09 نوفمبر 2024
عندما تذكّر "هآرتس" بأرشيف فلسطيني
نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية، قبل أزيد من خمس سنوات، تقريرا عن سرقة عصابات الاحتلال في فلسطين، في غضون النهب الأول في عام 1948، عشرات آلاف الكتب، وكثير منها فريد، من مكتباتٍ كثيرة في بيوت فلسطينيين هربوا أو طردوا أو هُجّروا أو غادروا، ومنها مكتبة الأديب والمربّي خليل السكاكيني (1878- 1953)، ومكتبة آل النشاشيبي الذين نهب منهم ألبوم صور مهم. وذكرت الصحيفة أن باحثا إسرائيليا في جامعة بئر السبع أعدّ أطروحة دكتوراه في الموضوع، أورد فيها أنه تم جمع (سرقة) 30 ألف كتابٍ ومجلةٍ وصحيفة بين مايو/ أيار 1948 ونهاية فبراير/ شباط 1949، تركها أصحابُها في القدس. وأفيد، في التقرير والأطروحة، وكذا في فيلم وثائقي لمخرجٍ أجنبي، بأن تلك الكتب مصنّفة في المكتبة الوطنية الإسرائيلية "ممتلكاتٍ متروكة"، وأن المسؤول عنها هو "القيّم على أملاك الغائبين"، وثمّة كتبٌ أخرى سرقت من كنائس ومؤسساتٍ تعليمية، في القدس وغيرها.
لم تفضح "هآرتس" سرّا، وإنما نشرت ما هو معلوم بين العارفين والدارسين والأسر المعنيّة، ولم ينل اهتمام المؤسسة الفلسطينية الرسمية، السياسية والثقافية، وظل موضوعا مهملا، في دوائر الفعل الدبلوماسي والثقافي، ففي حدود ما نعرف، لم تبادر السلطة الوطنية الفلسطينية إلى المطالبة بهذه الثروة الثقافية، و"استرجاعها"، لحفظها في الجامعات الفلسطينية مثلا.
تُذكّر بتلك القصّة المنسيّة إثارةُ مقال شديد الأهمية في "هآرتس"، نشر في الأول من يوليو/ تموز الجاري، قصّةٌ منسيّةٌ أخرى، شبيهةٌ إلى حدٍّ ما، تتعلق باحتفاظ وزارة الدفاع الإسرائيلية بأرشيفٍ مهولٍ من الصور والوثائق الفلسطينية، استولى عليها جيش الاحتلال في أثناء اجتياحه بيروت صيف 1982، من مركز الأبحاث الفلسطيني. يستعرض المقال جهد باحثةٍ إسرائيلية في استكشاف هذا الأرشيف الذي أعدّت عنه فيلما وثائقيا بالإنكليزية. وقد نشرت "العربي الجديد" مقالتين تضيئان على ما "نبشته" صحيفة هآرتس، للزميلين أمجد ناصر (3 يوليو) وسمير الزبن (8 يوليو). والإضافة هنا على ما جاء في المقالتين، وكذا في تقرير الصحيفة الإسرائيلية، أن ما تحتجزه إسرائيل في وزارة الحرب، (وليس في مكتبتها الوطنية التي تضم الكتب والصور والمجلات والوثائق والألبومات والخرائط التي سرقت إبّان نكبة 1948) هو ما لم تتسلمه منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت قد اشترطت في عملية تبادل أسرى أن تشمل إعادة ما تمّت سرقته من مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت.
تلك قصةٌ مثيرة، يعرفها قلةٌ، موجزها أن شاحنات عسكرية إسرائيلية نهبت موجودات المركز (بما فيها الأثاث والتلكس والتسجيلات الصوتية). وضمن عملية تبادل الأسرى في 1983، وصل على متن طائرتين سويسريتين إلى الجزائر 113 صندوقا خشبيا، فيها محفوظاتٌ فلسطينية أرشيفية بحالة جيدة إلى الجزائر، احتفظ بها في معسكر الخروبة، قبل نقلها إلى معسكر فلسطيني في تبسّة تفقد فيه مسؤولون فلسطينيون كل المحفوظات، وتأكّدوا من سلامتها، بعد أنباء عن تلفها. وبعد سنوات، وفي غضون تلكؤ المؤسسة الفلسطينية الرسمية بشأن الصناديق وما فيها، نقلتها السلطات الجزائرية إلى معكسر البيض في الجنوب. وهناك، مع انعدام شروط سليمة للتخزين، تلفت المكتبة والأرشيف والمحفوظات جميعها، وأكلتها الجرذان والسحالي في رمال الصحراء. ولا تزيّد في نعت ما جرى بأنه كارثة.
مما يمكن اعتبارها خلاصاتٍ موجزةً في شأن ما تتفضل علينا "هآرتس" بتذكيرنا به، ونحن في نسيانٍ أبديٍّ طويل، أن الفلسطينيين في حاجةٍ إلى العدو الإسرائيلي، ليذكّرهم بما سرقه من ذاكرتهم ومدوّناتهم وأرشيف ثقافتهم. ولولا أنه يفعل هذا بين حين وآخر، لما طرأ على بال أحد القول إن هذا شأنٌ حرّيٌّ بعملية كفاح سياسيٍّ ودبلوماسيٍّ شاقّ لتُستعاد كل تلك المسروقات الثقافية. وثمّة الخلاصة الأخرى، وهي أن الفلسطينيين، في المستوى الرسمي، لا يبدو أنهم كانوا (وربما ما زالوا؟) مؤهلين لحماية منتوجهم الثقافي، البصري والمسموع والمصوّر والموثّق. وإهمال الأرشيف المستعاد من المحتلّ إلينا، في واقعة الجزائر المخزية، دليلٌ على صحة هذا الادّعاء، كما إهمالُ أرشيفاتٍ عديدة، في مطارح فلسطينية غير قليلة، وهذه، مثلا، قصة أرشيف ياسر عرفات، في تونس ورام الله، تائهةٌ بين الإهمال والنسيان وانعدام الاكتراث. ... لولا الحياء لكتب واحدُنا "شكرا هآرتس".