01 نوفمبر 2024
مؤرّخون في تونس يخشون تصويب التاريخ
بكل تأمل وانتباه، قرأت العريضة الممضاة من مجموعةٍ من مدرّسي التاريخ، المشتغلين في الجامعات التونسية، المنشورة في صحيفة يومية تونسية في 10 إبريل/نيسان 2017، وجّهوا فيها بيانا إلى الرأي العام والمسؤولين في الدولة التونسية، يردّون فيه على دعوة إلى إعادة كتابة التاريخ، أطلقتها هيئة الحقيقة والكرامة من أعلى منبر جلسة الاستماع العلنية التاسعة التي نظّمتها الهيئة في تونس يوم 24 مارس/آذار 2017، والتي تضمنت شهادات عن الانتهاكات التي شابت خروج الاحتلال الفرنسي من تونس، على خلفية حجم المآسي والمظالم والتعذيب والقتل والتصفية التي تعرّض لها مناضلو التيار الوطني اليوسفي (نسبة إلى صالح بن يوسف) المقاوم، الذين رفضوا تسليم أسلحتهم وامتنعوا عن الاعتراف بالاستقلال الداخلي سنة 1955 والاستقلال التام سنة 1956 في صيغته البورقيبية، ودعوا إلى مواصلة الكفاح المسلّح إلى حين طرد الاستعمار الفرنسي بالكامل، وتحقيق الاستقلال الحقيقي، في كل من تونس والجزائر والمغرب، التزاما منهم بمضامين ميثاق لجنة تحرير المغرب العربي، والذي وقّعه الحبيب بورقيبة بنفسه عن الحزب الحر الدستوري الجديد في القاهرة سنة 1947، ثم تنكّر له.
جاء البيان في سياق حملة سياسية وإعلامية منظمّة شرسة متواصلة، عجّت بها وسائل الإعلام التلفزيونية والصحف الورقية والإلكترونية والصفحات الافتراضية، تقف وراءها قوى النظام القديم، النافذة فيما قبل 14 يناير/كانون الثاني 2011 بمرحلتيه، البورقيبية والنوفمبرية، ومن والاهم من النخب اليساريي- بورقيبية، التي استمرّت سطوتها وشوكتها وهيمنتها بعد ذلك التاريخ، في شكل لوبيات فاعلة سياسيا وماليا وإعلاميا، المناوئة لمسار العدالة الانتقالية، والمناهضة له، والرافضة للدور الذي تقوم به هيئة الحقيقة والكرامة، والعاملة على إجهاض التجربة برمتها، خصوصا جلسات الاستماع التي انكشفت فيها عورات نظاميْن سياسيين كثيرا ما وُصفا بأنهما محراب الوطنية والحداثة والعقلانية والتقدم.
وقّع البيان ستون مدرّسا وباحثا جامعيا، ينتمون إلى أقسام التاريخ في جامعات تونس ومنوبة
وسوسة وصفاقس، منهم أعلام في المدرسة التاريخية التونسية والمغاربية والعربية، ومنهم مبتدئون لا تكاد أسماؤهم تذكر في عالم الدراسات التاريخية، ينحو طيفهم الغالب منحى أركيولوجيا، فيختص في التاريخ القديم الفينيقي- القرطاجي والروماني والوندالي والبيزنطي والفترات الوسيطة الإسلامية والحقبات الحفصية والعثمانية والحسينية، ما يطرح السؤال عن مصداقية توقيعهم على بيانٍ كهذا، وتهتمّ قلّة منهم بالتاريخ المعاصر والزمن الاستعماري الفرنسي، ويعتني نزرٌ قليل بحركة المقاومة الوطنية وبالصراع البورقيبي – اليوسفي الذي شحّت حوله الأطروحات (أو الأطاريح) الجامعية والكتب والدراسات والمقالات ذات المصداقية في الوسط الأكاديمي التونسي، إلا فيما ندر، بسب ما كان يلقاه الباحثون المهتمون باليوسفية من إقصاءٍ في مناظرات التدريس والبحث في أقسام التاريخ في الجامعة التونسية.
برّر كتبة العريضة انتفاضتهم ضد دعوة إعادة كتابة التاريخ باعتماد قاعدة "أخذ مسافةٍ مأمونة ولو نسبيا من الأشياء والأحياء"، "مخيّرين ترك الوقت للوقت"، كما دوّنوا ذلك بصريح النص. لكن هذه الحجّة تبدو متهافتةً ضعيفة المنطق والبيان لدى العارفين بكتابات البارزين من المؤرخين التونسيين الذين أصدر أحدهم كتابا يقترب من كتابة اليوميات عن حكم الترويكا، واصفا إياها بأنها دولة الهواة. وانتصب آخرون من بين جمهور الموقعين على العريضة محللين سياسيين، منتدبين من البلاتوهات التلفزيونية والصحف اليومية، لمجريات الأمور التي تعيشها تونس يوميا في فضائها العام السياسي، وتحولاتها العميقة المتسارعة، تحت يافطة التخصص في تاريخ الزمن الحاضر. واختار قسم ثالث أن يهتم بفترة حكم نظام بن علي، عشية سقوطه، فأصدر حوله مؤلفاتٍ تفكّك استبداده الناعم الذي استمرّ ربع قرن، من دون أن ينتظروا جميعا ما ستبوح به الأرشيفات من أسرار وحقائق، وما ستدوّنه الذاكرة من أحداث ووقائع، مخترقين قاعدة أخذ مسافة عن الأشياء والأحياء التي بشّروا بها وبرّروا إصدار عريضتهم.
صحيحٌ أن هيئة الحقيقة والكرامة لم تفتح أبوابا كانت مغلقةً، عندما جمّعت شهادات ووثائق تاريخية، متعلقة بالاستبداد في الفترة البورقيبية التي شهدت تصفية الحركة اليوسفية والتنظيمات العروبية، وضيّقت على الحركات اليسارية والإسلامية والنقابية والحقوقية، وقمعت بشدّة الاحتجاجات الاجتماعية، ومارست التنكيل والقهر وقتل الفاعلين السياسيين والنقابيين بدمٍ بارد في أحداث الخميس الأسود النقابية سنة 1978 وانتفاضة الخبز سنة 1984، وهو ما تناولته بعض منتديات الذاكرة في مؤسسة التميمي الخاصة، وفي معهد تاريخ الحركة الوطنية الذي
بات يسمى معهد تاريخ تونس المعاصر، وكانت أغلب تلك المنتديات والشهادات في أثناء فترة حكم بن علي. لكن الهيئة فتحت الأبواب المغلقة بأعتى الأقفال والمنافذ الموصدة بواسطة الإسمنت المسلح، عندما مكّنت ضحايا حكم بن علي من الحديث، وكشف ما تعرّضوا له، أو ما نال ذويهم من اعتقال أو تعذيب، أو قتل وقبر في أماكن سرّية مازالت غير معلومة، على اختلاف ألوانهم واتجاهاتهم وميولاتهم الأيديولوجية والسياسية والفكرية والنقابية والحقوقية. ولعلّ أهم ما أنجزته هيئة الحقيقة والكرامة هو الخروج بآهات النشطاء وعذاباتهم، وما حصل في حقهم من انتهاكاتٍ جائرة، من المنابر المغلقة الصامتة صمت القبور المدفونة في السجلات والكُتب والدفاتر، ذات الطابع الأكاديمي النخبوي، المحدودة التأثير، إلى الرأي العام الواسع، عبر بثها في التلفزيون العمومي والقنوات الخاصة، واضعةً الجلادين والقتلة في مرمى العدالة، وتحت تأثير أزمة ضميرٍ قد يكون تعذيبها النفسي أشدّ أثرا مما تعرّض له الضحايا أنفسهم الذين مال كثيرون منهم إلى الصفح والغفران، بدلا من التتبع والانتقام.
يتساءل المؤرّخون التونسيون عن المعايير المعتمدة في انتخاب الضحايا وجمع الشهادات، والمتحدثين في جلسة الاستماع التاسعة، معتبرين أن العملية برمّتها لا تخلو من "تصفية حسابات سياسوية"، وليست في منأى عن "التوظيف السياسي"، متجاهلين وهم العارفون أن المسألة ليست موضع اختيار واصطفاء، لأن الأمر يتعلق بضحايا الانتهاكات دون غيرهم، وهؤلاء لا ينتمون إلى الفريق البورقيبي الذي تولى أمر البلاد وقيادتها طوال حكم بورقيبة، وفي فترات غير قصيرة من حكم بن علي، ما جعل هذا الفريق في صف الجلّادين الذين أبوا الاعتراف بما اقترفت أياديهم من أفعال، وما علق بهم من ذنوبٍ وآثام، وليس في صف الضحايا الواجب الاستماع إليهم.
ويرفع هؤلاء المؤرخون عن أنفسهم وزر كتابة التاريخ الذي يدرّسونه ويلقنونه للطلاب تحت الطلبية، لكنهم لا يصارحون الرأي العام والنخب الصادقة بمشاربها المختلفة التي تعكس التنوع المجتمعي، بأن ما قرأته الناشئة في كتب التاريخ المدرسية، في مختلف مراحل التعليم التونسي الابتدائي والاعدادي والثانوي ستة عقود متتالية، هو من هندسة ووضع بعضهم ممن رضي لنفسه أن يكون مؤرخ السلطان الذي صاغ له المقرّرات التاريخية الرسمية كما يشاء، فكرّس لديهم الصنمية وعبادة الفرد، وغيّب عنهم نضالات زعماء وطنيين وجهاتٍ بكاملها وزوّر حقائق وطمس معالم وأبرز أخرى، ما أدى إلى صناعة نخبٍ أصابها الفزع من هول ما سمعت من شهادات الضحايا، واكتشف تاريخ أوطانها ورموزها وزعاماتها الحقيقية من خارج كتابات المؤرخين التونسيين، الذين سيدركون أن المادة التاريخية التي جادت بها العدالة الانتقالية ستصوّب، عاجلا أم آجلا، ما رفضوا تصويبه من حقائق التاريخ ومقتضياته وإكراهاته.
جاء البيان في سياق حملة سياسية وإعلامية منظمّة شرسة متواصلة، عجّت بها وسائل الإعلام التلفزيونية والصحف الورقية والإلكترونية والصفحات الافتراضية، تقف وراءها قوى النظام القديم، النافذة فيما قبل 14 يناير/كانون الثاني 2011 بمرحلتيه، البورقيبية والنوفمبرية، ومن والاهم من النخب اليساريي- بورقيبية، التي استمرّت سطوتها وشوكتها وهيمنتها بعد ذلك التاريخ، في شكل لوبيات فاعلة سياسيا وماليا وإعلاميا، المناوئة لمسار العدالة الانتقالية، والمناهضة له، والرافضة للدور الذي تقوم به هيئة الحقيقة والكرامة، والعاملة على إجهاض التجربة برمتها، خصوصا جلسات الاستماع التي انكشفت فيها عورات نظاميْن سياسيين كثيرا ما وُصفا بأنهما محراب الوطنية والحداثة والعقلانية والتقدم.
وقّع البيان ستون مدرّسا وباحثا جامعيا، ينتمون إلى أقسام التاريخ في جامعات تونس ومنوبة
برّر كتبة العريضة انتفاضتهم ضد دعوة إعادة كتابة التاريخ باعتماد قاعدة "أخذ مسافةٍ مأمونة ولو نسبيا من الأشياء والأحياء"، "مخيّرين ترك الوقت للوقت"، كما دوّنوا ذلك بصريح النص. لكن هذه الحجّة تبدو متهافتةً ضعيفة المنطق والبيان لدى العارفين بكتابات البارزين من المؤرخين التونسيين الذين أصدر أحدهم كتابا يقترب من كتابة اليوميات عن حكم الترويكا، واصفا إياها بأنها دولة الهواة. وانتصب آخرون من بين جمهور الموقعين على العريضة محللين سياسيين، منتدبين من البلاتوهات التلفزيونية والصحف اليومية، لمجريات الأمور التي تعيشها تونس يوميا في فضائها العام السياسي، وتحولاتها العميقة المتسارعة، تحت يافطة التخصص في تاريخ الزمن الحاضر. واختار قسم ثالث أن يهتم بفترة حكم نظام بن علي، عشية سقوطه، فأصدر حوله مؤلفاتٍ تفكّك استبداده الناعم الذي استمرّ ربع قرن، من دون أن ينتظروا جميعا ما ستبوح به الأرشيفات من أسرار وحقائق، وما ستدوّنه الذاكرة من أحداث ووقائع، مخترقين قاعدة أخذ مسافة عن الأشياء والأحياء التي بشّروا بها وبرّروا إصدار عريضتهم.
صحيحٌ أن هيئة الحقيقة والكرامة لم تفتح أبوابا كانت مغلقةً، عندما جمّعت شهادات ووثائق تاريخية، متعلقة بالاستبداد في الفترة البورقيبية التي شهدت تصفية الحركة اليوسفية والتنظيمات العروبية، وضيّقت على الحركات اليسارية والإسلامية والنقابية والحقوقية، وقمعت بشدّة الاحتجاجات الاجتماعية، ومارست التنكيل والقهر وقتل الفاعلين السياسيين والنقابيين بدمٍ بارد في أحداث الخميس الأسود النقابية سنة 1978 وانتفاضة الخبز سنة 1984، وهو ما تناولته بعض منتديات الذاكرة في مؤسسة التميمي الخاصة، وفي معهد تاريخ الحركة الوطنية الذي
يتساءل المؤرّخون التونسيون عن المعايير المعتمدة في انتخاب الضحايا وجمع الشهادات، والمتحدثين في جلسة الاستماع التاسعة، معتبرين أن العملية برمّتها لا تخلو من "تصفية حسابات سياسوية"، وليست في منأى عن "التوظيف السياسي"، متجاهلين وهم العارفون أن المسألة ليست موضع اختيار واصطفاء، لأن الأمر يتعلق بضحايا الانتهاكات دون غيرهم، وهؤلاء لا ينتمون إلى الفريق البورقيبي الذي تولى أمر البلاد وقيادتها طوال حكم بورقيبة، وفي فترات غير قصيرة من حكم بن علي، ما جعل هذا الفريق في صف الجلّادين الذين أبوا الاعتراف بما اقترفت أياديهم من أفعال، وما علق بهم من ذنوبٍ وآثام، وليس في صف الضحايا الواجب الاستماع إليهم.
ويرفع هؤلاء المؤرخون عن أنفسهم وزر كتابة التاريخ الذي يدرّسونه ويلقنونه للطلاب تحت الطلبية، لكنهم لا يصارحون الرأي العام والنخب الصادقة بمشاربها المختلفة التي تعكس التنوع المجتمعي، بأن ما قرأته الناشئة في كتب التاريخ المدرسية، في مختلف مراحل التعليم التونسي الابتدائي والاعدادي والثانوي ستة عقود متتالية، هو من هندسة ووضع بعضهم ممن رضي لنفسه أن يكون مؤرخ السلطان الذي صاغ له المقرّرات التاريخية الرسمية كما يشاء، فكرّس لديهم الصنمية وعبادة الفرد، وغيّب عنهم نضالات زعماء وطنيين وجهاتٍ بكاملها وزوّر حقائق وطمس معالم وأبرز أخرى، ما أدى إلى صناعة نخبٍ أصابها الفزع من هول ما سمعت من شهادات الضحايا، واكتشف تاريخ أوطانها ورموزها وزعاماتها الحقيقية من خارج كتابات المؤرخين التونسيين، الذين سيدركون أن المادة التاريخية التي جادت بها العدالة الانتقالية ستصوّب، عاجلا أم آجلا، ما رفضوا تصويبه من حقائق التاريخ ومقتضياته وإكراهاته.