27 أكتوبر 2024
مصر.. تثبيت الدولة أم تمكين المجتمع؟
انطلقت ماكينة حملة إعلامية عن "فوبيا" إسقاط الدولة في الفضاء الإعلامي المصري، ودارت تروسها بأقصى طاقتها في الأيام الماضية، من أجل توعية الشعب بالمخاطر و"المؤامرات" المحدقة بالدولة المصرية، والتي تهدف إلى إسقاطها، ما يستوجب استنفار الجهود للعمل على تثبيتها.
بداية، "الفوبيا" حالة مرضية نفسية، من شأنها خلق شعور زائف بوجود خطر أو تهديد غير حقيقي، بيْد أنّ الحديث عن إسقاط الدولة يستدعي نقاطاً عديدة يتعيّن تفصيلها، أولها أنّ الحديث عن "فوبيا" إسقاط الدولة يدور في فلك الخطاب "المؤامراتي" نفسه الذي يتردّد باستمرار في السنوات الأخيرة، ويصوّر مصر هدفا دائما لمؤامرات مُتعدّدة المصادر، ومُختلفة الدوائر الإقليمية والدولية.
والحقيقة أنّ أصحاب هذا الخطاب أساؤوا إلى مصر ومكانتها، من حيث أرادوا نفعها وخدمة مصالحها، عندما جعلوا منها، بكل ثِقلها الضارب بجذوره في أعماق التاريخ، "ضحيّة" لا حول لها ولا قوة، لا تقدر على أن تدفع عن نفسها أي خطرٍ يضرّ بمصالحها. ومن جهة أخرى، عندما وضعوا مصر، بكل وزنها الحضاري، وهيبتها التاريخية، أمام قوى إقليمية رسمية ،وغير رسمية، تتفاوت أوزانها بين متوسطة وصغيرة وهامشية، ما يعني، وفقاً لذلك الخطاب، أن تلك القوى تمثّل "نِدّاً" لمصر، بل وتشكّل تهديداً لها (!)، وهو أمر لا يليق بمصر مطلقاً، كما أنّ المؤامرات الخارجية على الدولة لا تنجح في تحقيق أهدافها، إلا عبر ثغرات داخلية، في مقدمتها عدم التعامل الجذري مع أوجه القصور، وحالة الفشل الوظيفي، والانهيار المؤسسّي في أداء مؤسسات الدولة، وضرورة إصلاحها وإعادة هيكلتها.
الإشكالية الثانية المترتبة على الخطاب "المؤامراتي" هي الخلط بين الدولة والنظام، فالخلط بين المفهوميْن خطأ منهجي جسيم، يؤدي إلى نتائج مغلوطة ناتجة عن الخلط بين ما هو أمني وما هو سياسي، وهي صورة مشوّهة مُتجذِّرة في بنية دولة 23 يوليو 1952 منذ نشأتها، واستمرّت معها على اختلاف نُسخها وأجيالها خلال العقود الماضية. وفي تشخيص هذه الحالة، كتب المؤرِّخ والمُفكِّر، طارق البشري، في كتابه "الديمقراطية ونظام 23 يوليو": "الظاهرة التنظيمية التي تميّزت بها ثورة 23 يوليو، وهي اندماج الوظيفة السياسية في الأجهزة الإدارية، ما لبثت أن تخصصّت وآلت، على وجه الخصوص، إلى اندماج الوظيفة السياسية في أجهزة الأمن، وكادت أجهزة الأمن أن تصير قوّامةً على ما من شأن الأحزاب والتنظيمات السياسية أن تقوم به من وظائف..".
وقد تولّد عن ذلك ما يُمكن تسميته النزوع "الأمني الإعلامي"، وهو اعتبار كلّ مُعارَضة سياسية مؤامرة أو خبيئاً لجريمة تهدّد أمن الجماعة والنظام، وتهدّد الأهداف العليا للوطن في استقلاله، ونهضته، ورخائه، والمبالغة في ترتيب المخاطر على أي حدث، بما يفيد "إعلامياً" أن الوطن في خطر دائم يتربّص به الأعداء، وأنّ الفوضى وشيكة إذا أُصيب النظام بعطبٍ من جرّاء وجود (مجرّد وجود) بعض التنظيمات أو الجماعات المُعارِضة.
وهذا هو بالضبط ما حدث في مصر منذ عقود، وما زال يحدث بدرجات متفاوتة، باعتياد النظر بعين الريبة الأمنية إلى كل صور الممارسة الديمقراطية، والعمل الحزبي، والممارسة السياسية، والتعامل معها باعتبارها خطرا أو تهديدا، ما ترتب عليه إغلاق المجال السياسي، وتأميم الحياة السياسية، والإغراق في حديث دائم عن ضرورة "التوحّد والاصطفاف".
كتب عالِم السياسة الأميركي، جول ميجدال، قبل عقود، كتابه عن إشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع، وقدرات الدولة في العالم الثالث، وضع فيه عدّة معايير لتصنيف الدول والمجتمعات، خلص منها إلى التأكيد على أنّ حالات ضعف المجتمع تكون مقدّمات لانهيار كل من الدولة والمجتمع، فقوّة المجتمع هي الأساس، بغضّ النظر عن مدى قوّة الدولة أو ضعفها، لأنّه بدون قوّة المجتمع لن يكون في استطاعة الدولة البقاء والاستمرار.
وفي السنوات الأخيرة في مصر، دأب الخطاب الرسمي على "التمركز حول الدولة"، عبر التشديد على ضرورة حمايتها، والحفاظ عليها، واستعادة هيبتها (وهذا كله لا خلاف عليه)، في حين أنّه يتجاهل تماماً الحديث عن المجتمع الذي يعاني من انقسامات رأسية، وأفقية، ويئنّ ويرزح تحت أزماتٍ كبيرةٍ وعديدةٍ، تتنازعه وتخنقه، يشتبك فيها السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي، فضلاً عن التدهور الكبير في منظومته القيمية والأخلاقية. فالدولة ليست هدفاً في حدّ ذاتها، وإنّما هي وسيلة لخدمة المجتمع، وتحقيق استقراره، وخدمة أفراده، والإسهاب
والإغراق الدائم في الحديث عن الدولة يجعلها تنتقل من كونها دولة "حارسة"، مهمّتها حراسة المجتمع، عبر القيام بوظائفها التقليدية بحياد، في الدفاع والأمن والقضاء والتعليم والصحّة، إلى دولة "كابسة حابسة" تجثم على أنفاس المجتمع، تحبس حركاته، وتُكبّل حريّاته، بفرض وصايتها الأبوية السلطوية على تكويناته وتفاعلاته الذاتية.
يُخبرنا التاريخ القديم والحديث أنّ الدولة المصرية أقدم دولة في التاريخ، وأنّها راسخة رسوخ الجبال الرواسي، فلم تكن يوماً مُهدَّدة بخطر السقوط عبر تاريخها الطويل، حتّى في أشدّ فترات الاضمحلال، أو وقوعها تحت الاحتلال، لم تواجه مطلقاً شبح الانهيار أو التفكيك.
ولا يكون العمل على تثبيت الدولة إلا بتمكين المجتمع، وإطلاق قدراته للتعامل الناجع مع أزماته، وفتح مجال الحركة أمامه، عبر رفع القيود عن المجال العام، وإطلاق الحريات والممارسة الديمقراطية، وتوسيع مساحات التعبير عن الرأي، وهذا من شأنه امتصاص طاقات الاحتقان السلبية، وإغلاق النوافذ أمام ممارسة العنف، والعكس صحيح، فمصادرة المجال العام وتضييق هامش الحريات المُتاح، يؤدي إلى تراكم الاحتقان، وزيادة مساحات التوتر، مما يُنشئ حالة من عدم الاستقرار، كما أنّ تثبيت الدولة يكون بالعمل على إعادة هيكلة شاملة لمنظومتي التعليم والصحة شبه المنهارتيْن، وإقامة دولة القانون التي تقف على مسافة واحدة من الجميع، من دون تمييز أو محاباة، مما يجعلها محّلاً لثقة مواطنيها، وهذا من شأنه تحقيق هيبة الدولة بصورة تلقائية، بعيدة عن الافتعال والنزعة الوصائية.
بداية، "الفوبيا" حالة مرضية نفسية، من شأنها خلق شعور زائف بوجود خطر أو تهديد غير حقيقي، بيْد أنّ الحديث عن إسقاط الدولة يستدعي نقاطاً عديدة يتعيّن تفصيلها، أولها أنّ الحديث عن "فوبيا" إسقاط الدولة يدور في فلك الخطاب "المؤامراتي" نفسه الذي يتردّد باستمرار في السنوات الأخيرة، ويصوّر مصر هدفا دائما لمؤامرات مُتعدّدة المصادر، ومُختلفة الدوائر الإقليمية والدولية.
والحقيقة أنّ أصحاب هذا الخطاب أساؤوا إلى مصر ومكانتها، من حيث أرادوا نفعها وخدمة مصالحها، عندما جعلوا منها، بكل ثِقلها الضارب بجذوره في أعماق التاريخ، "ضحيّة" لا حول لها ولا قوة، لا تقدر على أن تدفع عن نفسها أي خطرٍ يضرّ بمصالحها. ومن جهة أخرى، عندما وضعوا مصر، بكل وزنها الحضاري، وهيبتها التاريخية، أمام قوى إقليمية رسمية ،وغير رسمية، تتفاوت أوزانها بين متوسطة وصغيرة وهامشية، ما يعني، وفقاً لذلك الخطاب، أن تلك القوى تمثّل "نِدّاً" لمصر، بل وتشكّل تهديداً لها (!)، وهو أمر لا يليق بمصر مطلقاً، كما أنّ المؤامرات الخارجية على الدولة لا تنجح في تحقيق أهدافها، إلا عبر ثغرات داخلية، في مقدمتها عدم التعامل الجذري مع أوجه القصور، وحالة الفشل الوظيفي، والانهيار المؤسسّي في أداء مؤسسات الدولة، وضرورة إصلاحها وإعادة هيكلتها.
الإشكالية الثانية المترتبة على الخطاب "المؤامراتي" هي الخلط بين الدولة والنظام، فالخلط بين المفهوميْن خطأ منهجي جسيم، يؤدي إلى نتائج مغلوطة ناتجة عن الخلط بين ما هو أمني وما هو سياسي، وهي صورة مشوّهة مُتجذِّرة في بنية دولة 23 يوليو 1952 منذ نشأتها، واستمرّت معها على اختلاف نُسخها وأجيالها خلال العقود الماضية. وفي تشخيص هذه الحالة، كتب المؤرِّخ والمُفكِّر، طارق البشري، في كتابه "الديمقراطية ونظام 23 يوليو": "الظاهرة التنظيمية التي تميّزت بها ثورة 23 يوليو، وهي اندماج الوظيفة السياسية في الأجهزة الإدارية، ما لبثت أن تخصصّت وآلت، على وجه الخصوص، إلى اندماج الوظيفة السياسية في أجهزة الأمن، وكادت أجهزة الأمن أن تصير قوّامةً على ما من شأن الأحزاب والتنظيمات السياسية أن تقوم به من وظائف..".
وقد تولّد عن ذلك ما يُمكن تسميته النزوع "الأمني الإعلامي"، وهو اعتبار كلّ مُعارَضة سياسية مؤامرة أو خبيئاً لجريمة تهدّد أمن الجماعة والنظام، وتهدّد الأهداف العليا للوطن في استقلاله، ونهضته، ورخائه، والمبالغة في ترتيب المخاطر على أي حدث، بما يفيد "إعلامياً" أن الوطن في خطر دائم يتربّص به الأعداء، وأنّ الفوضى وشيكة إذا أُصيب النظام بعطبٍ من جرّاء وجود (مجرّد وجود) بعض التنظيمات أو الجماعات المُعارِضة.
وهذا هو بالضبط ما حدث في مصر منذ عقود، وما زال يحدث بدرجات متفاوتة، باعتياد النظر بعين الريبة الأمنية إلى كل صور الممارسة الديمقراطية، والعمل الحزبي، والممارسة السياسية، والتعامل معها باعتبارها خطرا أو تهديدا، ما ترتب عليه إغلاق المجال السياسي، وتأميم الحياة السياسية، والإغراق في حديث دائم عن ضرورة "التوحّد والاصطفاف".
كتب عالِم السياسة الأميركي، جول ميجدال، قبل عقود، كتابه عن إشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع، وقدرات الدولة في العالم الثالث، وضع فيه عدّة معايير لتصنيف الدول والمجتمعات، خلص منها إلى التأكيد على أنّ حالات ضعف المجتمع تكون مقدّمات لانهيار كل من الدولة والمجتمع، فقوّة المجتمع هي الأساس، بغضّ النظر عن مدى قوّة الدولة أو ضعفها، لأنّه بدون قوّة المجتمع لن يكون في استطاعة الدولة البقاء والاستمرار.
وفي السنوات الأخيرة في مصر، دأب الخطاب الرسمي على "التمركز حول الدولة"، عبر التشديد على ضرورة حمايتها، والحفاظ عليها، واستعادة هيبتها (وهذا كله لا خلاف عليه)، في حين أنّه يتجاهل تماماً الحديث عن المجتمع الذي يعاني من انقسامات رأسية، وأفقية، ويئنّ ويرزح تحت أزماتٍ كبيرةٍ وعديدةٍ، تتنازعه وتخنقه، يشتبك فيها السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي، فضلاً عن التدهور الكبير في منظومته القيمية والأخلاقية. فالدولة ليست هدفاً في حدّ ذاتها، وإنّما هي وسيلة لخدمة المجتمع، وتحقيق استقراره، وخدمة أفراده، والإسهاب
يُخبرنا التاريخ القديم والحديث أنّ الدولة المصرية أقدم دولة في التاريخ، وأنّها راسخة رسوخ الجبال الرواسي، فلم تكن يوماً مُهدَّدة بخطر السقوط عبر تاريخها الطويل، حتّى في أشدّ فترات الاضمحلال، أو وقوعها تحت الاحتلال، لم تواجه مطلقاً شبح الانهيار أو التفكيك.
ولا يكون العمل على تثبيت الدولة إلا بتمكين المجتمع، وإطلاق قدراته للتعامل الناجع مع أزماته، وفتح مجال الحركة أمامه، عبر رفع القيود عن المجال العام، وإطلاق الحريات والممارسة الديمقراطية، وتوسيع مساحات التعبير عن الرأي، وهذا من شأنه امتصاص طاقات الاحتقان السلبية، وإغلاق النوافذ أمام ممارسة العنف، والعكس صحيح، فمصادرة المجال العام وتضييق هامش الحريات المُتاح، يؤدي إلى تراكم الاحتقان، وزيادة مساحات التوتر، مما يُنشئ حالة من عدم الاستقرار، كما أنّ تثبيت الدولة يكون بالعمل على إعادة هيكلة شاملة لمنظومتي التعليم والصحة شبه المنهارتيْن، وإقامة دولة القانون التي تقف على مسافة واحدة من الجميع، من دون تمييز أو محاباة، مما يجعلها محّلاً لثقة مواطنيها، وهذا من شأنه تحقيق هيبة الدولة بصورة تلقائية، بعيدة عن الافتعال والنزعة الوصائية.