07 نوفمبر 2024
ثمانون حولاً بين هنري وزهير
يبقى التقدّم في العمر لغزاً حقيقياً، على بساطته البادية بالنسبة للمبدعين الذين يعتقدون أنهم، عبر إبداعهم، الكتابي بالذات، يستحقون خلودا من نوعٍ ما. تخلدهم كتاباتهم، أو بالأحرى تخلد أسماءهم لدى من يعقبهم من القراء على هذه الحياة، جيلا بعد جيل، في حين يمضون هم إلى العالم الآخر، تاركين أسئلتهم من النوع الذي لخصه محمود درويش في جداريته عن الموت: "لم يعد أحد من الموتى ليخبرنا الحقيقة/ ليعرفوا الحقيقة بأنفسهم"
في مطلع سبعينيات القرن الماضي، كان الكاتب الأميركي، هنري ميلر، قد بلغ ثمانين عاما، فكتب نصا بديعا، لخص فيه فلسفته تجاه الحياة كلها، من خلال هذا العمر الذي بلغه بصحة جيدة على الصعيدين، الجسدي والنفسي، بالنسبة لمسن في مثل هذا العمر.
في ذلك النص الذي كتبه ميلر على شكل مقال طويل نسبياً برهافة خلاصات النصوص، وشفافية السير الذاتية، حاول أن يؤكد على الخيوط التي بقيت تربطه بالناس كلهم، والأصدقاء والكتابة والفرح والحزن وأسلوبه المفضل في الأكل، وعن أشياء أخرى مسها مسا خفيفا، بقدر المسافة التي كانت تربطه بها طوال سنواته الثمانين، فبدا النص كما لو أنه مقدمةً لرواية كبيرة، لعلها الرواية الأخيرة، أو المشتهاة التي عجز عن كتابتها حتى النهاية، أو أنه كتب ذلك النص ليكون فصلها الأخير.. الأثير، لكنه انحرف، وهو يكتبه، ليجعل منه وصية فرحٍ لبشرٍ، ينبغي أن يعرفوا أن الحياة أقصر بكثير مما يعتقدون، وأنها لذلك أجمل بكثير مما تبدو عليه في عيونهم، وهم دون هذا العمر، فها هو الكاتب الذي عاش ثمانية عقود ما زال قادرا على المضي فيها، بالنزق نفسه والحماسة نفسها، ولكن بكثير من الحكمة التي تليق بوقار السنين وفلسفة المبدعين.
عندما قرأت النص قبل قليل، في ختام كتاب جديد اختار نصوصه وترجمها إلى العربية الشاب محمد الضبع، بعنوان "دوستوفسكي في سيبيريا هنري في ديجون" وصدر عن دار كلمات للنشر والتوزيع في الكويت، تذكّرت البيت الشهير للشاعر العربي القديم، زهير أبن أبي سلمى، عندما بلغ الثمانين من عمره فقال:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش/ ثمانين حولا، لا أبا لك، يسأم
فكلاهما صنع من سن الثمانين محطة توقف عندها لينظر إلى ما فات ومضى من محطات، وليقرّر بعدها إن كان سيستمر أن يطيل الوقوف عن المحطة، حتى تكون النهاية.
لكن مؤلف "مدار السرطان"، و"مدار الجدي"، وغيرهما من المدارات الروائية الخالدة في الأدب الأميركي الحديث، لم يكن ينتمي إلى المزاج الذي ينتمي إليه صاحب المعلقة الجاهلية الشهيرة، فبدا متفائلا مقبلا على حياته المتبقية، بشروطه التي أهدته عمرا لا بأس به، ليمضى إليها بمنتهى الحماسة، أما ابن أبي سلمى فقد توصل إلى نتيجة مفادها بأن الحياة بلا جدوى، وأن نهايات العمر أو المنايا تخبط المرء "خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِبْ تُمِتْهُ/ وَمَن تُخطئ يُعمَّرْ فيَهرَمِ"، حتى يبلغ الثمانين، وربما أبعد منها. وبالتالي، ليس هناك داع من الاستمرار ولا الحرص عليها.
لقد كتب ميلر عن بلوغ الثمانين، وكأنه يوصي قارئه الذي لم يقترب من هذه العمر بعد مطمئنا إياه: "إن بلغت الثمانين، ولم تكن مقعدًا أو عاجزًا، إن كنت تملك صحتك، وتستمتع بنزهة سير جيدة، ووجبة جيدة، إن كنت تستطيع النوم من دون تناول حبّة كل ليلة، إن كانت الطيور والأزهار، الجبال والبحر، ما زالت تلهمك، فأنت من أكثر الأفراد حظًا، وعليك أن تجثو على ركبتيك كل صباح ومساء، لتشكر الإله لقوى حفظه ورعايته".
وقال زهير، وكأنه يوصي من يسمعه الذي لم يقترب من هذه العمر بعد محذرا إياه: "ومَنْ لم يُصانِعْ في أمورٍ كَثيرَةٍ/ يُضَرَّسْ بأنْيابٍ ويُوطأ بمَنْسِمِ".
والمقارنة تطول بين زهير بن أبي سلمى وهنري ميلر، في تعاطيهما مع ثمانين حولا عاشها كل منهما بطريقته الخاصة، متكئا فيها على إبداعه في الشعر، أو في الرواية، لكن نتيجتها على أية حال واحدة، على الرغم من اختلاف الوصول إليها؛ خلود المبدع.. قضيته الأولى في الإبداع.
في مطلع سبعينيات القرن الماضي، كان الكاتب الأميركي، هنري ميلر، قد بلغ ثمانين عاما، فكتب نصا بديعا، لخص فيه فلسفته تجاه الحياة كلها، من خلال هذا العمر الذي بلغه بصحة جيدة على الصعيدين، الجسدي والنفسي، بالنسبة لمسن في مثل هذا العمر.
في ذلك النص الذي كتبه ميلر على شكل مقال طويل نسبياً برهافة خلاصات النصوص، وشفافية السير الذاتية، حاول أن يؤكد على الخيوط التي بقيت تربطه بالناس كلهم، والأصدقاء والكتابة والفرح والحزن وأسلوبه المفضل في الأكل، وعن أشياء أخرى مسها مسا خفيفا، بقدر المسافة التي كانت تربطه بها طوال سنواته الثمانين، فبدا النص كما لو أنه مقدمةً لرواية كبيرة، لعلها الرواية الأخيرة، أو المشتهاة التي عجز عن كتابتها حتى النهاية، أو أنه كتب ذلك النص ليكون فصلها الأخير.. الأثير، لكنه انحرف، وهو يكتبه، ليجعل منه وصية فرحٍ لبشرٍ، ينبغي أن يعرفوا أن الحياة أقصر بكثير مما يعتقدون، وأنها لذلك أجمل بكثير مما تبدو عليه في عيونهم، وهم دون هذا العمر، فها هو الكاتب الذي عاش ثمانية عقود ما زال قادرا على المضي فيها، بالنزق نفسه والحماسة نفسها، ولكن بكثير من الحكمة التي تليق بوقار السنين وفلسفة المبدعين.
عندما قرأت النص قبل قليل، في ختام كتاب جديد اختار نصوصه وترجمها إلى العربية الشاب محمد الضبع، بعنوان "دوستوفسكي في سيبيريا هنري في ديجون" وصدر عن دار كلمات للنشر والتوزيع في الكويت، تذكّرت البيت الشهير للشاعر العربي القديم، زهير أبن أبي سلمى، عندما بلغ الثمانين من عمره فقال:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش/ ثمانين حولا، لا أبا لك، يسأم
فكلاهما صنع من سن الثمانين محطة توقف عندها لينظر إلى ما فات ومضى من محطات، وليقرّر بعدها إن كان سيستمر أن يطيل الوقوف عن المحطة، حتى تكون النهاية.
لكن مؤلف "مدار السرطان"، و"مدار الجدي"، وغيرهما من المدارات الروائية الخالدة في الأدب الأميركي الحديث، لم يكن ينتمي إلى المزاج الذي ينتمي إليه صاحب المعلقة الجاهلية الشهيرة، فبدا متفائلا مقبلا على حياته المتبقية، بشروطه التي أهدته عمرا لا بأس به، ليمضى إليها بمنتهى الحماسة، أما ابن أبي سلمى فقد توصل إلى نتيجة مفادها بأن الحياة بلا جدوى، وأن نهايات العمر أو المنايا تخبط المرء "خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِبْ تُمِتْهُ/ وَمَن تُخطئ يُعمَّرْ فيَهرَمِ"، حتى يبلغ الثمانين، وربما أبعد منها. وبالتالي، ليس هناك داع من الاستمرار ولا الحرص عليها.
لقد كتب ميلر عن بلوغ الثمانين، وكأنه يوصي قارئه الذي لم يقترب من هذه العمر بعد مطمئنا إياه: "إن بلغت الثمانين، ولم تكن مقعدًا أو عاجزًا، إن كنت تملك صحتك، وتستمتع بنزهة سير جيدة، ووجبة جيدة، إن كنت تستطيع النوم من دون تناول حبّة كل ليلة، إن كانت الطيور والأزهار، الجبال والبحر، ما زالت تلهمك، فأنت من أكثر الأفراد حظًا، وعليك أن تجثو على ركبتيك كل صباح ومساء، لتشكر الإله لقوى حفظه ورعايته".
وقال زهير، وكأنه يوصي من يسمعه الذي لم يقترب من هذه العمر بعد محذرا إياه: "ومَنْ لم يُصانِعْ في أمورٍ كَثيرَةٍ/ يُضَرَّسْ بأنْيابٍ ويُوطأ بمَنْسِمِ".
والمقارنة تطول بين زهير بن أبي سلمى وهنري ميلر، في تعاطيهما مع ثمانين حولا عاشها كل منهما بطريقته الخاصة، متكئا فيها على إبداعه في الشعر، أو في الرواية، لكن نتيجتها على أية حال واحدة، على الرغم من اختلاف الوصول إليها؛ خلود المبدع.. قضيته الأولى في الإبداع.