24 أكتوبر 2024
البورقيبية.. ماضي تونس أم مستقبلها؟
يطفو موضوع البورقيبية على السطح كلما اشتد الجدل في تونس بشأن تقييم مرحلة ما بعد الاستقلال وما شابها من تجاوزات، خصوصاً في المجالين، السياسي والحقوقي، وفي التفاوت التنموي بين الجهات. فبعد الشهادات التي عرضتها هيئة الحقيقة والكرامة في جلسات الاستماع العلنية لمواطنين تضرّروا زمن الحكم البورقيبي، أثيرت مجدداً الأسئلة بشأن طبيعة منظومة الحكم التي أرسى أسسها الرئيس الحبيب بورقيبة، والرواية التاريخية الرسمية التي بقيت مهيمنةً على الأذهان طوال عقود، تختصر مراحل مهمة من تاريخ البلاد في شخصية الزعيم الأوحد، وتستبعد ذكر شخصيات أخرى، ساهمت في الحركة الوطنية، ثم دخلت الظل لاحقاً وبصورة قسرية.
وما يثير الانتباه في النقاشات التي تغمر المشهد الحالي في تونس أنها أفرزت قوىً حزبية تدّعي الانتساب إلى ما تسميه البورقيبية، وتحاول أن توحي للجمهور أن فترة حكم الرئيس بورقيبة كانت ذهبية، ليس لها نظير، وبنوع من استثارة الحنين والنوستالجيا المبالغ فيها، تتم استعادة صورة الزعيم، وزيارة قبره، والحديث عن مآثره، وصولاً إلى التنديد بكل محاولة لإعادة البحث في إرث بورقيبة، أو مراجعة الفترة التاريخية الحاسمة التي صاحبت مفاوضات الاستقلال وما بعدها. والغريب أن هذه القوى الحزبية التي تدّعي وصلاً ببورقيبة لم يكن لها حضورٌ يُذكر، زمن حكم بن علي، حيث لازمت الصمت في أثناء الفترة التي قضاها بورقيبة، وحيداً محاصراً عاجزاً، في ما يشبه الإقامة الجبرية، من دون أن يرتفع صوت واحد لهؤلاء البورقيبيين الجدد للدفاع عنه، أو المطالبة بمنحه بعض الاهتمام أو الاحترام. وبعيداً عن التفسير السهل الذي يلقي المسؤولية في حالة التجاهل هذه على عاتق نظام بن علي، تثبت الوقائع أن
فالقوى التي تحاول الانتساب إلى البورقيبية إنما هي، في الواقع، تعبير عن حالة مرضية مازالت تعانيها الهوية الوطنية في تونس، ورغبة دفينة من أجل تأبيد النفوذ السياسي والثقافي
فالمطلوب اليوم ترك المجال للجيل الجديد، ليتولى إدارة شؤونه، وتحمّل مسؤولية المرحلة، بعيداً عن وصاية العجائز والأحزاب المغرقة في الأدلجة، أو الوافدين الجدد ممن لا علاقة لهم بالممارسة السياسية، ولم يسجلوا حضورهم في المشهد، إلا عبر نفوذهم المالي المكتسب في ظروف مشبوهة.
البورقيبية اليوم، ومهما حرص أصحابها والمنتفعون منها، لا يمكنها أن تقدّم شيئاً لمستقبل تونس، وليس وارداً أن يعود المجتمع إلى مربع حكم الزعيم المطلق والحزب الواحد، كما أن التحولات التاريخية التي دشنتها الثورة، وما رافقها من تحولات في الديموغرافيا (النسبة العالية للشباب) وتحولات في المعرفة (الثورة التقنية وأدوات التواصل الاجتماعي) لن تسمح بمصادرة المستقبل لمصلحة ماضٍ، مهما بدا وردياً في نظر أصحابه.