09 نوفمبر 2024
أمام اجتماع في بيروت اليوم
يجتمع اليوم في بيروت الباحثون والمثقفون العرب الذين أنجزوا تقرير "الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدل" (324 صفحة)، لحسم مصيره، وما إذا كانوا سيُصدرونه بأسمائهم، وهم الذين كلّفتهم به اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة (إسكوا)، غير أن الأمانة العامة (الجديدة!) للأمم المتحدة قرّرت عدم صدوره عن المنظمة الدولية، تجاوباً مع ضغوطٍ مورست عليها من إسرائيل، ومن مصر ودول عربية أخرى. وأفاد أحد المشاركين بأن مساومةً تمت مع المشرفة على التقرير، وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة، الأمينة التنفيذية لـ"إسكوا"، ريما خلف، بالتمديد لها في وظيفتها الرفيعة في مقابل حذف فقراتٍ محدّدةٍ في التقرير قبل إصداره باسم اللجنة الأممية، فرفضت، وهي التي قالت إنه غير مسبوق طوال عملها أن تمنح الأمم المتحدة معدّي التقرير فرصةً لنشره على مسؤوليتهم، من دون ربطه بها. وللحق، من المستغرب أن تمارس الأمانة العامة الجديدة للمنظمة الدولية، في أيامها الأولى، أمراً كهذا، فيما التقرير نفسُه يوضح، في مقدمته، إن الآراء والخلاصات فيه لا تمثل بالضرورة الأمم المتحدة أو موظفيها أو الدول الأعضاء فيها.
وأمام الباحثين والمستشارين في اجتماعهم في بيروت اليوم مسؤوليةٌ ثقافيةٌ وفكريةٌ خاصة، إذ يبقى معوّلاً عليهم إصدار بيانٍ، يقول كل شيء، ويبقّ البحصة كاملة، فيسمّي الحكومات العربية التي تدخلّت من أجل أن لا تنفضح سيرتُها السيئة، ويؤشّر إلى خطورة هذا المستجدّ الشاذ في الدور الاعتباري لمؤسسات الأمم المتحدة وهيئاتها، خصوصاً في تعيين السوءات والشناعات في بلادٍ في غير موضعٍ في العالم. ويكون طيّباً لو أذاع المجتمعون تفاصيل الواقعة التي شاعت في غير منبر إعلامي أن سلطات أمن مطار القاهرة كانت أول من تنبّه إلى "خطورة" مضامين التقرير، عندما صادفت في حقائب مسافرٍ عابر، من طاقم إعداد التقرير وتحريره، أوراقاً ومسوّدات منه، فكان أن اشتغلت الأجهزة إيّاها، ورفعت المسألة إلى دوائر عليا، ثم صار ما صار. أما بشأن إسرائيل، فلم تحتمل ما نما إليها من مضمون التقرير عن غياب العدالة في فلسطين الذي تسببت به ممارساتها دولة احتلالٍ ترتكب انتهاكات واسعة.
وقد طالعنا، من نتفٍ انتقيت من التقرير، إنّ النخب العربية الحاكمة في بلاد عربية قلقة بسبب غياب شرعيتها، ما يدفعها إلى المبالغة في القمع، وإنّ غالبية الدول العربية ابتليت بالفساد والاستبداد وتهميش الصالح العام. و"إن الواقع العربي حفرةٌ من النار لا تكفّ عن الاتساع"، بحسب ريما خلف. ولمّا كان من بديهي المعلوم والذائع أن الأمم المتحدة معنيةٌ حكماً بالعدالة الإنسانية، وإشاعة ما يُسعف البشرية ويُعينها على دفع المظالم عنه، يصبح مثار استهجانٍ واستنكارٍ عظيميْن أن تتجاوب مع ضغوطٍ من هذه الدولة وتلك، لمجرد إشاراتٍ في تقريرٍ أنجزه مختصون ومستشارون. ولكن خبراء عارفين تحدّثوا عن "أسبقياتٍ" للمنظمة الدولية، من عيّنة السلوك نفسه، ومن ذلك أن إسرائيل اعترضت، مرّة، على ذكرها في تقريرٍ لمنظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (يونيسيف) عن الوحشية ضد الأطفال، فأزيل اسمُها من قائمة الدول التي تمارس هذه الوحشية (ضد الأطفال الفلسطينيين).
يؤكّد التقرير الممنوع على الحرية قيمةً جوهريةً من حقوق الإنسان، وصدوراً عن هذا الأمر (وغيره)، فإن الباحثين المشاركين في اجتماع بيروت اليوم مدعوّون إلى التأشير إلى المسّ الخطير بحرية البحث العلمي والأكاديمي الذي تعرّض له مُنجزهم، من دون أن يكترثوا بحساباتٍ ترضي هذه الدولة أو تلك، ومن دون ارتهانهم لحساباتٍ تافهةٍ تتحكّم بأداء الأمانة العامة للأمم المتحدة. وحسناً يفعلون، إذا ما أصدروا التقرير (ما زال في المطبعة!)، أن يكون منسوباً إليهم، بحيثياتهم العلمية، وأن يبدأ بمقدمةٍ تتوفر على جلاء كل ما حدث، من دون أن تتسرّب إليهم أوهام من قبيل أنهم شحطوا الذئب من ذيله، عندما كتبوا ما كتبوا، فالحادثُ في غير بلد عربي يحيل إلى مقادير باهظةٍ من الكآبة، المسوّغة ربما، نظنها من شواهد دالة على ما جهر به معدّو التقرير، ويستحقون عليه التثمين الواجب، خصوصاً إذا قالوا، في بيروت اليوم، كل شيء.