجد بينكم رجل رشيد؟ فاشتعل الدار والتهبت وخرجت زخات من الشتائم من الحاضرين، فكل منهم يُلقي سبب تأخر المصالحة على الممثلين، الأصفر والأخضر. تدخل صاحب الدار، وأشعل الأنوار، وخرج المذيع الداخلي، مطالباً بالتحلي بالصبر من أجل إكمال الفيلم إلى النهاية. طفلُ صغير كان من الحاضرين بال في حجر أمة، خرجت الأم مذعورة من الدار أمام الناظرين، ظن البعض من الحاضرين ظنون الشك بأن أحدهم تطفل عليها وتطاول عليها بالكلام، بدأ عراك جديد في قاعة السينما، وتناثرت الكراسي وكؤوس الماء في القاعة، فحضرت الشرطة إلى دار السينما، وقررت نهاية عرض الفيلم، ومنع السينما في البلد، حفاظا على الأمن وسلامة المواطنين.
يا لها من نهاية تعيسة لفيلم المصالحة، فلم يتمكن المواطنون الفلسطينيون بالاستمتاع باللحظات الأخيرة للفيلم، ولم يُعرف مصيرها هل نجحت أم فشلت؟ وبات المواطن في حيرة من أمره، أنصدق الممثلين الذين يُجيدون التمثيل في كل مكان وفي كل زمان، فلا يغيب عن نظرهم الممثل المصري، أحمد زكي الذي مثل دور الوزير والفقير والمواطن والغلبان وضابط الشرطة والهارب والسجين.. تلك الأدوار كلها أجاد تمثيلها إنسان واحد، فما بالكم بمن يتحملون مصير وطن تحت الاحتلال هم يطرحون أفكارهم ومعتقداتهم ومبادئهم أمام الجمهور وكأنهم من ملائكة الأرض؟
مصالحتنا الفلسطينية، إن كُتب لها النجاح، فإنني أضمن لها أن تكون من عجائب الدنيا، وإن فشلت فلا بواكي لذلك، لأننا تعودنا على مسلسل الفشل، وأصبحنا مدركين لكيفية التأقلم مع الفشل والفاشلين.
تأخر عرض الفيلم دقائق بعد عدة محاولات يائسة من فني الصوت ضبط المؤشرات والمؤثرات، وإخراج الصوت بشكل مناسب، ما إن أعلن فني الصوت عن نجاح تجاربه، حتى بدأت سرائر المتابعين بالانفراج، طال الوقت ولم يظهر الفيلم على الشاشة الكبيرة لحتى الآن.
في الكواليس، هناك نقاش حاد بين فنيي الصوت وصاحب الدار، ويتساءل كيف يمكن إطفاء الأضواء، ونحن مجتمع محافظ وملتزم، ألا تخشون الرذيلة! أثار ذلك السؤال حفيظة مخرج الفيلم الذي دفع أموال طائلة من أجل إنتاجه وإخراجه بهذه الطريقة، ناهيك عن المدة التي استغرقها الفيلم في التمثيل والإخراج وكتابة السيناريو، واستعانته بمصممين دوليين وعرب وأجانب في إضفاء لمسات جمالية على المونتاج والماكياج والإخراج.
أخيرا، وصل المختلفون إلى حلٍّ يرضي، في شكله، جميع الأطراف، وفي مضمونه لا بد من بث الفيلم خوفا من خسائر أصحاب دار السينما، وليس خوفا من غضب المتابعين والحضور. خرج المذيع الداخلي في دار السينما، وطلب من الحضور الصامت مزيداَ من الصمت، قائلا إن بث الفيلم يبدأ بعد لحظات، أريد أن أذكركم بأن هناك مشاهد قاسية وعنيفة، ونعتذر عن قسوتها.
تسمرت الأبصار أمام الشاشة الكبيرة، بدأ عرض الفيلم الذي طال انتظاره، بدأت الأحداث تتوالى وسط دموع الحاضرين، مشاهد الموت والدمار كانت حاضرة، ومشاهد العشق والغرام كانت تأتي خجولة، الحياة في فيلم المصالحة طويلة جداَ، لا يمكن وصف ممثلي الفيلم، غير أنهم أجادوا صناعة الانقسام والحصار والدمار والحروب المتتالية واللاحقة. ظهرت كل تفاصيل العذابات اليومية لمواطنين يسكنون في مدينة الظلام، يحيط بها السياج من كل جانبٍ والبحر الملوث من جانب آخر.
في الفيلم مشاهد لطفل صغير ينتظر أن يُفتح له المعبر من أجل الخروج لتناول علاجه، ورجل مقهور كان يبحث عن بضعه ليترات من البنزين لسيارته في محطات التعبئة التي نفذ منها الوقود، بينما تحرق الشموع أجساد أطفاله الصغار.
في ذروة العرض، شتم أحد الحاضرين الممثل الأصفر، فردّ عليه آخر بشتم الممثل الأخضر، فوقف عجوز ستيني داخل القاعة يرتدي قميصا أحمر قائلا: ألا يوجد بينكم رجل رشيد؟ فاشتعل الدار والتهبت وخرجت زخات من الشتائم من الحاضرين، فكل منهم يُلقي سبب تأخر المصالحة على الممثلين، الأصفر والأخضر. تدخل صاحب الدار، وأشعل الأنوار، وخرج المذيع الداخلي، مطالباً بالتحلي بالصبر من أجل إكمال الفيلم إلى النهاية. طفلُ صغير كان من الحاضرين بال في حجر أمة، خرجت الأم مذعورة من الدار أمام الناظرين، ظن البعض من الحاضرين ظنون الشك بأن أحدهم تطفل عليها وتطاول عليها بالكلام، بدأ عراك جديد في قاعة السينما، وتناثرت الكراسي وكؤوس الماء في القاعة، فحضرت الشرطة إلى دار السينما، وقررت نهاية عرض الفيلم، ومنع السينما في البلد، حفاظا على الأمن وسلامة المواطنين.
يا لها من نهاية تعيسة لفيلم المصالحة، فلم يتمكن المواطنون الفلسطينيون بالاستمتاع باللحظات الأخيرة للفيلم، ولم يُعرف مصيرها هل نجحت أم فشلت؟ وبات المواطن في حيرة من أمره، أنصدق الممثلين الذين يُجيدون التمثيل في كل مكان وفي كل زمان، فلا يغيب عن نظرهم الممثل المصري، أحمد زكي الذي مثل دور الوزير والفقير والمواطن والغلبان وضابط الشرطة والهارب والسجين.. تلك الأدوار كلها أجاد تمثيلها إنسان واحد، فما بالكم بمن يتحملون مصير وطن تحت الاحتلال هم يطرحون أفكارهم ومعتقداتهم ومبادئهم أمام الجمهور وكأنهم من ملائكة الأرض؟
مصالحتنا الفلسطينية، إن كُتب لها النجاح، فإنني أضمن لها أن تكون من عجائب الدنيا، وإن فشلت فلا بواكي لذلك، لأننا تعودنا على مسلسل الفشل، وأصبحنا مدركين لكيفية التأقلم مع الفشل والفاشلين.
مقالات أخرى
10 مايو 2019
04 مايو 2019
22 ابريل 2019