05 نوفمبر 2024
انقلاب حماس الثالث
تحت عنوان إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني، وطي صفحة الخلافات بين مصر وحركة حماس، دارت الأيام دورة كاملة، وتدفقت في نهر النيل مياه كثيرة على مدى نحو عشرة أيام بلياليها، كان خلالها المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية يواصل إجراء محادثات مغلقة مع إدارة المخابرات العامة المصرية، ويعقد، في الوقت نفسه، أول اجتماع له منذ انتخابه قبل عدة أشهر في رحاب البلد الذي سبق له أن وصف "حماس"، إعلامياً وقضائياً، بالإرهاب والتدخل في الشؤون الداخلية المصرية، الأمر الذي يطرح سؤالاً مشفوعاً بعلامتي التعجب والاستفهام، بشأن حقيقة ما جرى بين الحركة التي تعذّر عليها إيجاد مكان للم شمل هيئتها السياسية العليا والدولة المصرية العميقة؟
ليس من عادة أجهزة الأمن والمخابرات الإفصاح عما يدور داخل أروقتها البعيدة عن أضواء الإعلام، الأمر الذي يحملنا على تقصّي نتائج ما جرى بين القاهرة وغزة، من خلال ما هو متاح من معطيات، تولت منابر "حماس" نشرها في الأيام القليلة الماضية، ومنها صحيفة الرسالة، الإلكترونية شبه الرسمية للحركة التي تقوم بسلطة الأمر الواقع في القطاع المحاصر، حيث أكد هذا المنبر الموثوق أن حصيلة لقاءات قيادة "حماس"، في القاهرة، لم تؤد فقط إلى تخلي الحركة عن حكومتها (اللجنة الإدارية) الفاشلة بكل المعايير، بل أفضت إلى حدوث انتقال تدريجي نحو علاقة استراتيجية مع مصر التي أحاطت الوفد الزائر ب "الدفء"، وتعاملت معه بأريحية.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بموضوعية هو؛ من تغير وبدّل أجندته السياسية، وأفضى بتغيره هذا إلى هذه النتائج المفاجئة، بين طرفين يتحسّبان إزاء بعضهما بعضاً، ويفتقران إلى أرضية
مشتركة؛ إن لم نقل إلى تاريخ حافل بالارتياب المتبادل، هل هي مصر المليئة بالهواجس والتطيّر الشديد، والحساسية المفرطة، تجاه كل حركة ذات خلفية إسلامية، أم هي حركة حماس التي تواجه مأزقاً مديداً في إدارة حكم غزة، بلغ ذروته القصوى، بعد تشكيل ما سميت اللجنة الإدارية التي جلبت عقوبات عليها من رئاسة السلطة الفلسطينية، وأدت إلى مفاقمة القضايا الحياتية الملحة، وراكمت فوقها صعوباتٍ إضافية، بما في ذلك نقص إمدادات الكهرباء، وانقطاع الأموال، وغير ذلك من المتاعب التي جعلت حياة الغزّيين شبه مستحيلة؟
لا أحسب أن السؤال يحتاج إلى إعمال الذهن كثيراً، كي يلمس المرء حقيقة أن القاهرة الصامتة على حصيلة ما جرى من تفاهماتٍ وتوافقات، حدثت في قاعة الفندق التابع لمخابراتها العامة، قد تركت لحركة حماس الإفصاح عما يناسبها من نتائج تلائم خطابها الجديد، وتعبّر عن تحولاتها السياسية، إن لم نقل تتماهى مع تبديل الحركة الإسلامية تحالفاتها القديمة، وتغير رؤيتها العقائدية التي بدأت بإقرار ما عرف باسم وثيقة "حماس" المتطابقة، في الجوهر، مع خط السلطة الفلسطينية، وهو أمر لم تتوان الحركة في الإعراب عنه بكل بلاغة، حين وصفت زيارة وفدها القيادي القاهرة بأنها كانت "موفقة ومهمة وذات نتائج كبيرة"، باعتبار أن مصر "دولة عربية وازنة وذات ثقل إقليمي"، وجادة في نقل العلاقة مع "حماس" من دائرة الملف الأمني إلى دوائر وزارة الخارجية والقصر الرئاسي.
بمثل هذه الإرهاصات المعبرة عن تغيرٍ ما في التكتيكات المصرية، من دون أن يرافقها تبدل في استراتيجية قائمة على مناهضة كل من له صلة أو جذور إسلامية، تبدو القاهرة، في أريحيتها المثيرة للتوقعات حيال "حماس"، وكأنها بصدد إعادة بناء مصفوفةٍ كاملة من الإجراءات والتدابير تجاه قطاع غزة، تؤدي إلى بسط سيطرة السلطة الفلسطينية على القطاع المحاصر، بما في ذلك معابره الحدودية، ومن ثمّة دفع "حماس" نحو مزيد من التواري عن سلطةٍ بالغة الكلفة، وإخراج الحركة الإسلامية المجاهدة من سياق تحالفاتها التقليدية، ببعض من الترضيات والمجاملات، خصوصاً وأن هذه التكتيكات المصرية جاءت مواكبةً لجهد مشترك مع بعض دول الخليج، هدفه إبعاد قطر وتركيا عن الملعب الفلسطيني.
وعليه، يبدو التعاطي المصري الحافل بالحفاوة والدفء، والتصالح مع القيادة الجديدة لحركة حماس، أقرب ما يكون إلى عملية استدراج واحتواء حثيثتين، للحركة التي كانت، حتى أمس القريب، محل اتهامات قاسية بالتورّط مع الجماعات الإرهابية في سيناء، وأن ما يلوح في أفق علاقات غزة الغاصة بالبؤس والبأس، مع القاهرة المتكئة إلى منطق الجغرافيا الحاكم، من تحسن بالجملة والمفرق، ومن وعودٍ طيبة، غير بعيد عن مجرى الأزمة الخليجية القائمة، هدفه شبه المعلن مزاحمة قطر في المقام الأول، ومحاصرتها في الساحة التي ظلت بمثابة الملعب الخلفي لمصر، قبل أن يتراجع دور الشقيقة الكبرى، وتهبط مكانتها، في العقود الزمنية الأخيرة، ناهيك عن قطع الطريق على المساعي التركية الرامية إلى القيام بدور إغاثي وسياسي واسع، في أكثر بقعة على وجه الأرض بحاجة إلى الدعم والمساندة بكل أشكالها الممكنة.
إزاء ذلك كله، يمكن القول، بقدر قليل من الحذر، إن حركة حماس المتعجلة للخلاص من
ضائقتها تقوم اليوم بالانقلاب الثالث لها، في غضون عشر سنوات عاصفة، كان الأول انقلاباً دامياً على السلطة الوطنية الفلسطينية وقع عام 2007، والثاني كان انقلابا صامتاً على ما كان يسمى محور الممانعة عام 2012، في ذروة موجة الربيع العربي، عندما غادرت قيادة "حماس" مقرها في دمشق إلى الدوحة. فيما الانقلاب الثالث، الجاري ببطء وتؤدة، تنفذه الحركة المأزومة في بيئتها الداخلية ومحيطها الإقليمي، وسط صمت مطبق، يشوبه الحرج والتلعثم، وهي تقول، بصوت مختلط؛ إنها ستواصل الاحتفاظ بعلاقاتها مع قطر، أي أنها ستأكل من كل المطاعم، من دون أن تدفع فاتورة الحساب، وأنها تستطيع الجمع بين الصيف والشتاء تحت سطح واحد.
وفيما يعتقد بعض من مؤيدي حركة حماس، الملتاعين من مغبّة ما يتربص بها على هذا الطريق الزلق، من مكائد وفخاخ سياسية قاتلة، ويقولون إن الحركة، في خيارها الجديد، أكلت كعكة مسمومة، وفي المقابل يعتقد خصوم القيادة الحمساوية غير المجربة أن الحركة تقوم بمجازفة كبيرة، حتى لا يقولوا قفزة في الهواء، قد تؤدي إلى خسارة حلفاء قدامى أجزلوا العطاء، وقدموا الدعم والإسناد السياسي والمالي بسخاء، من دون أن تكون لدى القيادة الشابة في غزة الثقة والضمانات الكافية من جانب من عقدت عليهم الرهان المعلق، بالضرورة الموضوعية، على مزيدٍ من التنازلات والمواءمات المؤلمة، خصوصا إذا كان المآل الأخير لهذا التحوّل الحمساوي يصب لصالح صفقةٍ سياسية كبرى "صفقة القرن"، بدليل رفع كل من أميركا وإسرائيل أيديهما عما بدا أنه مصالحة فلسطينية تلوح في الأفق.
ليس من عادة أجهزة الأمن والمخابرات الإفصاح عما يدور داخل أروقتها البعيدة عن أضواء الإعلام، الأمر الذي يحملنا على تقصّي نتائج ما جرى بين القاهرة وغزة، من خلال ما هو متاح من معطيات، تولت منابر "حماس" نشرها في الأيام القليلة الماضية، ومنها صحيفة الرسالة، الإلكترونية شبه الرسمية للحركة التي تقوم بسلطة الأمر الواقع في القطاع المحاصر، حيث أكد هذا المنبر الموثوق أن حصيلة لقاءات قيادة "حماس"، في القاهرة، لم تؤد فقط إلى تخلي الحركة عن حكومتها (اللجنة الإدارية) الفاشلة بكل المعايير، بل أفضت إلى حدوث انتقال تدريجي نحو علاقة استراتيجية مع مصر التي أحاطت الوفد الزائر ب "الدفء"، وتعاملت معه بأريحية.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بموضوعية هو؛ من تغير وبدّل أجندته السياسية، وأفضى بتغيره هذا إلى هذه النتائج المفاجئة، بين طرفين يتحسّبان إزاء بعضهما بعضاً، ويفتقران إلى أرضية
لا أحسب أن السؤال يحتاج إلى إعمال الذهن كثيراً، كي يلمس المرء حقيقة أن القاهرة الصامتة على حصيلة ما جرى من تفاهماتٍ وتوافقات، حدثت في قاعة الفندق التابع لمخابراتها العامة، قد تركت لحركة حماس الإفصاح عما يناسبها من نتائج تلائم خطابها الجديد، وتعبّر عن تحولاتها السياسية، إن لم نقل تتماهى مع تبديل الحركة الإسلامية تحالفاتها القديمة، وتغير رؤيتها العقائدية التي بدأت بإقرار ما عرف باسم وثيقة "حماس" المتطابقة، في الجوهر، مع خط السلطة الفلسطينية، وهو أمر لم تتوان الحركة في الإعراب عنه بكل بلاغة، حين وصفت زيارة وفدها القيادي القاهرة بأنها كانت "موفقة ومهمة وذات نتائج كبيرة"، باعتبار أن مصر "دولة عربية وازنة وذات ثقل إقليمي"، وجادة في نقل العلاقة مع "حماس" من دائرة الملف الأمني إلى دوائر وزارة الخارجية والقصر الرئاسي.
بمثل هذه الإرهاصات المعبرة عن تغيرٍ ما في التكتيكات المصرية، من دون أن يرافقها تبدل في استراتيجية قائمة على مناهضة كل من له صلة أو جذور إسلامية، تبدو القاهرة، في أريحيتها المثيرة للتوقعات حيال "حماس"، وكأنها بصدد إعادة بناء مصفوفةٍ كاملة من الإجراءات والتدابير تجاه قطاع غزة، تؤدي إلى بسط سيطرة السلطة الفلسطينية على القطاع المحاصر، بما في ذلك معابره الحدودية، ومن ثمّة دفع "حماس" نحو مزيد من التواري عن سلطةٍ بالغة الكلفة، وإخراج الحركة الإسلامية المجاهدة من سياق تحالفاتها التقليدية، ببعض من الترضيات والمجاملات، خصوصاً وأن هذه التكتيكات المصرية جاءت مواكبةً لجهد مشترك مع بعض دول الخليج، هدفه إبعاد قطر وتركيا عن الملعب الفلسطيني.
وعليه، يبدو التعاطي المصري الحافل بالحفاوة والدفء، والتصالح مع القيادة الجديدة لحركة حماس، أقرب ما يكون إلى عملية استدراج واحتواء حثيثتين، للحركة التي كانت، حتى أمس القريب، محل اتهامات قاسية بالتورّط مع الجماعات الإرهابية في سيناء، وأن ما يلوح في أفق علاقات غزة الغاصة بالبؤس والبأس، مع القاهرة المتكئة إلى منطق الجغرافيا الحاكم، من تحسن بالجملة والمفرق، ومن وعودٍ طيبة، غير بعيد عن مجرى الأزمة الخليجية القائمة، هدفه شبه المعلن مزاحمة قطر في المقام الأول، ومحاصرتها في الساحة التي ظلت بمثابة الملعب الخلفي لمصر، قبل أن يتراجع دور الشقيقة الكبرى، وتهبط مكانتها، في العقود الزمنية الأخيرة، ناهيك عن قطع الطريق على المساعي التركية الرامية إلى القيام بدور إغاثي وسياسي واسع، في أكثر بقعة على وجه الأرض بحاجة إلى الدعم والمساندة بكل أشكالها الممكنة.
إزاء ذلك كله، يمكن القول، بقدر قليل من الحذر، إن حركة حماس المتعجلة للخلاص من
وفيما يعتقد بعض من مؤيدي حركة حماس، الملتاعين من مغبّة ما يتربص بها على هذا الطريق الزلق، من مكائد وفخاخ سياسية قاتلة، ويقولون إن الحركة، في خيارها الجديد، أكلت كعكة مسمومة، وفي المقابل يعتقد خصوم القيادة الحمساوية غير المجربة أن الحركة تقوم بمجازفة كبيرة، حتى لا يقولوا قفزة في الهواء، قد تؤدي إلى خسارة حلفاء قدامى أجزلوا العطاء، وقدموا الدعم والإسناد السياسي والمالي بسخاء، من دون أن تكون لدى القيادة الشابة في غزة الثقة والضمانات الكافية من جانب من عقدت عليهم الرهان المعلق، بالضرورة الموضوعية، على مزيدٍ من التنازلات والمواءمات المؤلمة، خصوصا إذا كان المآل الأخير لهذا التحوّل الحمساوي يصب لصالح صفقةٍ سياسية كبرى "صفقة القرن"، بدليل رفع كل من أميركا وإسرائيل أيديهما عما بدا أنه مصالحة فلسطينية تلوح في الأفق.
مقالات أخرى
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024