06 نوفمبر 2024
عن قطر
تتفق مع قطر أو تختلف معها، يبالغ بعضُهم في مدحها حد التملق، أو يتجاوز في خصومتها إلى درجة الفجور، دع عنك هذا كله، فهو لا يغير في حقيقة أن قطر، هذا البلد الصغير على الساحل الشرقي لجزيرة العرب، تملأ اليوم الدنيا وتشغل الناس، تخشى دورها دول وأنظمة، وتخطف أزمتها مع جيرانها عناوين الأخبار، وينشأ في مواجهتها تحالفٌ يضم بين جنباته قوى دولية وإقليمية كبرى. لا يقل الصراع الدائر اليوم لتحجيم نفوذها أهميةً عن الصراع الموازي الجاري على حواضر المشرق العربي الكبير، من بغداد إلى القاهرة. ستحدّد نتيجته مستقبل المنطقة عقودا عديدة مقبلة، وقد يؤدي إلى إعادة ترتيب المشهدين، الإقليمي والدولي، بطريقةٍ غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الباردة. هناك أمثلة عديدة على دول صغيرة في العالم تمكّنت من تقديم نموذج مؤثر في محيطها والعالم، مثل سنغافورا، تايوان، سويسرا وغيرها، لكنك لن تجد في قائمة الخمسين دولة الأصغر في العالم (التي تقل مساحتها عن 20 ألف كم مربع) تجربة مشابهة لتجربة قطر، ولن تجد بالتأكيد في قائمة التسعين دولة التي تقل مساحتها عن 100 ألف كم مربع دولة تحظى بالنفوذ والتأثير والاهتمام الذي تحظى به قطر. فمن أين تأتّى هذا وكيف؟
بلغة الأرقام، قطر بلد صغير المساحة (11 ألف كم مربع) قليل السكان (300 ألف مواطن)، مناخها صحراوي جاف، مياهها الجوفية قليلة، والسطحية معدومة، وهو أمرٌ لا يساعد في نشوء زراعة، ولا في قيام صناعة، وفوق ذلك حشرتها الجغرافيا بين عملاقين، أحدهما يستأثر كليا بجوارها براً (السعودية) والآخر يستأثر كليا بجوارها من ناحية البحر (إيران). هذا الوضع الجغرافي والسياسي الصعب يعني، ببساطة، أن قطر لا تعدم فقط مقوّمات القوة التقليدية المعروفة في نظام الدول (المساحة الشاسعة، عدد السكان الكبير، والقاعدة الزراعية والصناعية المتقدمة) بل زاد الأمر سوءاً وقوعها بين قوتين كبيرتين تتنافسان في السيطرة ضمن نظام إقليمي، ما زال "الريال بولتيك" يهيمن على تفكير نخبه الحاكمة وسلوكها. بكلمةٍ أخرى، هذا ليس النظام الإقليمي الأوروبي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يسود السلام الديموقراطي، وتأمن الدول الصغيرة على نفسها من نزعات الهيمنة.
لكن قطر توفرت على ثلاثة عوامل قوة غير تقليدية، مكّنتها بمساعدة عامل قوة تقليدي وحيد (مصادر الطاقة) من تبوّؤ دور إقليمي كبير. هذه العوامل هي بالترتيب من حيث الأهمية: أولاً، وجود نخبة حاكمة طامحة، تمتلك مشروع رؤية، وتتمتع بديناميةٍ عاليةٍ في تنفيذها. ثانياً، توفر رأسمال بشري على درجةٍ عالية من الكفاءة والتعليم، نتيجة الاستثمار الكبير الذي وضعته الدولة في عدد سكانها القليل. وثالثاً، وجود نظام إدارة عصري، يعرف كيف يستغل الإمكانات المتوفرة، وأين يستثمرها.
مكّنت هذه العوامل قطر من التغلب على مكامن ضعفها البنيوية، والاستعاضة عنها بأدوات تأثيرٍ ناعمة، وظفتها في اتجاهين: الأول دفاعي، تمثل في درء خطر خصومها، والخائفين من نموذجها المخالف لعموم بيئتها. والثاني هجومي، تجلى في توسيع مساحة تأثيرها ونفوذها، إلى ما وراء إقليمها، فأنشأت قطر إعلاماً فتح الباب واسعاً للبحث في قضايا كانت تعدّ "تابوهات" في المنطقة العربية، "فسلب" الرأي العام العربي من حكوماته ووسائل إعلامه، وربما ساعد في وصول الربيع العربي. واستفادت قطر من سقوط حواضر الفكر والثقافة العربية (في القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت) على يد أنظمةٍ نكّلت بالفكر والثقافة، وسعت إلى التحول إلى مركز فكري وثقافي بديل. وحاولت بدرجاتٍ متفاوتةٍ من النجاح بناء سمعة "براند"، وسيطا في حل النزاعات الدولية، ووظفت ملاءتها المالية الكبيرة في خدمة هذا الغرض، وأيضاً في إنشاء شبكةٍ واسعةٍ من الجمعيات ومنظمات العمل الإنساني التي نشطت في تخفيف ظروف الفقر والإهمال في إفريقيا خصوصا، وتنوعت أنشطتها من حفر الآبار للوصول إلى مياه شرب نظيفة، إلى بناء المدارس والمستوصفات.
هل تفعل قطر هذا لبناء صورة ذهنية إيجابية عنها؟ أم أن دوافعها إنسانية بحتة، وغايتها خدمة الصالح العربي والإنساني العام؟ لا يهم، طالما أن النتيجة نبيلة. هل هذا المقال مديح لقطر؟ لا يهم، إذا كان يوصّف حقيقتها، والله أعلم بها وأدرى.
بلغة الأرقام، قطر بلد صغير المساحة (11 ألف كم مربع) قليل السكان (300 ألف مواطن)، مناخها صحراوي جاف، مياهها الجوفية قليلة، والسطحية معدومة، وهو أمرٌ لا يساعد في نشوء زراعة، ولا في قيام صناعة، وفوق ذلك حشرتها الجغرافيا بين عملاقين، أحدهما يستأثر كليا بجوارها براً (السعودية) والآخر يستأثر كليا بجوارها من ناحية البحر (إيران). هذا الوضع الجغرافي والسياسي الصعب يعني، ببساطة، أن قطر لا تعدم فقط مقوّمات القوة التقليدية المعروفة في نظام الدول (المساحة الشاسعة، عدد السكان الكبير، والقاعدة الزراعية والصناعية المتقدمة) بل زاد الأمر سوءاً وقوعها بين قوتين كبيرتين تتنافسان في السيطرة ضمن نظام إقليمي، ما زال "الريال بولتيك" يهيمن على تفكير نخبه الحاكمة وسلوكها. بكلمةٍ أخرى، هذا ليس النظام الإقليمي الأوروبي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يسود السلام الديموقراطي، وتأمن الدول الصغيرة على نفسها من نزعات الهيمنة.
لكن قطر توفرت على ثلاثة عوامل قوة غير تقليدية، مكّنتها بمساعدة عامل قوة تقليدي وحيد (مصادر الطاقة) من تبوّؤ دور إقليمي كبير. هذه العوامل هي بالترتيب من حيث الأهمية: أولاً، وجود نخبة حاكمة طامحة، تمتلك مشروع رؤية، وتتمتع بديناميةٍ عاليةٍ في تنفيذها. ثانياً، توفر رأسمال بشري على درجةٍ عالية من الكفاءة والتعليم، نتيجة الاستثمار الكبير الذي وضعته الدولة في عدد سكانها القليل. وثالثاً، وجود نظام إدارة عصري، يعرف كيف يستغل الإمكانات المتوفرة، وأين يستثمرها.
مكّنت هذه العوامل قطر من التغلب على مكامن ضعفها البنيوية، والاستعاضة عنها بأدوات تأثيرٍ ناعمة، وظفتها في اتجاهين: الأول دفاعي، تمثل في درء خطر خصومها، والخائفين من نموذجها المخالف لعموم بيئتها. والثاني هجومي، تجلى في توسيع مساحة تأثيرها ونفوذها، إلى ما وراء إقليمها، فأنشأت قطر إعلاماً فتح الباب واسعاً للبحث في قضايا كانت تعدّ "تابوهات" في المنطقة العربية، "فسلب" الرأي العام العربي من حكوماته ووسائل إعلامه، وربما ساعد في وصول الربيع العربي. واستفادت قطر من سقوط حواضر الفكر والثقافة العربية (في القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت) على يد أنظمةٍ نكّلت بالفكر والثقافة، وسعت إلى التحول إلى مركز فكري وثقافي بديل. وحاولت بدرجاتٍ متفاوتةٍ من النجاح بناء سمعة "براند"، وسيطا في حل النزاعات الدولية، ووظفت ملاءتها المالية الكبيرة في خدمة هذا الغرض، وأيضاً في إنشاء شبكةٍ واسعةٍ من الجمعيات ومنظمات العمل الإنساني التي نشطت في تخفيف ظروف الفقر والإهمال في إفريقيا خصوصا، وتنوعت أنشطتها من حفر الآبار للوصول إلى مياه شرب نظيفة، إلى بناء المدارس والمستوصفات.
هل تفعل قطر هذا لبناء صورة ذهنية إيجابية عنها؟ أم أن دوافعها إنسانية بحتة، وغايتها خدمة الصالح العربي والإنساني العام؟ لا يهم، طالما أن النتيجة نبيلة. هل هذا المقال مديح لقطر؟ لا يهم، إذا كان يوصّف حقيقتها، والله أعلم بها وأدرى.