31 أكتوبر 2024
فرنسا - المغرب... النموذج والمشكلة
هل مازالت فرنسا تمثل نموذجا بالنسبة للمغرب والدول المغاربية؟ جاء هذا السؤال موضوع ندوة نظمها، أخيرا، الموقع الإلكتروني، موند أفريك، في الرباط، وشارك فيها إلى جانب مدير الموقع، نيكولا بو، كتاب وإعلاميون مغاربة بالفرنسية والعربية.
وبصرف النظر عن العلاقات التاريخية المعقدة بين فرنسا والمغرب، وتداخلها وامتدادها إلى كل القطاعات، وكون هذه العلاقات يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي والثقافي بالاجتماعي، والتاريخي بالآني والاعتبارات جيو-إستراتجية، فإنه يصعب على أي مهتم، مهما كان عمقه الفكري وإلمامه بالموضوع، أن يبلور أجوبةً نهائيةً ومطلقة وشافية، لأن عامل التاريخ، وما ينطوي عليه من أحداث ومشاعر متناقضة ومحطات مشرقة ومراحل متوترة ومواقف متصارعة وإيديولوجيات وطنية مضطربة، سيظل باستمرار أحد العناصر المفصلية والمحدّدة لتمثل الرسائل والمهام المتعددة لسلطات الحماية الفرنسية وتفكيكها، فحتى رجالات الحركة الوطنية وأقطابها الذين درس معظمهم في فرنسا، وكانوا يتحدثون بلغة موليير بطريقة سلسلة وأنيقة، لم يسلموا من جاذبية (وسحر) إنجازات المستعمر التي لا يمكن الاختلاف حول طابعها الثوري، لأنها وضعت أسس الدولة المغربية الحديثة، المتمثلة في الإدارات والمؤسسات والطرق والقناطر والسكك الحديدية والكهرباء والموانئ والمطارات والمدارس والصحافة والأنظمة الصحية.. إلخ.
احتلت فرنسا المغرب وفق نظام الحماية الموقع عليه في 30 مارس/ آذار 1912، في سياق تاريخي ملتبس، كان فيه النظام السياسي في المغرب هشا وضعيفا ومفككا ومتعبا، ولم يكن يملك أي تصور أو خريطة طريق تجاه ما كان يجب القيام به لحماية الوحدة الترابية وتحصين السيادة الوطنية، وهذا ما سهل عملية الالتفاف على المغرب، وتطبيق مقررات مؤتمر الجزيرة الخضراء التي بموجبها أصبح معظم التراب المغربي من نصيب فرنسا وإسبانيا، لكن الشق الأسود والمؤلم في علاقة المغرب بفرنسا، وما أنتجته قواتها العسكرية من مآسٍ، خصوصا عندما تحالفت وتواطأت مع قوى الاستعمار الإسباني لإجهاض الثورة التحرّرية في منطقة الريف، بزعامة البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي، لا يخفي الجوانب الإيجابية التي صاحبت ظاهرة الاستعمار، وكيف ساهمت مختلف مكوناته في تسريع وتيرة التمدّن والتحديث وعقلنة الدولة والمجتمع. ومن الطبيعي جدا أن تكون هناك اختلافات وتباينات بين أطراف المجموعة الوطنية في تعاطيها مع الاستعمار الفرنسي، تبعا لمصالح كل طرف وموقعه.
ولا أحد يجهل في المغرب، أو يتجاهل، أن نخباً كثيرة، سياسية واقتصادية وإدارية وثقافية
تأهلت في المعاهد والمدارس العليا في فرنسا التي تلقفت هذه النخب فيها مجموعة من القيم والأفكار، ووطدت علاقتها باللغة الفرنسية. ولما عادت إلى المغرب، تحملت المسؤولية في القطاعات الحسّاسة والأساسية، وسيطرت على مفاصل الدولة، إلى درجةٍ تحولت معها هذه النخب إلى خصم في عيون نخبٍ تكوّنت في المشرق العربي أو في دول غربية أخرى، حيث شعرت هذه بالتهميش والإقصاء، وكأنه لا قيمة للشهادات والدرجات الجامعية التي حصلت عليها ولا فائدة ترجى منها.
والمثير في العلاقة بين المغرب وفرنسا أنه، على الرغم من بعض العواصف والمطبات التي تجتازها هذه العلاقة من مرحلة إلى أخرى، فإن المصالح المشتركة والروابط الثقافية واللغوية والشراكات المتعددة ترغم البلدين على تحمل بعضهما بعضا، واعتبار كل طرف ضرورياً بالنسبة للطرف الآخر، مهما كانت لغة العتاب والنقد، ومهما كانت النزوات العابرة للحكومات وجماعات الضغط في باريس، والتي تلعب على ورقة المصالح ونقاط الضعف لدى الشريك الجنوبي.
ووفق هذا المنطق، تقيم فرنسا التي هي المشكلة والحل بالنسبة للمغرب في عقولنا وقلوبنا، وتجري في عروق دمنا، هي أوكسجين اقتصادنا والشرط الأول لاشتغال مؤسساتنا ودورانها، هي جغرافيتنا اللغوية، هي سلاحنا الثقافي، وهي مصدر سلاحنا، هي دواء جراحنا، وطبيب أمراضنا، هي عيادة نخبنا التي تجدّد فيها خلايا تفكيرها.
فرنسا هي شكل لباسنا، وهندسة الأذواق التي يسيل لها لعابنا. فرنسا هي خزّان كفاءاتنا، هي مستودع الطاقات التي نستعين بها، بعد الله، في تدبير شؤوننا، هي خيال وذكاء تكنوقراطيينا الذين صاغوا، في مدارس النخب الفرنسية ومعاهدها، من القناطر إلى البولتكنيك، شكلا آخر للوطن.
فرنسا هي جلساتنا "العقلانية"، هي دردشاتنا الرسمية وغير الرسمية عن دولة المؤسسات والمواطنة وحقوق الإنسان والحداثة والحكامة المؤجلة، هي حلمنا الممتد في الزمن، هي أسفارنا المثالية، هي غنج نسائنا ورشاقتهن، هي مرجعية شباب يجسّد معنى الوجود هناك، ومتعة الحياة في ما تغدقه علينا فرنسا من قيم وخيرات ثقافية ولغوية، فرنسا هي ما يتبقى من صور نموذجية ومطلقة في مخيلة كل من يحالفه الحظ لزيارة أرض موليير وذاكرته، فرنسا هي بوصلة كواليس (وصالونات) نخبنا على اختلاف مواقعها، هي ماضينا الحداثي، هي المغرب ببنياتٍ حديثة، هي ما خلفه الجنرال ليوطي (أول مقيم عام للمغرب بعد الاحتلال من 1912 إلى 1925) من إنجازاتٍ لن يطعن أحد في طابعها التأسيسي الإيجابي.
فرنسا هي أفقنا ومستقبلنا، هي مساحتنا الإعلامية التي نعرف كيف نمشي فوقها، وكيف نتفاعل مع رسائلها، هي التلفزاتُ التي تحلم بها شرائح من المغاربة الذين يتردّدون على باريس، أكثر مما يتردّدون على مقرّات عملهم. فرنسا هي المرجعية الإعلامية غير المستلهمة، أو على الأقل المستنسخة. فرنسا هي محامينا الذي يتقن فن الترافع وقواعده، والدفاع عن مصالحنا، هي وسيطنا في تذليل الأزمات التي تلم بنا واحتوائها، هي أمنا التي تطوّقنا بدفئها وحنانها وحبها الفياض.
هذه "الفرنسا"، وعلى الرغم مما تشهده الآن من غموض سياسي وتراجع في مستوى النقاش
العمومي، في خضمّ الحملات الانتخابية لخوض الرئاسيات، تجتاز مرحلة سياسية مفصلية وحاسمة، تعنينا وتطرح علينا أسئلة كثيرة. هذه "الفرنسا" هي ما نشاهده على القنوات التلفزية من نقاش وحوار وتطارح لكل القضايا ومواجهة بين الأفكار والمواقف والتصورات، وتفسير مواطن الضعف والأخطاء والمزايدات وشرحها في برامج المرشحين للانتخابات الرئاسية، هذه الفرنسا هي متعة الثقافة والفن وعمق الفكر الذي تتباهى به نخبنا، وكثيرون من مسؤوولينا الذين لا يبادرون إلى فعل الشيء نفسه.
مؤكّد أنه لما تعرفه فرنسا حاليا من ديناميات ونقاشات وتحولات امتدادات إلى مناطق مختلفة من العالم، وله علاقة وطيدة بأوضاعنا وسياستنا واختياراتنا وتحدياتنا نحن المغاربة. ومن هذا المنطلق، كان من الطبيعي والمنطقي أن تسير نخبنا وأحزابنا وإعلامنا، في المسالك نفسها، خصوصاً وأن فرنسا تسكن فينا ليل نهار، لاسيما إذا استحضرنا حالة تماهي النخب المغربية مع كل ما هو فرنسي، وخصوصا النخب المرتبطة لغويا وثقافيا بفرنسا، فهذه معجبة بالديمقراطية والحداثة الفرنسيتين، وبقيم الجمهورية وفلسفة الأنوار. ومن الإيجابي أن تتمثل قيم العقلانية والحداثة وتستوعبها، لتحاول غرسها في المغرب، لا أن تتشدّق بها في الحوارات الصحافية والجلسات المخملية البعيدة عن هموم البلد وأسئلة المواطنين.
ليس في مقدور أحد أن ينكر شجاعة الاشتراكي المغتال جون جوريس وتضحيته، ووضوح السياسي ليون بلوم، وصدق السياسي الزعيم مانديس فرانس وجدّيته وجرأته، فالفترات المتوهجة في تاريخ فرنسا كثيرة، وما علينا سوى أن نستخلص منها العبر، بدل أن نظل مجرد صدى لسياسة فرنسا واقتصادها وثقافتها ولغتها.
وبصرف النظر عن العلاقات التاريخية المعقدة بين فرنسا والمغرب، وتداخلها وامتدادها إلى كل القطاعات، وكون هذه العلاقات يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي والثقافي بالاجتماعي، والتاريخي بالآني والاعتبارات جيو-إستراتجية، فإنه يصعب على أي مهتم، مهما كان عمقه الفكري وإلمامه بالموضوع، أن يبلور أجوبةً نهائيةً ومطلقة وشافية، لأن عامل التاريخ، وما ينطوي عليه من أحداث ومشاعر متناقضة ومحطات مشرقة ومراحل متوترة ومواقف متصارعة وإيديولوجيات وطنية مضطربة، سيظل باستمرار أحد العناصر المفصلية والمحدّدة لتمثل الرسائل والمهام المتعددة لسلطات الحماية الفرنسية وتفكيكها، فحتى رجالات الحركة الوطنية وأقطابها الذين درس معظمهم في فرنسا، وكانوا يتحدثون بلغة موليير بطريقة سلسلة وأنيقة، لم يسلموا من جاذبية (وسحر) إنجازات المستعمر التي لا يمكن الاختلاف حول طابعها الثوري، لأنها وضعت أسس الدولة المغربية الحديثة، المتمثلة في الإدارات والمؤسسات والطرق والقناطر والسكك الحديدية والكهرباء والموانئ والمطارات والمدارس والصحافة والأنظمة الصحية.. إلخ.
احتلت فرنسا المغرب وفق نظام الحماية الموقع عليه في 30 مارس/ آذار 1912، في سياق تاريخي ملتبس، كان فيه النظام السياسي في المغرب هشا وضعيفا ومفككا ومتعبا، ولم يكن يملك أي تصور أو خريطة طريق تجاه ما كان يجب القيام به لحماية الوحدة الترابية وتحصين السيادة الوطنية، وهذا ما سهل عملية الالتفاف على المغرب، وتطبيق مقررات مؤتمر الجزيرة الخضراء التي بموجبها أصبح معظم التراب المغربي من نصيب فرنسا وإسبانيا، لكن الشق الأسود والمؤلم في علاقة المغرب بفرنسا، وما أنتجته قواتها العسكرية من مآسٍ، خصوصا عندما تحالفت وتواطأت مع قوى الاستعمار الإسباني لإجهاض الثورة التحرّرية في منطقة الريف، بزعامة البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي، لا يخفي الجوانب الإيجابية التي صاحبت ظاهرة الاستعمار، وكيف ساهمت مختلف مكوناته في تسريع وتيرة التمدّن والتحديث وعقلنة الدولة والمجتمع. ومن الطبيعي جدا أن تكون هناك اختلافات وتباينات بين أطراف المجموعة الوطنية في تعاطيها مع الاستعمار الفرنسي، تبعا لمصالح كل طرف وموقعه.
ولا أحد يجهل في المغرب، أو يتجاهل، أن نخباً كثيرة، سياسية واقتصادية وإدارية وثقافية
والمثير في العلاقة بين المغرب وفرنسا أنه، على الرغم من بعض العواصف والمطبات التي تجتازها هذه العلاقة من مرحلة إلى أخرى، فإن المصالح المشتركة والروابط الثقافية واللغوية والشراكات المتعددة ترغم البلدين على تحمل بعضهما بعضا، واعتبار كل طرف ضرورياً بالنسبة للطرف الآخر، مهما كانت لغة العتاب والنقد، ومهما كانت النزوات العابرة للحكومات وجماعات الضغط في باريس، والتي تلعب على ورقة المصالح ونقاط الضعف لدى الشريك الجنوبي.
ووفق هذا المنطق، تقيم فرنسا التي هي المشكلة والحل بالنسبة للمغرب في عقولنا وقلوبنا، وتجري في عروق دمنا، هي أوكسجين اقتصادنا والشرط الأول لاشتغال مؤسساتنا ودورانها، هي جغرافيتنا اللغوية، هي سلاحنا الثقافي، وهي مصدر سلاحنا، هي دواء جراحنا، وطبيب أمراضنا، هي عيادة نخبنا التي تجدّد فيها خلايا تفكيرها.
فرنسا هي شكل لباسنا، وهندسة الأذواق التي يسيل لها لعابنا. فرنسا هي خزّان كفاءاتنا، هي مستودع الطاقات التي نستعين بها، بعد الله، في تدبير شؤوننا، هي خيال وذكاء تكنوقراطيينا الذين صاغوا، في مدارس النخب الفرنسية ومعاهدها، من القناطر إلى البولتكنيك، شكلا آخر للوطن.
فرنسا هي جلساتنا "العقلانية"، هي دردشاتنا الرسمية وغير الرسمية عن دولة المؤسسات والمواطنة وحقوق الإنسان والحداثة والحكامة المؤجلة، هي حلمنا الممتد في الزمن، هي أسفارنا المثالية، هي غنج نسائنا ورشاقتهن، هي مرجعية شباب يجسّد معنى الوجود هناك، ومتعة الحياة في ما تغدقه علينا فرنسا من قيم وخيرات ثقافية ولغوية، فرنسا هي ما يتبقى من صور نموذجية ومطلقة في مخيلة كل من يحالفه الحظ لزيارة أرض موليير وذاكرته، فرنسا هي بوصلة كواليس (وصالونات) نخبنا على اختلاف مواقعها، هي ماضينا الحداثي، هي المغرب ببنياتٍ حديثة، هي ما خلفه الجنرال ليوطي (أول مقيم عام للمغرب بعد الاحتلال من 1912 إلى 1925) من إنجازاتٍ لن يطعن أحد في طابعها التأسيسي الإيجابي.
فرنسا هي أفقنا ومستقبلنا، هي مساحتنا الإعلامية التي نعرف كيف نمشي فوقها، وكيف نتفاعل مع رسائلها، هي التلفزاتُ التي تحلم بها شرائح من المغاربة الذين يتردّدون على باريس، أكثر مما يتردّدون على مقرّات عملهم. فرنسا هي المرجعية الإعلامية غير المستلهمة، أو على الأقل المستنسخة. فرنسا هي محامينا الذي يتقن فن الترافع وقواعده، والدفاع عن مصالحنا، هي وسيطنا في تذليل الأزمات التي تلم بنا واحتوائها، هي أمنا التي تطوّقنا بدفئها وحنانها وحبها الفياض.
هذه "الفرنسا"، وعلى الرغم مما تشهده الآن من غموض سياسي وتراجع في مستوى النقاش
مؤكّد أنه لما تعرفه فرنسا حاليا من ديناميات ونقاشات وتحولات امتدادات إلى مناطق مختلفة من العالم، وله علاقة وطيدة بأوضاعنا وسياستنا واختياراتنا وتحدياتنا نحن المغاربة. ومن هذا المنطلق، كان من الطبيعي والمنطقي أن تسير نخبنا وأحزابنا وإعلامنا، في المسالك نفسها، خصوصاً وأن فرنسا تسكن فينا ليل نهار، لاسيما إذا استحضرنا حالة تماهي النخب المغربية مع كل ما هو فرنسي، وخصوصا النخب المرتبطة لغويا وثقافيا بفرنسا، فهذه معجبة بالديمقراطية والحداثة الفرنسيتين، وبقيم الجمهورية وفلسفة الأنوار. ومن الإيجابي أن تتمثل قيم العقلانية والحداثة وتستوعبها، لتحاول غرسها في المغرب، لا أن تتشدّق بها في الحوارات الصحافية والجلسات المخملية البعيدة عن هموم البلد وأسئلة المواطنين.
ليس في مقدور أحد أن ينكر شجاعة الاشتراكي المغتال جون جوريس وتضحيته، ووضوح السياسي ليون بلوم، وصدق السياسي الزعيم مانديس فرانس وجدّيته وجرأته، فالفترات المتوهجة في تاريخ فرنسا كثيرة، وما علينا سوى أن نستخلص منها العبر، بدل أن نظل مجرد صدى لسياسة فرنسا واقتصادها وثقافتها ولغتها.