11 أكتوبر 2024
"العدالة والتنمية" المغربي.. بحثاً عن بوصلة سياسية
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
التطورات السياسية المتلاحقة بشكل سريع في المغرب، بدءاً بانتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2016، ثم ردة حكومة أبريل/ نيسان 2917، وصولا إلى حراك الريف المستمر، أدت إلى وضع حزب العدالة والتنمية في موقفٍ لا يحسد عليه. وليس من المبالغة في شيء القول إن الحزب يجتاز أقوى وأصعب امتحانٍ في تاريخه السياسي القصير، بشهادة عدد من رموزه وقياداته، ناهيك عن الفئات العريضة من قواعده التي ترى العذرية السياسية لحزبهم تؤخذ كرها، وبشكل تدريجي منذ تشكيل حكومةٍ على المقاس، لا سلطة ولا حول ولا قوة لهم فيها.
شكل انقضاء المائة يوم الأولى من عمر حكومة سعد الدين العثماني فرصة لهياكل الحزب لاستعادة الحياة إليها، بعدما دخلت فترة كمون قاتل على غير عادتها، امتدت منذ زلزال إعفاء الأمين العام عبد الإله بنكيران من مهام تشكيل الحكومة. وقد كان ذلك فعلياً، بانعقاد الأمانة العامة لحزب المصباح أكثر من مرة، والمجلس الوطني في دورة استثنائية، وقبله اجتماع للمكتب الوطني للشبيبة. وذلك كله سعيا إلى ترتيب البيت الداخلي، بغية تجاوز الأزمة، وضمان الاصطفاف الجيد لتدبير المرحلة، بعد انقضاء عاصفةٍ خلط بها المخزن أوراق الإسلاميين بشكلٍ لم يخطر على بال أحد.
تظهر مؤشراتٌ عديدة أن هذه المساعي لن يكون الطريق نحوها مفروشًا بالورود لإسلاميي المغرب، ممن كانت تجربتهم نموذجاً معتبراً في العالم العربي، بعدما برز إلى الواجهة تياران متمايزان حد التناقض، بخصوص تقديريهما حول تشخيص المرحلة، وبالتالي اختلاف المواقف السياسية حيالها. وذلك راجعٌ إلى تعلق الأزمة، هذه المرة، بنقطة قوة الإسلاميين، وهي الوحدة الداخلية للتنظيم، عكس الأزمات السابقة التي ترتبط عادةً بالصراع مع السلطة، ومن يدور في فلكها من مؤسسات وأحزاب وإعلام.
يحاول التيار الأول، ممثلا في رئيس الحكومة الحالي، سعد الدين العثماني، ومعه حلف
الشخصيات المستوزرة، وإجمالا قيادات الصف الأول في حزب العدالة والتنمية، مدعومين بحركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوي للحزب، أن يبخّس مما جرى، معتبراً أن الحزب ما يزال في مواقع التدبير، ونجح، في نهاية المطاف، في تشكيل الحكومة، على الرغم من ركام العراقيل الذي وضع في وجهه أيام "البلوكاج" المعلوم. ثم إنه لم يتغير الشيء الكثير ما بين حكومتي 2012 و2017. وعليه، لا ضير من تقديم بعض التنازلات، من أجل الحفاظ على هذا المكسب.
ويرى التيار الثاني، بقيادة رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، وقلة من القيادات، مدعومين بالشبيبة وجناح في القطاع النقابي للحزب، أن ما حدث إغلاقٌ لقوس الربيع المغربي، وردة عن تراكمات المسار الإصلاحي الذي أطلقته الحكومة السابقة مستغلة هامش المناورة الذي أتاحه دستور 2011. وقبل ذلك، توريط للحزب من الدولة العميقة، واستهداف لشعبيته التي وضعت في مواجهة الشارع الذي آمن بخياره واحتضنه، ومنحه الصدارة في ثلاثة استحقاقات متوالية (2011، 2015، 2016).
يجد إسلاميو المغرب في "العدالة والتنمية" أنفسهم اليوم أمام مسؤوليةٍ تاريخية في صياغة ملامح تدبير المرحلة المقبلة؛ بعد إعفاء صناع أمجادهم الانتخابية قسراً، وفرض حكومة عليهم لا تعكس الإرادة الحقيقة المواطنين، كما جاءت في الصناديق... إلى غيرها من الأحداث التي تؤكد أن المخزن يستعجل حرق ورقة الإسلاميين، بتوريطهم في حكومةٍ لم يشكلوها. وقد بدت مسؤولية جسيمة واضحة في مداخلات بنكيران في أكثر من مناسبة، كان جديدها في المجلس الوطني الاستثنائي في 15 يوليو/ تموز الجاري، حين قال إن "الإصلاح ليس فيه اختيار.. نكون أو لا نكون، لا يمكن التراجع، لأنه ليس لدينا خيار". وفي الكلمة نفسها، حدّد الزعيم معالم خريطة طريق لإخوانه، تقودهم نحو المؤتمر الوطني الثامن للحزب، المزمع تنظيمه في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، قوامها خمس ركائز: حرية الرأي، واستقلالية القرار الحزبي، والديمقراطية الداخلية، والثقة، والمرجعية الإسلامية، سعيا منه إلى تقريب وجهات النظر بين القيادات، قبل وصول موعد المؤتمر. وهذه مهمة تبدو عصية على التحقق، ما لم يتم فتح نقاش صريح في النقطة اللغم التي تهدد "بيضة التنظيم"، والمتعلقة بتغيير المادة 16 من النظام الأساسي لحزب العدالة والتنمية، أنه "لا يمكن لعضو أن يتولى إحدى المسؤوليات الآتية لأكثر من ولايتين متتاليتين كاملتين: الأمين العام، رئيس المجلس الوطني، الكاتب الجهوي، الكاتب الإقليمي، الكاتب المحلي"، قصد السماح للأمين العام الحالي بالترشح لولاية ثالثة، بعدما طالب عدد من المنتسبين بذلك.
لا مفرّ إذن لحزب العدالة والتنمية؛ حتى لا يلقى المصير الذي آلت إليه أحزاب تاريخية عريقة، من فتح نقاش جاد ونقد مسؤول، قصد إعادة توجيه بوصلته، وتقديم أجوبةٍ مقنعةٍ، بعيدا عن
الخطاب الأخلاقوي الذي استعادته بعض القيادات، لإسكات الأصوات المعارضة. أجوبة عن أسئلة تتراكم منذ انحراف "المصباح" عن الخط الإصلاحي الذي تعاقد مع المواطنين عليه. وتتعلق أساساً بمستويين اثنين:
أولا: الحزب؛ أي حزب يريده الإسلاميون؟ وما مصير أطروحة "البناء الديمقراطي" بعد كل الذي حدث؟ وأي خط سياسي سوف يتبنون؟ وما الهوية السياسية التي يرونها مناسبةً في ظل التحولات الهائلة؟ وكيف يمكن تدبير هذه المرحلة الحساسة جدا بلوغ المستقبل؛ فيما يتعلق بالخط السياسي، أو القيادة القادرة على الوفاء له؟
ثانياً: الحكومة؛ أي حكومةٍ يقدّم إسلاميو حزب العدالة والتنمية للمغاربة؟ لما لم يختر هؤلاء خيار المعارضة، إن كان السقف السياسي لا يسمح بأكثر من الحكومة الراهنة؟ أليس مغامرةً القبول بالمشاركة في حكومةٍ ضعيفة، وأغلبية مخدومة تكبل قيادتها لدى أي محاولة للإصلاح انتحاراً سياسياً للإسلاميين؟
إنها أمثلة لمتوالية من الأسئلة التي تتردّد على ألسنة المنتسبين لحزب العدالة والتنمية والمتعاطفين وعموم المواطنين، ممن يتفرّجون على رئيس الحكومة وفريقه الوزاري يُجهزون على شعبية (ومصداقية) حزبٍ كان صوتهم، فمنحوه أصواتها في وقت قياسي، بتقديمها قرابين البقاء في خدمة السلطة، من دون أي تقدير للكلفة السياسية لهذا الاختيار، على الحزب أولا وعلى البلد ثانيا. ولا سبيل للخروج من هذه الورطة التي أوقعت الدولة العميقة إسلاميي المغرب فيها من الإجابة عنها.
شكل انقضاء المائة يوم الأولى من عمر حكومة سعد الدين العثماني فرصة لهياكل الحزب لاستعادة الحياة إليها، بعدما دخلت فترة كمون قاتل على غير عادتها، امتدت منذ زلزال إعفاء الأمين العام عبد الإله بنكيران من مهام تشكيل الحكومة. وقد كان ذلك فعلياً، بانعقاد الأمانة العامة لحزب المصباح أكثر من مرة، والمجلس الوطني في دورة استثنائية، وقبله اجتماع للمكتب الوطني للشبيبة. وذلك كله سعيا إلى ترتيب البيت الداخلي، بغية تجاوز الأزمة، وضمان الاصطفاف الجيد لتدبير المرحلة، بعد انقضاء عاصفةٍ خلط بها المخزن أوراق الإسلاميين بشكلٍ لم يخطر على بال أحد.
تظهر مؤشراتٌ عديدة أن هذه المساعي لن يكون الطريق نحوها مفروشًا بالورود لإسلاميي المغرب، ممن كانت تجربتهم نموذجاً معتبراً في العالم العربي، بعدما برز إلى الواجهة تياران متمايزان حد التناقض، بخصوص تقديريهما حول تشخيص المرحلة، وبالتالي اختلاف المواقف السياسية حيالها. وذلك راجعٌ إلى تعلق الأزمة، هذه المرة، بنقطة قوة الإسلاميين، وهي الوحدة الداخلية للتنظيم، عكس الأزمات السابقة التي ترتبط عادةً بالصراع مع السلطة، ومن يدور في فلكها من مؤسسات وأحزاب وإعلام.
يحاول التيار الأول، ممثلا في رئيس الحكومة الحالي، سعد الدين العثماني، ومعه حلف
ويرى التيار الثاني، بقيادة رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، وقلة من القيادات، مدعومين بالشبيبة وجناح في القطاع النقابي للحزب، أن ما حدث إغلاقٌ لقوس الربيع المغربي، وردة عن تراكمات المسار الإصلاحي الذي أطلقته الحكومة السابقة مستغلة هامش المناورة الذي أتاحه دستور 2011. وقبل ذلك، توريط للحزب من الدولة العميقة، واستهداف لشعبيته التي وضعت في مواجهة الشارع الذي آمن بخياره واحتضنه، ومنحه الصدارة في ثلاثة استحقاقات متوالية (2011، 2015، 2016).
يجد إسلاميو المغرب في "العدالة والتنمية" أنفسهم اليوم أمام مسؤوليةٍ تاريخية في صياغة ملامح تدبير المرحلة المقبلة؛ بعد إعفاء صناع أمجادهم الانتخابية قسراً، وفرض حكومة عليهم لا تعكس الإرادة الحقيقة المواطنين، كما جاءت في الصناديق... إلى غيرها من الأحداث التي تؤكد أن المخزن يستعجل حرق ورقة الإسلاميين، بتوريطهم في حكومةٍ لم يشكلوها. وقد بدت مسؤولية جسيمة واضحة في مداخلات بنكيران في أكثر من مناسبة، كان جديدها في المجلس الوطني الاستثنائي في 15 يوليو/ تموز الجاري، حين قال إن "الإصلاح ليس فيه اختيار.. نكون أو لا نكون، لا يمكن التراجع، لأنه ليس لدينا خيار". وفي الكلمة نفسها، حدّد الزعيم معالم خريطة طريق لإخوانه، تقودهم نحو المؤتمر الوطني الثامن للحزب، المزمع تنظيمه في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، قوامها خمس ركائز: حرية الرأي، واستقلالية القرار الحزبي، والديمقراطية الداخلية، والثقة، والمرجعية الإسلامية، سعيا منه إلى تقريب وجهات النظر بين القيادات، قبل وصول موعد المؤتمر. وهذه مهمة تبدو عصية على التحقق، ما لم يتم فتح نقاش صريح في النقطة اللغم التي تهدد "بيضة التنظيم"، والمتعلقة بتغيير المادة 16 من النظام الأساسي لحزب العدالة والتنمية، أنه "لا يمكن لعضو أن يتولى إحدى المسؤوليات الآتية لأكثر من ولايتين متتاليتين كاملتين: الأمين العام، رئيس المجلس الوطني، الكاتب الجهوي، الكاتب الإقليمي، الكاتب المحلي"، قصد السماح للأمين العام الحالي بالترشح لولاية ثالثة، بعدما طالب عدد من المنتسبين بذلك.
لا مفرّ إذن لحزب العدالة والتنمية؛ حتى لا يلقى المصير الذي آلت إليه أحزاب تاريخية عريقة، من فتح نقاش جاد ونقد مسؤول، قصد إعادة توجيه بوصلته، وتقديم أجوبةٍ مقنعةٍ، بعيدا عن
أولا: الحزب؛ أي حزب يريده الإسلاميون؟ وما مصير أطروحة "البناء الديمقراطي" بعد كل الذي حدث؟ وأي خط سياسي سوف يتبنون؟ وما الهوية السياسية التي يرونها مناسبةً في ظل التحولات الهائلة؟ وكيف يمكن تدبير هذه المرحلة الحساسة جدا بلوغ المستقبل؛ فيما يتعلق بالخط السياسي، أو القيادة القادرة على الوفاء له؟
ثانياً: الحكومة؛ أي حكومةٍ يقدّم إسلاميو حزب العدالة والتنمية للمغاربة؟ لما لم يختر هؤلاء خيار المعارضة، إن كان السقف السياسي لا يسمح بأكثر من الحكومة الراهنة؟ أليس مغامرةً القبول بالمشاركة في حكومةٍ ضعيفة، وأغلبية مخدومة تكبل قيادتها لدى أي محاولة للإصلاح انتحاراً سياسياً للإسلاميين؟
إنها أمثلة لمتوالية من الأسئلة التي تتردّد على ألسنة المنتسبين لحزب العدالة والتنمية والمتعاطفين وعموم المواطنين، ممن يتفرّجون على رئيس الحكومة وفريقه الوزاري يُجهزون على شعبية (ومصداقية) حزبٍ كان صوتهم، فمنحوه أصواتها في وقت قياسي، بتقديمها قرابين البقاء في خدمة السلطة، من دون أي تقدير للكلفة السياسية لهذا الاختيار، على الحزب أولا وعلى البلد ثانيا. ولا سبيل للخروج من هذه الورطة التي أوقعت الدولة العميقة إسلاميي المغرب فيها من الإجابة عنها.
دلالات
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
محمد طيفوري
مقالات أخرى
22 سبتمبر 2024
03 سبتمبر 2024
21 اغسطس 2024