01 نوفمبر 2024
عن التسريبات وانكشاف العورات السياسية في تونس
تمثل التسريبات السياسية التي استشرت هذه الأيام في تونس حالة أنوميا، أو فقدان المعيارية، وفق الإيتيمولوجيا السوسيولوجية الدوركايمية. هي ظاهرة لم تكن مألوفة قبل 14 يناير/ كانون الثاني 2011، ففي ذلك الزمن كانت الطبقة السياسية التونسية تعيش، أحيانا، على وقع الإشاعة السياسية التي تطلقها السلطة، أو بعض أجهزتها الأمنية والاستخبارية والحزبية، لتوجيه الرأي العام، أو اختباره وقياسه تجاه موقفٍ أو قرار ما، أو شخصية يقع إعدادها لوظيفة ما في هرم مؤسسات الدولة. أماطت التسريبات اللثام عن حقائق خفية كثيرة، تعيشها الطبقة السياسية التونسية في اجتماعاتها وخلواتها ومناجاتها بعضها بعضا، معتقدة أنها مؤتمنة أسرارها ومؤمنة ظهرانيها من كل خيانةٍ أو اعتداء مصدره المحتمل عدو وليس صديقا. لكن الوقائع أثبتت غير ذلك، فالصديق السياسي و"المناضل" الحزبي بات هو العدو المحتمل، بدلا من المنافس السياسي والغريم الأيديولوجي الخارجي. وينم هذا الأمر عن أزمة أخلاقية حادة، يعيش على وقعها عالم السياسة التونسية الذي يبدو أنه فقد مناعته وقدرته القيمية على التصدي للظواهر والممارسات الطفيلية، وانكشفت عورات سياسيين كثيرين، كانوا يسوّقون أنفسهم أمثلة للطهر والصلاح والإصلاح والحوكمة والشفافية، والدفاع عن سيادة البلاد وإقامة مجتمع العدل. فقد أصبح مألوفا أن ترتبط فضيحة أخلاقية بهذا النائب، على غرار الحصول على مبالغ مالية بعد انتقاله إلى حزبٍ ثان، أو شبهة فساد وتجاوزات سلطة بهذا المسؤول السامي في الدولة، أو كذب ومراوغة وتلاعب وتضليل، بهذا الوزير أو ذاك، أو حتى بالرئيس نفسه وأفراد عائلته وكبار مستشاريه ومقرّبيه وحفظة أسراره، وإثبات ذلك بالدليل والحجة القاطعة من هياكل الرقابة في الدولة، أو من المجتمعين المدني والإعلامي، من دون أن يتعرّض أي منهم إلى أي شكل من العقاب والزجر التي تعجّ بها الأنظمة الداخلية للأحزاب، ونصوص الدولة التأسيسية وقوانينها ومنظومتها التشريعية ككل.
عرفت تونس، وعلى غرار مجتمعات أخرى، تسريبات سياسية من الوزن الثقيل، بغرض
التسريبات الجديدة التي جاءت مختلفة ومغايرة عمّا سبقها وذات خصوصية، هي صدى ما يعتمل داخل "نداء تونس" الحزب الحاكم الأغلبي الفائز في الانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2014، والمهيمن على مراكز القرار والسلطة في باردو وقرطاج والقصبة، فقد ظهر، بشكل لافت، أن هذا الحزب تشقّه اختلافات وتناقضات وصراعات، هي الأكثر حدّة والأكبر وقعا على الأحزاب السياسية، قبل الثورة التونسية وبعدها، ما جعله عرضةً للتشظي والانقسام والشقوق التي انتهى بعضها إلى أحزاب مستقلّة، وأخرى إلى مجموعاتٍ، يدّعي كلّ منها الشرعية القانونية والسياسية، الأمر الذي دفعها إلى التقاضي أمام المحاكم التونسية.
ما سُرّب من أحاديث من داخل اجتماعات حزب نداء تونس لا يرتقي إلى مستوى الخطاب
أمثلة أخرى كثيرة من التسريبات صدرت هذه الأيام من داخل "نداء تونس" واجتماعاته، وعن شقوقه المختلفة الناشطة داخله وخارجه، وكذلك عن شخصياتٍ غادرته، تعج بها الصحافة المكتوبة والجرائد الإلكترونية والمواقع الافتراضية والصفحات الفيسبوكية، تعكس حجم الانهيار والسقوط السياسي الذي بلغه هذا الحزب، والنزعة الغنائمية التي انتهجها في علاقته بالدولة، فتحوّل من أمل وأفق لدى بعضهم إبان لحظة تأسيسه سنة 2012 إلى خطر مهدد لمستقبل الدولة نفسها، كما برز ذلك في تصريحات بعض الندائيين أنفسهم، فهم الأكثر دراية من غيرهم بأن حزبهم قد تحوّل إلى حزب عائلي، لم يتردّد بعضهم في وصفه بالمافيوزي، لا يستقطب إلا الطامعين في خدمة مصالحهم الخاصة، بالطرق المشروعة وغير المشروعة، المتسلّقين إلى هرم السلطة، لتحقيق أهدافهم وطموحاتهم التي ليس لها حدود. فمثل هذه الأحزاب قابلة لاختراق اللوبيات المالية والسياسية والاستخبارية الداخلية وأجهزة الدول الأجنبية التي يمكنها تحقيق مصالحها عن طريق هذه الاختراقات. أما مئات المثقفين والجامعيين والتكنوقراط الذين صاغوا على الورق برامج هذا الحزب عند نشأته، بعد أن اعتقدوا أو توهموا أنه امتداد للتجارب الوطنية والإصلاحية السابقة، فقد غادروا من دون رجعة إلى جامعاتهم ومراكز بحوثهم ومؤسسات عملهم الوطنية والدولية، فضاق الحزب بما رحُب، وبات خاويا على عروشه، لا يسكنه سوى عوام السياسة وأصحاب النفوذ والمصالح الخاصة وجماعة النظام القديم الذين تعودوا التعيش من الدولة وصفقاتها الكبرى ومناصبها ومراكزها القيادية.