04 أكتوبر 2024
المفاجأَة غير المفاجِئة في مصر
لم تكن مصادفةً أن يكون يوم 30 يونيو موعد زيادة أسعار الوقود في مصر، والذي ستتبعه زيادة في أسعار الكهرباء والنقل والسلع الغذائية. شيطان من اختار هذا الموعد، فهو خير موعد لكيلا يكون هناك رد فعل حقيقي من القوى السياسية، إنه موسم التناحر والتنابذ، وموسم جلد الذات أو إلقاء اللوم على الآخرين، فبالتالي يصعب أي تحرّك جماهيري منظم في الأثناء، فالمجموعات السياسية التي يُفترض أن تقود أي حراكٍ متفرّغة للتلاسن والبكائيات، بدلا من التحرّك المنظم الفعّال.
ما زال صديق يساري، أعتبره من القلائل المخلصين لمبادئهم، يدافع عن أفكاره بكل شجاعة، مهما كانت خارج السياق العام، أو الموجة العاتية، كتب، قبل أيام، ينتقد صمت اليسار وحالة المفاجأة بعد قرارات زيادة الأسعار، فلكل فصيل أولوياته، فإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين والمجموعات الموالية والمنبثقة قد اختاروا معركة الشرعية وعودة الرئيس المعزول، فهناك مجموعات أخرى اختارت معركة مصرية جزيرتي تيران وصنافير، ويتزعم هذا التحرّك جزء كبير من التيار الناصري (غير الموالي لعبد الفتاح السيسي والمؤسسة العسكرية)، بالإضافة إلى المجموعات الشبابية والثورية، فلذلك كان حريًّا بالمجموعات التي تنتمي إلى اليسار ويسار الوسط أن تكون أولويتهم في معركة الأداء الاقتصادي، وكيفية مواجهة آثار إجراءات التقشف والنيوليبرالية. ولذلك، كان من العجيب أن يتفاجأوا بما حدث، والأغرب ألا تكون هناك خطة، ولا نيات لوجود خطة، ولا نياتٍ لأي تحرّك من الأساس.
لماذا كانت قرارات السيسي مفاجأة، وقد كان أعلن عنها تفصيلا قبل بشهور. ولعلنا نتذكّر رد الفعل العصبي الذي صدر من السيسي، عندما حاول أحد نواب البرلمان مناقشته في تأجيل قرار تخفيض الدعم وزيادة أسعار الوقود.
بل إنه أعلن عن هذه السياسات قبل توليه رئاسة الجمهورية، فعلى الرغم من أنه تعمّد وأصر
على عدم الإعلان عن برنامج انتخابي، لكيلا تكون هناك تعهدات واضحة يمكن محاسبته عليها. ولكن، من خلال الأحاديث الصحافية القليلة في أثناء الحملة الانتخابية، كانت هناك تصريحات للسيسي ضد فكرة الدعم، وضد فكرة الضريبة التصاعدية، وضد مبادئ العدالة الاجتماعية من الأساس. وهذا ما جعله يسارع إلى تطبيق أسوأ نماذج النيوليبرالية التي ترفع عن كاهل الدولة أي مسؤولياتٍ، ومن دون أية ضوابط أو قيود على الممارسات الاقتصادية والتجارية، وتترك السوق يتصارع مع السماح بالاحتكار، من دون مسؤولية اجتماعية على الدولة.
قد تنجح السياسات النيوليبرالية في بعض التجارب والمجتمعات، وفي الدول التي فيها مؤسسات وسلطات متوازنة وشفافية ورقابة، لكن ما يزيد الطين بلة في هذه الأزمة أنه ليس للشعب المصري دور في تلك القرارات والخطط، وهو الذي يُفترض أنه صاحب المصلحة، والذي يُفترض أنه الذي عليه أن يتحمل ليستفيد مستقبلا بعد الخروج من عنق الزجاجة الضيقة التي لا نزال محشورين فيها منذ عشرات السنين. ولكن، لا الشعب فوّض، ولا البرلمان ناقش، ولا حتى الحكومة التي يُفترض، على الورق، أنها تعمل لمصلحة المواطنين، لديها أي قدرة على مناقشة أو دراسة شيء، الأمور تدار كما لو كانت ممتلكات شخصية أو عزبة للسيسي وعشيرته.
لا يجوز لأحد مناقشة ميزانية القوات المسلحة، ولا مشروعاتها، ولا اقتصادها السري، لا يجوز للبرلمان الاقتراب من تلك القضية، ومناقشة التفاصيل، كما يحدث في الدول الديمقراطية المتقدّمة التي فيها مؤسسات تستطيع مناقشة أدق التفاصيل حول التسليح والميزانية والعمليات العسكرية، وتحاسب المقصّرين، مهما كانت مناصبهم حساسة، وهي بالمناسبة الدول نفسها التي يحصل منها الجيش المصري على تسليحه وتدريبه والمعونات، نحن نعيش في وهْم فاشل، أو رهان خاسر، بشأن القوات المسلحة التي تركت مهامها، وتدخلت في كل شيء في حياة المصريين، وأصبحت دولة داخل الدولة، أو بديلا للدولة المصرية، أو أن تقوم القوات المسلحة بكل الخدمات والمشروعات، مع تجاهل أن هذا ما يزيد من تكاسل الوزارات والأجهزة الإدارية، وزيادة تواكلها وترهّلها وفسادها.
لا يجوز، في مصر، للحكومة أو للبرلمان مناقشة مشروعات السيسي الكبرى، وأحلامه التي
تستهلك معظم ميزانية المصريين، ولو كانت لا عائد حقيقيا لها على باقي المصريين، حتى وإن أجمع معظم الخبراء والعلماء والمهندسين على أنها مشروعاتٌ فاشلة، لا جدوى منها سوى الشهرة وتخليد الذكرى، مثل ملوك الفراعنة، حتى وإن أجمع خبراء الاقتصاد أنها تستنزف ثروات مصر وتهدرها، حتى وإن أجمع خبراء الاقتصاد أن الأجدى هو استغلال القروض والموارد المحدودة في مشروعاتٍ إنتاجية وتنموية مستدامة، تدر دخلا، وتستثمر الموارد البشرية، وتشغّل الأيدي العاملة بشكل مستدام، وليس مؤقتا.
هل يجرؤ مجلس الوزراء، أو البرلمان، مناقشة السيسي في جدوى تفريعة قناة السويس، وما استهلكته من مليارات الجنيهات من مدّخرات المصريين؟ هل يجرؤ مجلس الوزراء، أو البرلمان، مناقشة السيسي في حلمه الكبير في العاصمة الإدارية الجديدة التي تستهلك الموارد المالية والبشرية، وتستهلك جزءا كبيرا من الميزانية والقروض؟ هل يجرؤ أحد نواب السيسي في مجلس النواب أن يعترض على مخالفة الميزانية الجديدة الدستور، بعد الاقتطاع من ميزانية الصحة والتعليم، أو الاعتراض على القروض الكثيرة التي ستعاني منها الأجيال المقبلة سنوات طويلة.
قد تنجح السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في دول أخرى مع اختلاف الظروف، ومع وجود شفافية ومحاسبة وحكم رشيد ومظلة اجتماعية، لكن تلك السياسات تكون وبالا في حالة مصر التي تعاني من الترّهل الإداري، والفشل وغياب الشفافية والمحاسبة، ستزيد تلك السياسات الأمور تدهورا في ظل سياسة الصوت الواحد، وتخوين كل من يناقش أو يعترض، سيظل يقترض بفوائد وديون كبيرة، ليستطيع تحقيق أي إنجازاتٍ سريعة، تساعده في تثبيت حكمه، سيطبق روشتة البنك الدولي المدمرة التي تشجع المشروعات الربحية السريعة، والشركات متعددة الجنسيات، والتي تدعو إلى تطبيق سياسات التقشف، وتقليل الإنفاق على الصحة والتعليم والمظلة الاجتماعية، فسيزداد الأمر تفاقما بالتأكيد. ولكن، لن تعنيه معاناة الناس، أو مصلحة المصريين، فالمهم هو الحفاظ على دولة المصالح والشبكات السرية، حتى تنتهي الفترتان الرئاسيتان، ويتم تسليم السلطة لوريث جديد من الأهل والعشيرة.
وبالعودة إلى الموضوع، وهو مفاجأة المجموعات المعارضة، وخصوصا اليسار، على الرغم من وضوح توجهات السيسي منذ البداية، وهذه المجموعات أو التنظيمات أو الأحزاب اليسارية، بالإضافة إلى المجموعات الشبابية والثورية هي التي يفترض بها أن تكون القائدة والمبادرة والمحركة لأي تحرّكاتٍ معارضةٍ لتلك السياسات المجحفة، ستجد أن حال اليسار المصري كحال كل الأحزاب والمجموعات السياسية والثورية والشبابية، مهلهل، ضعيف، منقسم. يعيش تحت التهديد الدائم والحصار الدائم، ينتظر المعجزة التي لا يعرف أحدٌ من أين ولا متى ستأتي، وهو ما يتطلب أن يتولى أحد (شخصٌ أو مجموعة من الأشخاص) مهمة التنسيق والتفكير والنقاش وطرح الحلول والبدائل وخطط التحرّك، وهي، من وجهة نظري، مهمة صعبة وخطيرة، في الوقت الحالي الذي يتم فيه وأْد أي تحرك، قبل أن يبدأ، بل وقبل التفكير فيه.
ما زال صديق يساري، أعتبره من القلائل المخلصين لمبادئهم، يدافع عن أفكاره بكل شجاعة، مهما كانت خارج السياق العام، أو الموجة العاتية، كتب، قبل أيام، ينتقد صمت اليسار وحالة المفاجأة بعد قرارات زيادة الأسعار، فلكل فصيل أولوياته، فإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين والمجموعات الموالية والمنبثقة قد اختاروا معركة الشرعية وعودة الرئيس المعزول، فهناك مجموعات أخرى اختارت معركة مصرية جزيرتي تيران وصنافير، ويتزعم هذا التحرّك جزء كبير من التيار الناصري (غير الموالي لعبد الفتاح السيسي والمؤسسة العسكرية)، بالإضافة إلى المجموعات الشبابية والثورية، فلذلك كان حريًّا بالمجموعات التي تنتمي إلى اليسار ويسار الوسط أن تكون أولويتهم في معركة الأداء الاقتصادي، وكيفية مواجهة آثار إجراءات التقشف والنيوليبرالية. ولذلك، كان من العجيب أن يتفاجأوا بما حدث، والأغرب ألا تكون هناك خطة، ولا نيات لوجود خطة، ولا نياتٍ لأي تحرّك من الأساس.
لماذا كانت قرارات السيسي مفاجأة، وقد كان أعلن عنها تفصيلا قبل بشهور. ولعلنا نتذكّر رد الفعل العصبي الذي صدر من السيسي، عندما حاول أحد نواب البرلمان مناقشته في تأجيل قرار تخفيض الدعم وزيادة أسعار الوقود.
بل إنه أعلن عن هذه السياسات قبل توليه رئاسة الجمهورية، فعلى الرغم من أنه تعمّد وأصر
قد تنجح السياسات النيوليبرالية في بعض التجارب والمجتمعات، وفي الدول التي فيها مؤسسات وسلطات متوازنة وشفافية ورقابة، لكن ما يزيد الطين بلة في هذه الأزمة أنه ليس للشعب المصري دور في تلك القرارات والخطط، وهو الذي يُفترض أنه صاحب المصلحة، والذي يُفترض أنه الذي عليه أن يتحمل ليستفيد مستقبلا بعد الخروج من عنق الزجاجة الضيقة التي لا نزال محشورين فيها منذ عشرات السنين. ولكن، لا الشعب فوّض، ولا البرلمان ناقش، ولا حتى الحكومة التي يُفترض، على الورق، أنها تعمل لمصلحة المواطنين، لديها أي قدرة على مناقشة أو دراسة شيء، الأمور تدار كما لو كانت ممتلكات شخصية أو عزبة للسيسي وعشيرته.
لا يجوز لأحد مناقشة ميزانية القوات المسلحة، ولا مشروعاتها، ولا اقتصادها السري، لا يجوز للبرلمان الاقتراب من تلك القضية، ومناقشة التفاصيل، كما يحدث في الدول الديمقراطية المتقدّمة التي فيها مؤسسات تستطيع مناقشة أدق التفاصيل حول التسليح والميزانية والعمليات العسكرية، وتحاسب المقصّرين، مهما كانت مناصبهم حساسة، وهي بالمناسبة الدول نفسها التي يحصل منها الجيش المصري على تسليحه وتدريبه والمعونات، نحن نعيش في وهْم فاشل، أو رهان خاسر، بشأن القوات المسلحة التي تركت مهامها، وتدخلت في كل شيء في حياة المصريين، وأصبحت دولة داخل الدولة، أو بديلا للدولة المصرية، أو أن تقوم القوات المسلحة بكل الخدمات والمشروعات، مع تجاهل أن هذا ما يزيد من تكاسل الوزارات والأجهزة الإدارية، وزيادة تواكلها وترهّلها وفسادها.
لا يجوز، في مصر، للحكومة أو للبرلمان مناقشة مشروعات السيسي الكبرى، وأحلامه التي
هل يجرؤ مجلس الوزراء، أو البرلمان، مناقشة السيسي في جدوى تفريعة قناة السويس، وما استهلكته من مليارات الجنيهات من مدّخرات المصريين؟ هل يجرؤ مجلس الوزراء، أو البرلمان، مناقشة السيسي في حلمه الكبير في العاصمة الإدارية الجديدة التي تستهلك الموارد المالية والبشرية، وتستهلك جزءا كبيرا من الميزانية والقروض؟ هل يجرؤ أحد نواب السيسي في مجلس النواب أن يعترض على مخالفة الميزانية الجديدة الدستور، بعد الاقتطاع من ميزانية الصحة والتعليم، أو الاعتراض على القروض الكثيرة التي ستعاني منها الأجيال المقبلة سنوات طويلة.
قد تنجح السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في دول أخرى مع اختلاف الظروف، ومع وجود شفافية ومحاسبة وحكم رشيد ومظلة اجتماعية، لكن تلك السياسات تكون وبالا في حالة مصر التي تعاني من الترّهل الإداري، والفشل وغياب الشفافية والمحاسبة، ستزيد تلك السياسات الأمور تدهورا في ظل سياسة الصوت الواحد، وتخوين كل من يناقش أو يعترض، سيظل يقترض بفوائد وديون كبيرة، ليستطيع تحقيق أي إنجازاتٍ سريعة، تساعده في تثبيت حكمه، سيطبق روشتة البنك الدولي المدمرة التي تشجع المشروعات الربحية السريعة، والشركات متعددة الجنسيات، والتي تدعو إلى تطبيق سياسات التقشف، وتقليل الإنفاق على الصحة والتعليم والمظلة الاجتماعية، فسيزداد الأمر تفاقما بالتأكيد. ولكن، لن تعنيه معاناة الناس، أو مصلحة المصريين، فالمهم هو الحفاظ على دولة المصالح والشبكات السرية، حتى تنتهي الفترتان الرئاسيتان، ويتم تسليم السلطة لوريث جديد من الأهل والعشيرة.
وبالعودة إلى الموضوع، وهو مفاجأة المجموعات المعارضة، وخصوصا اليسار، على الرغم من وضوح توجهات السيسي منذ البداية، وهذه المجموعات أو التنظيمات أو الأحزاب اليسارية، بالإضافة إلى المجموعات الشبابية والثورية هي التي يفترض بها أن تكون القائدة والمبادرة والمحركة لأي تحرّكاتٍ معارضةٍ لتلك السياسات المجحفة، ستجد أن حال اليسار المصري كحال كل الأحزاب والمجموعات السياسية والثورية والشبابية، مهلهل، ضعيف، منقسم. يعيش تحت التهديد الدائم والحصار الدائم، ينتظر المعجزة التي لا يعرف أحدٌ من أين ولا متى ستأتي، وهو ما يتطلب أن يتولى أحد (شخصٌ أو مجموعة من الأشخاص) مهمة التنسيق والتفكير والنقاش وطرح الحلول والبدائل وخطط التحرّك، وهي، من وجهة نظري، مهمة صعبة وخطيرة، في الوقت الحالي الذي يتم فيه وأْد أي تحرك، قبل أن يبدأ، بل وقبل التفكير فيه.