31 أكتوبر 2024
استعراضات السيسي في البحر الميت
سئم المواطن العربي من أساليب من يسمّون أنفسهم زعماء لهذه الأمة، وصانعي مسارات حركتها باتجاه المستقبل، والزعماء أنفسهم لا يضيعون فرصةً لإثبات عدم أهليتهم لمهمةٍ كهذه، وتجذير حالة عدم ثقة شعوبهم بهم.
عبد الفتاح السيسي، رئيس نظام أكبر دولة عربية، والتي من المفترض أن تكون حضن الجميع في هذه اللحظات الصعبة التي تمر بها أمة العرب، أعدم كل الوسائل التي يمكن من خلالها لمصر أن تظهر بمكانةٍ حسنةٍ، وتثبت أنها تستحق الجلوس في قمرة قيادة الأمة للخروج بها من درب الآلام، سوى عبر استعراضاتٍ لا تليق حتى بمستويات ممثلين حكوميين من درجةٍ دنيا، وكيل وزارة أو نائب سفير.
إذا، لم يكن عناء حضور قمة عربية ليس لها سوى أهداف محدّدة جداً، الخروج بأقصى درجات التوافق، وتجاوز الخلافات القديمة ما أمكن، هل كان لقمة البحر الميت أن تكون شيئاً مختلفاً لو لم ترفع سقف الطموحات إلى هذا الحد؟ وهل المواطن العربي، وبعد كل سنوات الألم والخراب، يتعطش لغير ذلك؟ ثم ما الذي يمكن البناء عليه، إذا كان الأساس مستمراً في تصدّعه؟
اللافت أن الإعلام المصري المأزوم، والذي يصدر عن نظامٍ في قمة أزماته، اعتبر أن
استعراض السيسي، بخروجه من قاعة القمة في أثناء خطاب أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، يشكّل ثورة! في زمن قتل فيه النظام ثورةً شعبية كان يمكن أن تكون رافعة لمصر، لو وجدت قيادةً ونخبا تستطيع استثمار الروح المصرية الناهضة والمتطلعة لمستقبل أفضل، ولديها استعدادات وافرة للتضحية والصبر والمثابرة، لو رأت ملامح لنفسها في مرآة ذلك المستقبل، وفي تفاصيل حاضرها.
هكذا يشكّل نظامٌ مأزوم صورة مصر ومساراتها على مقاس قدرة إستيعابه الأدوار والمكانة والقيمة، وكأن مصر تعاقب نفسها على مكر التاريخ وخداعه الذي وفّر ظرفاً تاريخياً من خارج السياق لوصول هذه النخبة، أو هيمنتها على مفاصل القرار وسدّة السلطة.
لمصر مكانة في قلب حاضر أمتها وتاريخه، حجزته بتاريخ طويل من النضال والعمل الدؤوب، لنفسها أولاً، وطالما استطاع العرب توظيف ذلك النضال لينعكس على قضاياهم إيجاباً، لكن في كل مراحل التاريخ، وحينما لم تستطع مصر أن تعبر عن نفسها ومكانتها بشكلٍ لائق، كانت تخرج بشكل أوتوماتيكي من كونها عنصر قوة لمحيطها، أو تشكّل قيمة مضافة لمكانتهم. لكن، وبما أن الفراغ أمر غير محمود في السياسة، فقد كان المحيط يتدبر بدائله وخياراته الممكنة، وإن كانت بتكاليف أكبر.
أما أن يصل الإفلاس بنخب مصر إلى حد اعتبار بعض الحركات البهلوانية للسيسي بمثابة ثورة، فذلك لا شك مدعاة للرعب على مستقبل مصر، ومدى انحدار منظومة القيم التي تحاول هذه النخبة تكريسها في الوعي المصري، وعبثها بهوية مصر السياسية، فأي مصر هذه التي تحدّت كل المحن والمصاعب، بما فيها امتحانات الجغرافيا والتاريخ، لتصنع من العدم عبقريةً تتحدّى واقعها وتتجاوزه دائماً فضاءاتٌ تليق بنضالها وبمكانتها.
في قمة البحر الميت بدا مقعد مصر فارغاً، صحيحٌ أن أجساداً كثيرة تربعت على المقاعد، لكنها
كانت أقرب إلى تمثيل حاكم جاء يمثل بعض مراكز القوى في السلطة وليس تمثيل مصر، الدولة الرائدة وذات التاريخ المؤسساتي العريق، الدولة التي أنتجت الثورات والمواقف والقيادات. لذا، لم يشعر أحد بخروج تلك الأجساد من قاعة المؤتمر، إلا بما شكلوه من فوضى وازدحام عشوائي، ذلك أن الحضور والعدم لهؤلاء كان متساوياً، ما داموا لا يستطيعون إنتاج وضعيةٍ تليق بمصر ومكانتها المعهودة.
ثلاث سنوات ومصر تسير على درب العبث، وثمّة أشواق كبيرة لرؤية مصر تخرج من هذا المسار، ربما لم يعد عرب كثيرون يطمحون لرؤية أدوار مهمّة تمارسها مصر على صعيد قضاياهم. لا الفلسطيني عاد يأمل بجيوش مصر تحرّره، ولا السوري ينتظر مواقف فارقة لمصر تساعده في نكبته، بل ربما تجد مصر أعذاراً من هؤلاء، من قبيل أن الأوضاع الدولية لم تعد تسمح لمصر بلعب أدوار كبيرة على هذه الصعد، لكن المؤكد أن لا أحد يروق له أن تصل مصر إلى هذا الحد من الانحدار، يخجل العربي من أن أكبر دولة عربية لا يجد ممثلوها سوى الاستعراض وسيلة للتعبير عنها، ذلك مؤلمٌ إلى درجةٍ تجعل المرء يتمنى لو أنه لم يشهد مثل تلك اللحظات.
انتهت القمة العربية، وعلى الرغم من كل كوارثنا العربية، فإن كارثة تفاهة قيادة مصر غطّت على كل مصائبنا، من الممكن لأي نظام أن يدّعي انتصاره على الربيع العربي ويفاخر بذلك، ومن الممكن أن يجد له المنظرون ألف طريقةٍ لتبرير ذلك وتحسينه، لكن أن تظهر كل تلك الرفاهية في التفاهة، بعد مخاض عربي عسير، فذلك مؤلمٌ إلى حد لا يستطيع العقل البشري تقبله، ذلك أننا لم نرجع فقط إلى عصر الاستبداد، بل نسير بثقةٍ وبعيونٍ مفتوحة صوب العدم والانحطاط.
عبد الفتاح السيسي، رئيس نظام أكبر دولة عربية، والتي من المفترض أن تكون حضن الجميع في هذه اللحظات الصعبة التي تمر بها أمة العرب، أعدم كل الوسائل التي يمكن من خلالها لمصر أن تظهر بمكانةٍ حسنةٍ، وتثبت أنها تستحق الجلوس في قمرة قيادة الأمة للخروج بها من درب الآلام، سوى عبر استعراضاتٍ لا تليق حتى بمستويات ممثلين حكوميين من درجةٍ دنيا، وكيل وزارة أو نائب سفير.
إذا، لم يكن عناء حضور قمة عربية ليس لها سوى أهداف محدّدة جداً، الخروج بأقصى درجات التوافق، وتجاوز الخلافات القديمة ما أمكن، هل كان لقمة البحر الميت أن تكون شيئاً مختلفاً لو لم ترفع سقف الطموحات إلى هذا الحد؟ وهل المواطن العربي، وبعد كل سنوات الألم والخراب، يتعطش لغير ذلك؟ ثم ما الذي يمكن البناء عليه، إذا كان الأساس مستمراً في تصدّعه؟
اللافت أن الإعلام المصري المأزوم، والذي يصدر عن نظامٍ في قمة أزماته، اعتبر أن
هكذا يشكّل نظامٌ مأزوم صورة مصر ومساراتها على مقاس قدرة إستيعابه الأدوار والمكانة والقيمة، وكأن مصر تعاقب نفسها على مكر التاريخ وخداعه الذي وفّر ظرفاً تاريخياً من خارج السياق لوصول هذه النخبة، أو هيمنتها على مفاصل القرار وسدّة السلطة.
لمصر مكانة في قلب حاضر أمتها وتاريخه، حجزته بتاريخ طويل من النضال والعمل الدؤوب، لنفسها أولاً، وطالما استطاع العرب توظيف ذلك النضال لينعكس على قضاياهم إيجاباً، لكن في كل مراحل التاريخ، وحينما لم تستطع مصر أن تعبر عن نفسها ومكانتها بشكلٍ لائق، كانت تخرج بشكل أوتوماتيكي من كونها عنصر قوة لمحيطها، أو تشكّل قيمة مضافة لمكانتهم. لكن، وبما أن الفراغ أمر غير محمود في السياسة، فقد كان المحيط يتدبر بدائله وخياراته الممكنة، وإن كانت بتكاليف أكبر.
أما أن يصل الإفلاس بنخب مصر إلى حد اعتبار بعض الحركات البهلوانية للسيسي بمثابة ثورة، فذلك لا شك مدعاة للرعب على مستقبل مصر، ومدى انحدار منظومة القيم التي تحاول هذه النخبة تكريسها في الوعي المصري، وعبثها بهوية مصر السياسية، فأي مصر هذه التي تحدّت كل المحن والمصاعب، بما فيها امتحانات الجغرافيا والتاريخ، لتصنع من العدم عبقريةً تتحدّى واقعها وتتجاوزه دائماً فضاءاتٌ تليق بنضالها وبمكانتها.
في قمة البحر الميت بدا مقعد مصر فارغاً، صحيحٌ أن أجساداً كثيرة تربعت على المقاعد، لكنها
ثلاث سنوات ومصر تسير على درب العبث، وثمّة أشواق كبيرة لرؤية مصر تخرج من هذا المسار، ربما لم يعد عرب كثيرون يطمحون لرؤية أدوار مهمّة تمارسها مصر على صعيد قضاياهم. لا الفلسطيني عاد يأمل بجيوش مصر تحرّره، ولا السوري ينتظر مواقف فارقة لمصر تساعده في نكبته، بل ربما تجد مصر أعذاراً من هؤلاء، من قبيل أن الأوضاع الدولية لم تعد تسمح لمصر بلعب أدوار كبيرة على هذه الصعد، لكن المؤكد أن لا أحد يروق له أن تصل مصر إلى هذا الحد من الانحدار، يخجل العربي من أن أكبر دولة عربية لا يجد ممثلوها سوى الاستعراض وسيلة للتعبير عنها، ذلك مؤلمٌ إلى درجةٍ تجعل المرء يتمنى لو أنه لم يشهد مثل تلك اللحظات.
انتهت القمة العربية، وعلى الرغم من كل كوارثنا العربية، فإن كارثة تفاهة قيادة مصر غطّت على كل مصائبنا، من الممكن لأي نظام أن يدّعي انتصاره على الربيع العربي ويفاخر بذلك، ومن الممكن أن يجد له المنظرون ألف طريقةٍ لتبرير ذلك وتحسينه، لكن أن تظهر كل تلك الرفاهية في التفاهة، بعد مخاض عربي عسير، فذلك مؤلمٌ إلى حد لا يستطيع العقل البشري تقبله، ذلك أننا لم نرجع فقط إلى عصر الاستبداد، بل نسير بثقةٍ وبعيونٍ مفتوحة صوب العدم والانحطاط.