11 سبتمبر 2024
عن الشعور بالوطنية الجزائرية
ليس هناك شعب ينقصه الشعور بالوطنية، أو الاعتزاز بتاريخه، وليس ثمة أمة رمت تاريخها في مزبلة التاريخ، لوجود شائبة أو زلة أو خطأ في أيٍّ من فترات التاريخ الطويل، بل إن شعوبا كثيرة زينت ما فاتها من ماضيها الشائن، وقدمته مغلفا بصفات البطولة والمجد، وخصوصا أن القاعدة أن التاريخ يكتبه المنتصرون. هذه حقيقة، فما بالك بالشعب الجزائري الذي أجمع القاصي والداني، وكذا العدو قبل الصديق، على أنه انتصر في ثورته ضد الاستعمار الفرنسي، وقدّم الغالي والرخيص من أجل نيل استقلاله، ومن أجل أن يرفرف علمه عاليا في مشارق الأرض ومغاربها.
حجم ما أثارته تصريحات حاكم إمارة الشارقة، سلطان بن محمد القاسمي، بشأن استقلال الجزائر، من غضب كبير وردود أفعال قوية من ناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي ومثقفين وإعلاميين وشخصيات سياسية جزائرية، يثير تساؤلا عن حجم هذه الردود وطبيعتها، خصوصا أن كلام حاكم الشارقة (أوضحه لاحقا معتزّا بالجزائر وشعبها ونضاله) في معرض تناوله مسألة استقلال الجزائر لم يكن بتلك الفظاعة التي يصوّرها المحتجون، ولم يكن مساسا بنضالات الجزائريين، ولا تجاهلا لحقائق التاريخ، ولا استخفافا بالشهداء الذين سقطوا على مذبح الحرية، فالمعروف عن الرجل أنه عروبي، ومتشبع بروح الثقافة والتاريخ، وكان ما تحدث عنه مجرد ملاحظة عابرة عن علاقة المثقف بالسلطة، وتأثيره في قراراتها، وتأثيرها في أفكاره، وهي علاقة شائكة، يقال عنها الكثير، وتحكمها معادلات عديدة، وتمكن مناقشتها ببصيرة علمية بعيدة عن التشنج. ولكن لماذا تكون ردودنا، نحن الجزائريين، منفعلة وغير مقيدة بعقال؟ ولماذا تكون سهامنا حادة فقط عندما يتعلق الأمر بأحد المثقفين العرب الذين لا نراعي فيهم، حتى مجرّد تحكيم القاعدة الفقهية الخاصة بمن اجتهد وأخطأ، أو أبدى ملاحظة عابرة.
ترتفع أصواتنا تملأ الهواء صخبا، ويرتفع منسوب "الوطنية" على أمواج الإذاعات
والتلفزيونات، وعلى صفحات الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي. وفي المقابل، تجد لنا همسا يصل إلى حد البكم، حينما يتعلق الأمر بفظاعات وإساءات تاريخية نعايشها ونستمع إليها يوميا من مسؤولين فرنسيين، تُفرش لهم الأرض بالورود، ويستقبلون في مطاراتنا وقصور إداراتنا استقبال الفاتحين. ألم نستقبل في السنوات التي رُفع فيها شعار "العزة والكرامة" بقايا أعضاء "الأقدام السوداء" الذين قادهم الحنين لماضيهم الاستعماري إلى بلدنا مرة ثانية.. جاءوه زائرين، فاحتفى بهم بعضٌ منا وأكرمتهم السلطات، ثم عادوا إلى فرنسا، ورفعوا دعاوى قضائية لإخراج مواطنين جزائريين من بيوتهم، بحجة أنهم يمتلكونها بأوراق قانونية، كانت فرنسا الاستعمارية قد سلمتها إليهم.
جميل أن يعتز الجزائري بوطنه، وأن ينبري للدفاع عنه، عندما تحوم حوله مخاطر حقيقية، لا معارك وهمية قد تعطي صكوك غفران لكثيرين ممن أساءوا للوطن بأخطائهم، وتآمرهم عليه، وتمنحهم فرصة ركوب موجة قصيرة المدى من الوطنية "الإعلامية". ذلك أن المعارك الحقيقية تتمثل في العمل على استرجاع أرشيف الثورة الجزائرية الذي نهبته فرنسا، وإعادة جماجم الشهداء الموجودة في متاحفها، ورفع قضايا في المحاكم الدولية، الخاصة بالجرائم ضد الإنسانية والإبادة التي مارسها الاستعمار في حق الشعب الجزائري منذ 1830، ولا سيما في التفجيرات النووية التي استغل فيها الإنسان الجزائري فئران تجارب.
جميل أن يعتز الجزائري بوطنه، لكن الأجمل لا تكتنزه الكلمات فقط، وإنما تفسّره المعاملات
اليومية التي يمارسها الجزائريون في حياتهم ومعيشهم اليومي، ولأن الأمانة تقتضي الصراحة، والصراحة تقتضي الإجابة عن مصير إرث الشهداء، فاللغة الفرنسية التي لم تعد قادرة في القرن الواحد والعشرين على توفير لقمة العيش، ولا على استيعاب العلوم والمعارف والتكنولوجيا في العالم، تشهد بالعكس تطورا رهيبا في الجزائر في السنوات الأخيرة، لم تشهده حتى على أيام الفرنسيين أنفسهم. أما اللغة العربية في الإدارات الرسمية والوزارات والمؤسسات الاقتصادية فلقد أصبحت إرثا ثقيلا يجب التخلص منه، وهي المهمة التي أوكلت لوزيرة التربية، نورية بن غبريط، التي تقدمت بمشروع للتدريس باللغة العامية، وها هي تحاول هذه الأيام إزالة التعليم القرآني من المساجد.
لا تنتهي خيبات الأمل منذ 54 عاما، هي عمر الجزائر المستقلة، فما شيّده بعض الوطنيين المخلصين تعمل على تضييعه ثلة من المنتفعين والانتهازيين وبقايا الطابور الخامس الذي زرعته فرنسا الاستعمارية في الإدارات والمؤسسات الجزائرية. لن نستنطق مسرحية "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" للطاهر وطار، ولا كتاب "شاهد على اغتيال الثورة" للقائد العسكري في ثورة التحرير، لخضر بورقعة، لكشف الحقائق وقراءة المستور. وذلك لأن الشواهد كافية، وهي على الأرض أوسع من أي مسرحية أو كتاب، فأين نحن من مشروع قانون تجريم الاستعمار الذي تم وأده في البرلمان الجزائري؟ وأين نحن من كتابة تاريخ الثورة التي بقي مشروعها يتعثر في مشيته التي تكاد تتوقف بتوقف أنفاس مجاهدين كثيرين، انتقلوا، بعد عمر طويل، إلى جوار ربهم. ثم ماذا عن عدد المجاهدين نفسه الذي ارتفع، مع مرورالأعوام، وشكل معضلة تشاكس بشأنها مناضلو جبهة التحرير القدامى الذين شكّكوا في عدد المستفيدين من بطاقة المشاركة في الثورة، والتي حولتها السلطة إلى واحدةٍ من وسائل الانتفاع المادي وشراء الولاءات.
لا مجال يتسع للحديث عن غياب مشروع التنمية، وعن نهب الثروات وخيرات البلاد، والمحسوبية والانتهازية وفساد الإدارة والفساد المالي وسوء التسيير. لا مجال يتيح الحديث عن قوافل المهاجرين، أو الراغبين في الهجرة، ولو على متن قوارب الموت، ولا عن ألوف المكدّسين أمام القنصليات الغربية، والفرنسية خصوصا طلبا لتأشيرات الهروب. لا مجال للحديث عن هذا كله هذه الأيام في الجزائر، فالوقت مخصص فقط لترتيب انتخابات برلمانية، يجب أن تشحذ لها كل الهمم والصروح الإعلامية والدعائية، ولا بأس ببعض البهارات التي تأتي من الخارج، لتزيد في نكهة الوطنية الجزائرية.
في الأخير، جميل أن يعتز الجزائري بوطنه، لكن الأجمل أن يدافع أيضا عن المبادئ التي ضحّى من أجلها الشهداء، كما يقول الأديب والكاتب الجزائري رابح خدوسي.
حجم ما أثارته تصريحات حاكم إمارة الشارقة، سلطان بن محمد القاسمي، بشأن استقلال الجزائر، من غضب كبير وردود أفعال قوية من ناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي ومثقفين وإعلاميين وشخصيات سياسية جزائرية، يثير تساؤلا عن حجم هذه الردود وطبيعتها، خصوصا أن كلام حاكم الشارقة (أوضحه لاحقا معتزّا بالجزائر وشعبها ونضاله) في معرض تناوله مسألة استقلال الجزائر لم يكن بتلك الفظاعة التي يصوّرها المحتجون، ولم يكن مساسا بنضالات الجزائريين، ولا تجاهلا لحقائق التاريخ، ولا استخفافا بالشهداء الذين سقطوا على مذبح الحرية، فالمعروف عن الرجل أنه عروبي، ومتشبع بروح الثقافة والتاريخ، وكان ما تحدث عنه مجرد ملاحظة عابرة عن علاقة المثقف بالسلطة، وتأثيره في قراراتها، وتأثيرها في أفكاره، وهي علاقة شائكة، يقال عنها الكثير، وتحكمها معادلات عديدة، وتمكن مناقشتها ببصيرة علمية بعيدة عن التشنج. ولكن لماذا تكون ردودنا، نحن الجزائريين، منفعلة وغير مقيدة بعقال؟ ولماذا تكون سهامنا حادة فقط عندما يتعلق الأمر بأحد المثقفين العرب الذين لا نراعي فيهم، حتى مجرّد تحكيم القاعدة الفقهية الخاصة بمن اجتهد وأخطأ، أو أبدى ملاحظة عابرة.
ترتفع أصواتنا تملأ الهواء صخبا، ويرتفع منسوب "الوطنية" على أمواج الإذاعات
جميل أن يعتز الجزائري بوطنه، وأن ينبري للدفاع عنه، عندما تحوم حوله مخاطر حقيقية، لا معارك وهمية قد تعطي صكوك غفران لكثيرين ممن أساءوا للوطن بأخطائهم، وتآمرهم عليه، وتمنحهم فرصة ركوب موجة قصيرة المدى من الوطنية "الإعلامية". ذلك أن المعارك الحقيقية تتمثل في العمل على استرجاع أرشيف الثورة الجزائرية الذي نهبته فرنسا، وإعادة جماجم الشهداء الموجودة في متاحفها، ورفع قضايا في المحاكم الدولية، الخاصة بالجرائم ضد الإنسانية والإبادة التي مارسها الاستعمار في حق الشعب الجزائري منذ 1830، ولا سيما في التفجيرات النووية التي استغل فيها الإنسان الجزائري فئران تجارب.
جميل أن يعتز الجزائري بوطنه، لكن الأجمل لا تكتنزه الكلمات فقط، وإنما تفسّره المعاملات
لا تنتهي خيبات الأمل منذ 54 عاما، هي عمر الجزائر المستقلة، فما شيّده بعض الوطنيين المخلصين تعمل على تضييعه ثلة من المنتفعين والانتهازيين وبقايا الطابور الخامس الذي زرعته فرنسا الاستعمارية في الإدارات والمؤسسات الجزائرية. لن نستنطق مسرحية "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" للطاهر وطار، ولا كتاب "شاهد على اغتيال الثورة" للقائد العسكري في ثورة التحرير، لخضر بورقعة، لكشف الحقائق وقراءة المستور. وذلك لأن الشواهد كافية، وهي على الأرض أوسع من أي مسرحية أو كتاب، فأين نحن من مشروع قانون تجريم الاستعمار الذي تم وأده في البرلمان الجزائري؟ وأين نحن من كتابة تاريخ الثورة التي بقي مشروعها يتعثر في مشيته التي تكاد تتوقف بتوقف أنفاس مجاهدين كثيرين، انتقلوا، بعد عمر طويل، إلى جوار ربهم. ثم ماذا عن عدد المجاهدين نفسه الذي ارتفع، مع مرورالأعوام، وشكل معضلة تشاكس بشأنها مناضلو جبهة التحرير القدامى الذين شكّكوا في عدد المستفيدين من بطاقة المشاركة في الثورة، والتي حولتها السلطة إلى واحدةٍ من وسائل الانتفاع المادي وشراء الولاءات.
لا مجال يتسع للحديث عن غياب مشروع التنمية، وعن نهب الثروات وخيرات البلاد، والمحسوبية والانتهازية وفساد الإدارة والفساد المالي وسوء التسيير. لا مجال يتيح الحديث عن قوافل المهاجرين، أو الراغبين في الهجرة، ولو على متن قوارب الموت، ولا عن ألوف المكدّسين أمام القنصليات الغربية، والفرنسية خصوصا طلبا لتأشيرات الهروب. لا مجال للحديث عن هذا كله هذه الأيام في الجزائر، فالوقت مخصص فقط لترتيب انتخابات برلمانية، يجب أن تشحذ لها كل الهمم والصروح الإعلامية والدعائية، ولا بأس ببعض البهارات التي تأتي من الخارج، لتزيد في نكهة الوطنية الجزائرية.
في الأخير، جميل أن يعتز الجزائري بوطنه، لكن الأجمل أن يدافع أيضا عن المبادئ التي ضحّى من أجلها الشهداء، كما يقول الأديب والكاتب الجزائري رابح خدوسي.