أكاذيب وهلاوس 2018
لا تحلم سلطة عبد الفتاح السيسي بأكثر من إشعال حرائق الشك في كل شيء، كما هو حاصل الآن، بل أنها تعرف جيداً كيف تتفنن في إشعال "حرائق اليقين"، على النحو الذي يضمن لها السيطرة منخفضة التكاليف على العقل الجمعي.
وليست زوابع يوسف زيدان، ودراما التكفير، المصنوعة، أشياء تقع عفو الخاطر، أو بمحض المصادفة، وإنما هي معارك، مختارةٌ بعناية، كي تتواصل حرب الكل ضد الكل.
يدخل في ذلك أيضاً ما يتطوّع بتقديمه المعنيون بهم الانعتاق من هذا الجنون، هدايا مجانية للسلطة، من خلال استمرار حالة تمزيق الثياب وإهالة التراب المتبادلة بين ممن يفترض أنهم شركاء في الهم.
وفي هذا الصدد، شهدت الأيام الماضية مجموعةً من الأشياء العبثية، أثيرت مع ارتفاع أمواج السفسطة حول مهزلة ما تسمى "انتخابات 2018"، حيث يتم زجّ أسماء وتيارات في محرقة الشائعات والأوهام.
وعلى سبيل المثال، اندلعت حالة من التطاحن العبثي حول تسريبات عن "وثيقة" مشتركة بين معارضي الانقلاب، تنص صراحة على التخلي عن شرعية الرئيس محمد مرسي، ولا أعلم من أين يستقي الناس مثل هذه الترّهات، وقد حضرت جانباً من المناقشات حول هذا الأمر، ولم أسمع من أحد اقتراحا أو دعوةً أو قراراً بشأن "إسقاط شرعية الرئيس المنتخب"، فضلاً عن أن الحوار كان يدور، في الأساس، حول إيجاد مظلة يجتمع تحتها كل من يمتلك إرادة حقيقية لتخليص مصر من الكابوس الذي تعيش فيه.
من ذلك أيضاً حملة التشكيك والتشهير بهيئة الدفاع عن الرئيس مرسي، بعد ظهوره الأخير، وحديثه عن أخطار تتهدّد حياته، وقد طالت هذه الحملة بالأخص الدكتور محمد سليم العوا، فاتهمته بأنه تخلى عن الرئيس المختطف، ويتأهب للعب دورٍ في مسرح العبث الانتخابي القادم.
والمؤكد عندي من مصادر أثق بها، فضلاً عن أنها المعنية قبل أي أحدٍ بقضية الرئيس، أن الدكتور العوا لا يزال في طليعة هيئة الدفاع عن الرئيس، وكان حاضراً الجلسة الأخيرة التي اشتكى فيها الرئيس، في قضية إهانة القضاء، وقد سجّل خلالها اعتراضه على عدم السماح له بلقاء موكليه، وانسحب محتجاً على التنكيل بالمحامي عصام سلطان، الموجود بالقضية ذاتها، فضلاً عن أنه هو الذي ترافع وقدّم مذكرة الدفاع في قضية الاتحادية.
سيكولوجية التربص والانقضاض هذه كانت حاضرة أيضاً مع إجماع الجمعية العمومية لمجلس الدولة على ترشيح صاحب الحكم التاريخي بمصرية جزيرتي تيران وصنافير، وحده، ليرأس المجلس هو أبلغ وأقوى رسالة من القضاة، في المواجهة المفتوحة مع سلطة عبد الفتاح السيسي الساعية إلى الهيمنة المطلقة على كل شيء في مصر.
وما يثير الدهشة والأسى أيضاً أن تستمر عبثية التعاطي مع هذه التطوّرات، وبدلاً من دعم مجلس الدولة في صموده، قدر المستطاع، ضد بلطجة السلطة السياسية، يهرع قطاعٌ من الناس لممارسة ما أسميها "العدمية الثورية"، فيشكّك في صدقية استفاقة قضاة مجلس الدولة، مستسلما للتكييف السهل، الكسول، للموقف، فلا يجد غضاضةً في اعتبار كل ما يجري نوعاً من فنون المسرح السياسي، المتفق عليه بين سلطة الاستبداد والقضاء.. أو أن يلجأ آخرون إلى النبش في الذاكرة عن صورة أو تصريح للمرشح الوحيد لرئاسة مجلس الدولة، إبّان كارثة 30 يونيو/ حزيران 2013.
والحاصل الآن أن الاتفاق على ترشيح المستشار يحيى الدكروري، وحيداً، للمنصب يضع عبد الفتاح السيسي في ورطةٍ حقيقية، ويقول ببساطة إن قوانينه الاستبدادية لا تساوي الحبر الذي كتبت به، فإما أن يحترم اختيار مجلس الدولة، وهذا ليس متوقعاً بدرجة كبيرة، أو أن يقطع شوط الاستبداد إلى آخره، ويرفض الترشيح، ويختار هو بشكل منفرد واحداً من أقدم سبعة نواب لرئيس المجلس.
ولا أظن أنه، بعد القرار التاريخي للجمعية العمومية للمجلس، أن يكون هناك من قضاته من يجرؤ على قبول وظيفة "القط الأليف" الذي يموء، بالتعيين، بين أروقة قصر السيسي، و"القطط الأليفة" تعبير سياسي قديم عرفته مصر في عشرينات القرن الماضي ، صكّه حسين رشدى باشا الذى عينوه رئيس حكومة عام 1919، تحت سطوة الحاكم العسكري، المهيمن على كل السلطات، فقرّر الرجل الاستقالة حفظا لكرامته، وقال قولته الشهيرة إنكم لن تجدوا ثلاث قطط تقبل بمناصب وزارية، إذا استمرّت هيمنتكم على الحكومة بهذا الشكل.