04 أكتوبر 2024
النيو ناصرية وما تبقى من ثورة يوليو
كنت قبل أيام أسير مع أطفالي في وسط القاهرة، أو القاهرة الخديوية، أو وسط البلد كما هو الاسم الشعبي الدارج، فسألوني عن اسم المنطقة، فأجبت بأنها منطقة وسط البلد. ثم سألوني: البيوت والمباني هنا جميلة يا أبي، لماذا ليست باقي بيوت مصر هكذا؟ حاولت تبسيط الإجابة، فقلت لأن الناس في زمن تلك المباني والبيوت كان لديها ذوق.. كان هناك انفتاح على جميع الثقافات، وكان هناك تسامح. لم يكن هناك هذا الانغلاق، أصبحت البيوت بعد ذلك قبيحة، لم يعد هناك اهتمام بالذوق أو الجمال، لم يعد القانون يوضع بهدف التنظيم أو لمصلحة الناس، بل أصبح القانون يوضع، ومعه استثناءاته وثغراته التي تستفيد منها الطبقة الحاكمة التي تعتبر نفسها فوق القانون، من ضباط الجيش أولا ثم الشرطة ثم القضاة، وأصحاب رؤوس الأموال والمصالح مع الطبقة الحاكمة.
كان من الصعب أن أشرح لطفلٍ في السادسة من عمره أن كل ذلك القبح في المظهر والجوهر بدأ بعد انقلاب يوليو/ تموز 1952، حيث اختلفت الثقافة، وتم إحداث تغييرات عديدة. .. تعلم ضباط بوليو أنفسهم في العهد الملكي، ودرس بعضهم اللغات والفنون، وكان لبعضهم ميول أدبية. كذلك كانت الحركة الثقافية والأدبية في الخمسينيات والستينيات ناجمة عن نظام التعليم والحراك الثقافي والحريّة النسبية قبل 1952. ولكن، بعد تأميم الثقافة والآداب والفنون أنتجت ثقافة المقاولات، ابتداء من السبعينيات، فنون المقاولات، مباني المقاولات، آداب المقاولات، اللغة هي لغة المكسب والخسارة المالية بغض النظر عن الذوق والثقافة والتربية والأبعاد الأخرى الاجتماعية السياسية طويلة المدى.
كثيرا ما ترد أسئلة ساذجة من عيّنة، ماذا لو؟ لو تغيرت بعض الأحداث، أو لو كانت مطالب حركة الضباط أقل راديكالية من ذلك؟ أو تم تطبيق نظام ملكي برلماني، أو حتى جمهوري
برلماني؟ ماذا لو كان الجيش قد عاد إلى الثكنات فعلا كما وعد في البداية؟ ماذا لو كانت استمرت التعدّدية الحزبية، حتى تنضج التجربة الديمقراطية وتطور نفسها؟ المطالب التي تم إعلانها في ذلك اليوم مشروعة، ولو كانت تحققت بالفعل، لنقلت مصر نقلة كبرى، إقامة حياة ديمقراطية سليمة. صحيح أن للعهد الملكي ما له وعليه ما عليه، فلم تكن الديمقراطية كاملةً في العهد الملكي، وكان الملك يحل البرلمان كلما فاز حزب الوفد (حزب الأغلبية والمدعوم شعبيا في ذلك الوقت) أو عندما يتم تشكيل حكومة ليست على هواه، وكان الملك وحكوماته منبطحين للإنكليز، وكان هناك تفاوتٌ طبقي بالتأكيد وفساد سياسي، لكن ذلك كله لا يُقارن بالموجود اليوم.
ولكن، لو راجعنا الأهداف أو المطالب المعلنة للانقلاب، أو حرك الضباط في يوليو 1952 أو (الحركة المباركة كما أطلقوا عليها بعد ذلك) وتمت المقارنة بما كان وقتها وما هو موجود حاليا، على اعتبار أنه نظام الحكم نفسه والجمهورية نفسه، فلم تتغير قواعد السلطة وتقاليدها وأسلوب الإدارة منذ ذلك الوقت، فمنذ 65 عاما لم يتغير سوى شعارات النظام وبعض التغيرات الطفيفة، لكن دولة يوليو لا تزال باقية، وهذه هي النتيجة.
كان المطلب الأول القضاء على الإقطاع، فهل تم ذلك، أم ارتدى الإقطاع بزة عسكرية؟ هل اختفت الطبقة الإقطاعية التي كانت تحصل على امتيازات وإعفاءات غير متوفرة للآخرين، أم استولت طبقة أخرى على تلك الامتيازات نفسها، واحتكرتها لنفسها باسم الوطنية والدفاع عن الأمن القومي، وأنهم هم الأجدر والأقدر على إدارة كل شيء واحتكاره؟
كان المطلب الثاني القضاء على الاستعمار وأعوانه، فهل تم ذلك، أم تغير شكل الاستعمار؟ ربما تحرّرنا عسكريا من الاستعمار البريطاني الذي كان ينتهي ويتآكل بالفعل، بفعل تآكل وانهيار الإمبراطورية البريطانية وقتها، ولكن الاستعمار أصبح الآن في شكل شركاتٍ متعدّدة الجنسيات، وتحتكر الثروات وتستغل طاقات البشر بأبخس الأثمان. ولكن ماذا عن الإملاءات والتحكمات السعودية الإماراتية في مصر... ألا يمكن اعتبارها من أنواع الاستعمار الجديد؟
كان المطلب الثالث القضاء على تحكم رأس المال في السلطة، ويمكن القول إن إجراءات التأميم أسهمت في القضاء على الرأسمالية المتوحشة والاحتكار، خصوصا مع تصاعد المد الاشتراكي في ذلك الوقت، لكن التطبيق الجائر أسهم في القضاء على رأس المال الوطني أيضا، أسهم في تحكّم الدولة في أدوات الإنتاج وإعطاء العمال حقوقهم وقيام صناعة وطنية، لكن أيضا تم تدمير شركات عديدة ناجحة، وتحولت المصانع الكبرى إلى شركات قطاع عام، يديرها موظفون يضمنون راتبهم آخر الشهر، ولا تعنيهم نسبة الإنتاج وكيفية التطوير والتحديث، وأسهم الفساد وغياب الرقابة في عهد أنور السادات، ثم سياسة الخصخصة الجائرة في عهد حسني مبارك إلى تدمير ما تبقى من صناعة مصرية.
ولكن، هل فعلا تم القضاء على تحكم رأس المال في السلطة؟ في الانتخابات؟ في الإعلام؟ في دوائر صنع القرار؟ أم قام رأس المال الجشع بالتلون في العهد الناصري، ثم التلون مرة أخرى في عهد السادات، ثم مبارك، ثم أصبح أكثر توحشا الآن في أسوأ أمثلة رأس المال والسلطة؟
كان المطلب الرابع تحقيق العدالة الاجتماعية.. ربما كان هذا هو الإنجاز الوحيد الذي تحقق (فترة محدودة). ولكن، يجب دراسة لماذا تحولنا الآن إلى النيوليبرالية الجشعة؟ كان الخبز في العهد الناصري مقابل الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، وبسبب التضحية بالديمقراطية والحريات، أصبح حالنا الآن لا خبز ولا ديمقراطية ولا حريات، فبعد شعارات العدالة الاجتماعية في الخمسينيات والستينيات، تحولنا إلى سياسة الانفتاح في دولة يوليو في السبعينيات، ثم طبقة رجال الأعمال والاحتكارات والخصخصة في النسخة "المباركية" لدولة يوليو، حتى أصبحنا الآن نطبق أسوأ نماذج النيوليبرالية، وأكثرها جشعا بقيادة الجيش وإشرافه.
كان المطلب الخامس إقامة حياة ديمقراطية سليمة، والمشكلة الأكبر، من وجهة نظري، أن كلا من رؤساء دولة يوليو منذ 1952 زعم، وقد يكون عن اقتناع، أن عهده هو أزهى عصور الديمقراطية، فقد اعتبر جمال عبد الناصر أن الشمولية وسياسة الحزب الواحد هي أسمى أنواع الديمقراطية، وأن التعدّدية الحزبية والانتخابات الحرة أفكار غربية، تسعى إلى عودة الاستعمار وأعداء الوطن، وهي المفهوم الذي استمر، وإن أخذ ديمقراطية شكلية وأحزابا صورية محاصرة في مقدراتها لزوم الديكور والتجميل أمام الغرب والجهات المانحة. وتم التأسيس لجمهورية الخوف التي أدت إلى غياب الشفافية والمحاسبة، وغياب مفهوم المشاركة الشعبية، ما أدى إلى ما نحن فيه الآن من فساد وقمع وفشل إداري.
كان المطلب السادس إقامة جيش وطني قوي. جيشنا قوى، وهذا يدعو إلى الفخر. ولكن علينا
أن نتذكر أن تسليح الجيش المصري كان يعادل ما لدى الجيش الإسرائيلي قبل هزيمة 1967 أو يتفوق عليه، لكنها الحماقة وغياب التخطيط والدخول في مغامرات غير محسوبة من أجل الزعامة والمجد الشخصي، بالإضافة إلى غياب المعلومات الدقيقة عن العدو الذي كان يعلم أدق تفاصيل جيشنا وتسليحنا.
الجيش المصري قوي، ولكنه كذلك يتدخل في السياسة، وهذا ما يجعله خصما وليس حَكَما. بالإضافة إلى انتهاكات حقوق الإنسان وتهجير أهالي رفح من مساكنهم والقتل والتصفية خارج إطار القانون. هناك أيضا التحكّم في الصناعة والتجارة والزراعة والتعدين وبيع الأراضي ومنافسة القطاع العام والخاص والمضاربة في البورصة والمساهمة في رفع الأسعار، والتحكّم في كل مفاصل الدولة.
وأخيرا.. ما نحن فيه الآن في مصر من كوارث هو نتاج أُسلوب الحكم الذي ترسّخ بعد 23 يوليو 1952، وتحديدا بعد هزيمة الموجة التي كانت تطالب بعودة الديمقراطية والحياة السياسية والنيابية في 1954، فربما لو كانت المطالب أكثر إصلاحية في 1952، أو لو كانت مطالب عودة الديمقراطية والحياة السياسية والنيابية هي التي انتصرت في 1954، لكنا تجنبنا كوارث عديدة مثل هزيمة 1967، ولكانت حياتنا السياسية أكثر نضجاً ووعياً.
لو لم يتحول ضباط يوليو إلى ملوك وأمراء وطبقة إقطاعية جديدة، لها مصالح سرية خاصة لا يجوز مناقشتها أو الاقتراب منها، لربما كانت مصر قطعت شوطا كبيرا نحو المدنية، ولكانت أجهزة الدولة أكثر قدرةً على الإدارة، والقيام بمهامها من دون الاعتماد على المؤسسة العسكرية.
أصبحنا في نموذج مسخ من دولة يوليو، إنها النيو- ناصريزم، فلم تعد القضية الفلسطينية الأساس، وانهار المشروع الوحدوي العروبي، وانهارت شعارات العدالة الاجتماعية، وتحول النظام الاقتصادي إلى أسوأ تطبيقات النيوليبرالية، ولم تعد إسرائيل العدو الاستراتيجي، بل أصبح هناك سلام دافئ وتعاون عسكري ومخابراتي، ولم تعد أميركا رمز الإمبريالية والاستعمار، بل أصبحت أميركا الحليف الاستراتيجي الدائم الذي يمد الجيش المصري بالسلاح والتدريب وقطع الغيار، في مقابل أمن إسرائيل وأمن المجرى الملاحي، نيو- ناصرية لم تأخذ من الناصرية الأصلية سوى جوهرها، القمع والإرهاب والتخبط والعناد.
كان من الصعب أن أشرح لطفلٍ في السادسة من عمره أن كل ذلك القبح في المظهر والجوهر بدأ بعد انقلاب يوليو/ تموز 1952، حيث اختلفت الثقافة، وتم إحداث تغييرات عديدة. .. تعلم ضباط بوليو أنفسهم في العهد الملكي، ودرس بعضهم اللغات والفنون، وكان لبعضهم ميول أدبية. كذلك كانت الحركة الثقافية والأدبية في الخمسينيات والستينيات ناجمة عن نظام التعليم والحراك الثقافي والحريّة النسبية قبل 1952. ولكن، بعد تأميم الثقافة والآداب والفنون أنتجت ثقافة المقاولات، ابتداء من السبعينيات، فنون المقاولات، مباني المقاولات، آداب المقاولات، اللغة هي لغة المكسب والخسارة المالية بغض النظر عن الذوق والثقافة والتربية والأبعاد الأخرى الاجتماعية السياسية طويلة المدى.
كثيرا ما ترد أسئلة ساذجة من عيّنة، ماذا لو؟ لو تغيرت بعض الأحداث، أو لو كانت مطالب حركة الضباط أقل راديكالية من ذلك؟ أو تم تطبيق نظام ملكي برلماني، أو حتى جمهوري
ولكن، لو راجعنا الأهداف أو المطالب المعلنة للانقلاب، أو حرك الضباط في يوليو 1952 أو (الحركة المباركة كما أطلقوا عليها بعد ذلك) وتمت المقارنة بما كان وقتها وما هو موجود حاليا، على اعتبار أنه نظام الحكم نفسه والجمهورية نفسه، فلم تتغير قواعد السلطة وتقاليدها وأسلوب الإدارة منذ ذلك الوقت، فمنذ 65 عاما لم يتغير سوى شعارات النظام وبعض التغيرات الطفيفة، لكن دولة يوليو لا تزال باقية، وهذه هي النتيجة.
كان المطلب الأول القضاء على الإقطاع، فهل تم ذلك، أم ارتدى الإقطاع بزة عسكرية؟ هل اختفت الطبقة الإقطاعية التي كانت تحصل على امتيازات وإعفاءات غير متوفرة للآخرين، أم استولت طبقة أخرى على تلك الامتيازات نفسها، واحتكرتها لنفسها باسم الوطنية والدفاع عن الأمن القومي، وأنهم هم الأجدر والأقدر على إدارة كل شيء واحتكاره؟
كان المطلب الثاني القضاء على الاستعمار وأعوانه، فهل تم ذلك، أم تغير شكل الاستعمار؟ ربما تحرّرنا عسكريا من الاستعمار البريطاني الذي كان ينتهي ويتآكل بالفعل، بفعل تآكل وانهيار الإمبراطورية البريطانية وقتها، ولكن الاستعمار أصبح الآن في شكل شركاتٍ متعدّدة الجنسيات، وتحتكر الثروات وتستغل طاقات البشر بأبخس الأثمان. ولكن ماذا عن الإملاءات والتحكمات السعودية الإماراتية في مصر... ألا يمكن اعتبارها من أنواع الاستعمار الجديد؟
كان المطلب الثالث القضاء على تحكم رأس المال في السلطة، ويمكن القول إن إجراءات التأميم أسهمت في القضاء على الرأسمالية المتوحشة والاحتكار، خصوصا مع تصاعد المد الاشتراكي في ذلك الوقت، لكن التطبيق الجائر أسهم في القضاء على رأس المال الوطني أيضا، أسهم في تحكّم الدولة في أدوات الإنتاج وإعطاء العمال حقوقهم وقيام صناعة وطنية، لكن أيضا تم تدمير شركات عديدة ناجحة، وتحولت المصانع الكبرى إلى شركات قطاع عام، يديرها موظفون يضمنون راتبهم آخر الشهر، ولا تعنيهم نسبة الإنتاج وكيفية التطوير والتحديث، وأسهم الفساد وغياب الرقابة في عهد أنور السادات، ثم سياسة الخصخصة الجائرة في عهد حسني مبارك إلى تدمير ما تبقى من صناعة مصرية.
ولكن، هل فعلا تم القضاء على تحكم رأس المال في السلطة؟ في الانتخابات؟ في الإعلام؟ في دوائر صنع القرار؟ أم قام رأس المال الجشع بالتلون في العهد الناصري، ثم التلون مرة أخرى في عهد السادات، ثم مبارك، ثم أصبح أكثر توحشا الآن في أسوأ أمثلة رأس المال والسلطة؟
كان المطلب الرابع تحقيق العدالة الاجتماعية.. ربما كان هذا هو الإنجاز الوحيد الذي تحقق (فترة محدودة). ولكن، يجب دراسة لماذا تحولنا الآن إلى النيوليبرالية الجشعة؟ كان الخبز في العهد الناصري مقابل الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، وبسبب التضحية بالديمقراطية والحريات، أصبح حالنا الآن لا خبز ولا ديمقراطية ولا حريات، فبعد شعارات العدالة الاجتماعية في الخمسينيات والستينيات، تحولنا إلى سياسة الانفتاح في دولة يوليو في السبعينيات، ثم طبقة رجال الأعمال والاحتكارات والخصخصة في النسخة "المباركية" لدولة يوليو، حتى أصبحنا الآن نطبق أسوأ نماذج النيوليبرالية، وأكثرها جشعا بقيادة الجيش وإشرافه.
كان المطلب الخامس إقامة حياة ديمقراطية سليمة، والمشكلة الأكبر، من وجهة نظري، أن كلا من رؤساء دولة يوليو منذ 1952 زعم، وقد يكون عن اقتناع، أن عهده هو أزهى عصور الديمقراطية، فقد اعتبر جمال عبد الناصر أن الشمولية وسياسة الحزب الواحد هي أسمى أنواع الديمقراطية، وأن التعدّدية الحزبية والانتخابات الحرة أفكار غربية، تسعى إلى عودة الاستعمار وأعداء الوطن، وهي المفهوم الذي استمر، وإن أخذ ديمقراطية شكلية وأحزابا صورية محاصرة في مقدراتها لزوم الديكور والتجميل أمام الغرب والجهات المانحة. وتم التأسيس لجمهورية الخوف التي أدت إلى غياب الشفافية والمحاسبة، وغياب مفهوم المشاركة الشعبية، ما أدى إلى ما نحن فيه الآن من فساد وقمع وفشل إداري.
كان المطلب السادس إقامة جيش وطني قوي. جيشنا قوى، وهذا يدعو إلى الفخر. ولكن علينا
الجيش المصري قوي، ولكنه كذلك يتدخل في السياسة، وهذا ما يجعله خصما وليس حَكَما. بالإضافة إلى انتهاكات حقوق الإنسان وتهجير أهالي رفح من مساكنهم والقتل والتصفية خارج إطار القانون. هناك أيضا التحكّم في الصناعة والتجارة والزراعة والتعدين وبيع الأراضي ومنافسة القطاع العام والخاص والمضاربة في البورصة والمساهمة في رفع الأسعار، والتحكّم في كل مفاصل الدولة.
وأخيرا.. ما نحن فيه الآن في مصر من كوارث هو نتاج أُسلوب الحكم الذي ترسّخ بعد 23 يوليو 1952، وتحديدا بعد هزيمة الموجة التي كانت تطالب بعودة الديمقراطية والحياة السياسية والنيابية في 1954، فربما لو كانت المطالب أكثر إصلاحية في 1952، أو لو كانت مطالب عودة الديمقراطية والحياة السياسية والنيابية هي التي انتصرت في 1954، لكنا تجنبنا كوارث عديدة مثل هزيمة 1967، ولكانت حياتنا السياسية أكثر نضجاً ووعياً.
لو لم يتحول ضباط يوليو إلى ملوك وأمراء وطبقة إقطاعية جديدة، لها مصالح سرية خاصة لا يجوز مناقشتها أو الاقتراب منها، لربما كانت مصر قطعت شوطا كبيرا نحو المدنية، ولكانت أجهزة الدولة أكثر قدرةً على الإدارة، والقيام بمهامها من دون الاعتماد على المؤسسة العسكرية.
أصبحنا في نموذج مسخ من دولة يوليو، إنها النيو- ناصريزم، فلم تعد القضية الفلسطينية الأساس، وانهار المشروع الوحدوي العروبي، وانهارت شعارات العدالة الاجتماعية، وتحول النظام الاقتصادي إلى أسوأ تطبيقات النيوليبرالية، ولم تعد إسرائيل العدو الاستراتيجي، بل أصبح هناك سلام دافئ وتعاون عسكري ومخابراتي، ولم تعد أميركا رمز الإمبريالية والاستعمار، بل أصبحت أميركا الحليف الاستراتيجي الدائم الذي يمد الجيش المصري بالسلاح والتدريب وقطع الغيار، في مقابل أمن إسرائيل وأمن المجرى الملاحي، نيو- ناصرية لم تأخذ من الناصرية الأصلية سوى جوهرها، القمع والإرهاب والتخبط والعناد.