17 أكتوبر 2024
دموع على هامش مذكرات بحار
لم يكن قد مضى على انتهاء آخر موسم غوص في تاريخ الكويت إلا ثلاث سنوات، عندما فكر الشاعر الراحل محمد الفايز بتوثيق الحياة التي كان يعيشها معظم الكويتيين، قبل ظهور النفط وبعد ظهوره بقليل، تحت عنوان "مذكّرات بحار". كان ذلك في العام 1962، حيث كان الفايز يعمل في الإذاعة الكويتية، وكان يكتب تلك المذكرات حلقاتٍ يوميةً، يقدمها في الإذاعة تباعا. وعندما انتهى من كتابة الحلقة الثامنة عشرة، اكتشف أن حياة كاملة قد تكونت في قصيدته التي حاول فيها أن يسرد تاريخ الكويتيين وعلاقاتهم المتشابكة مع البحر، والمشتبكة في أقداره عبر هموم بحار كويتي بسيط، كان يصارع البحر، ويواجه المفاجآت القاتلة، بحثا عن كيانه الإنساني ولقمة عيشه الكريم، تاركا وراءه أسرته تقتات على صبر الانتظار وحده.
لم يكن الفايز يعي ربما أنه في كتابته اليومية اللاهثة تلك المذكرات كان يفتتح نافذة جديدة في جدار الشعر العربي المعاصر، من خلال حديث السندباد الذي قرّر إعادته إلى الدنيا عبر ملحمة شعرية، تصطخب فيها المشاعر ثم تخفت، تحت وطأة هدير أمواج الخليج القاسية، وهي تلهو بمصائر البشر الذين لا يجدون غيرها وسيلةً للمضي في الحياة.
"ماذا يكون السندباد؟".. كان الفايز يتساءل في خضم الشعر، وهو يتحدّى غربة التفعيلة، وسط بيئة شعرية كلاسيكية، ليجعل منها وسيلته إلى توثيق التاريخ، في مفارقةٍ لم يكن الشاعر متأكدا أنه سينجح في التعبير عنها. وربما لهذا أصدر "مذكرات بحار"، في طبعتها الأولى، ممهورة باسم مستعار، هو سيزيف، الذي سيعيد التجربة دائما إن هي فشلت، كما حمل صخرته الأبدية المرة تلو الأخرى. لكن التجربة الشعرية نجحت، منذ المحاولة الأولى، فأعاد الشاعر نشر الديوان باسمه الحقيقي، صادحا بالمعنى الذي أصبح بمثابة النشيد الوطني للبحارة المتقاعدين عن البحر، الجالسين على هامش آبار النفط، يقتاتون الذكريات بفخر القادرين على تكرارها في الخيال، بعد أن كانت واقعا قاسيا جادا، و"شتان بين خيال مجنون/ وعملاق تراه يطوي البحار على هواه/ بحباله/ وشراعه/ بإرادة فوق الغيوم/ بيدٍ تكاد عروقها الزرقاء ترتجل النجوم". ويستمر الهدير الشعري شطرا بعد شطر، ومذكّرة بعد مذكرة، ولؤلؤة بعد لؤلؤة، لتكتمل القلادة التي بذل ذلك البحار كل قواه في سبيلها، لأنها السبيل إلى حياته وحياة أبنائه في كويت ما قبل النفط.
عندما تحولت تلك المذكرات الشعرية إلى أوبريت غنائي ضخم في نهاية سبعينيات القرن الماضي، أصبحت جزءا أصيلا من الذاكرة الجمعية لكل الكويتيين الذين يتذكرونها بصوتي الفنان الكبير شادي الخليج والفنانة الشابة آنذاك سناء الخراز، وأداء مجموعات كبيرة من تلاميذ مدارس الكويت، عندما كانت المدارس المخزن الخلفي للحركة الفنية الراقية في البلاد.
قبل أسبوعين، قدّمت دار الأوبرا في الكويت نسخة جديدة من مذكّرات بحار بفريق جديد احتفظ باللحن القديم.
عندما تابعت النسخة الجديدة على شاشة التلفزيون، أبهرني الإخراج الذي توسل بالتقنيات الفنية المستحدثة على مستوى الصوت والصورة، لكنني، على الرغم من هذا، لم أستطع تجاوز غصّةٍ شعرت بها، وأنا استحضر صوت سناء الخراز، ذا السمت الطفولي الذي كان يبعث في ذكريات العمل الأول، وينتج سؤالا عن جدوى استنساخ الذكريات بأشكال جديدة! هل يعتبر إحياء الذكريات الفنية والشعرية القديمة عبر وسائل حديثة نوعا من الإحياء والتخليد، أم قتلا للماضي بوسيلة ناعمة؟
انتهى العرض الجديد بفقرةٍ على المسرح، غنى فيها شادي الخليج، المطل على الثمانين من عمره، بعضا من الأغنية الختامية بصوته المتعب، فانهمرت دموع الحاضرين من الجيل القديم، وسط تصفيق الجمهور الشاب. في وقت لاحق، أبدى شادي الخليج استغرابه من الدموع التي استقبلت صوته المرهق على المسرح... لم يكن يدري أن جيلا من الحاضرين كان يكتب واحدةً من صفحات الختام لمذكراته الخاصة، على هامش "مذكرات بحار" الخالدة.
لم يكن الفايز يعي ربما أنه في كتابته اليومية اللاهثة تلك المذكرات كان يفتتح نافذة جديدة في جدار الشعر العربي المعاصر، من خلال حديث السندباد الذي قرّر إعادته إلى الدنيا عبر ملحمة شعرية، تصطخب فيها المشاعر ثم تخفت، تحت وطأة هدير أمواج الخليج القاسية، وهي تلهو بمصائر البشر الذين لا يجدون غيرها وسيلةً للمضي في الحياة.
"ماذا يكون السندباد؟".. كان الفايز يتساءل في خضم الشعر، وهو يتحدّى غربة التفعيلة، وسط بيئة شعرية كلاسيكية، ليجعل منها وسيلته إلى توثيق التاريخ، في مفارقةٍ لم يكن الشاعر متأكدا أنه سينجح في التعبير عنها. وربما لهذا أصدر "مذكرات بحار"، في طبعتها الأولى، ممهورة باسم مستعار، هو سيزيف، الذي سيعيد التجربة دائما إن هي فشلت، كما حمل صخرته الأبدية المرة تلو الأخرى. لكن التجربة الشعرية نجحت، منذ المحاولة الأولى، فأعاد الشاعر نشر الديوان باسمه الحقيقي، صادحا بالمعنى الذي أصبح بمثابة النشيد الوطني للبحارة المتقاعدين عن البحر، الجالسين على هامش آبار النفط، يقتاتون الذكريات بفخر القادرين على تكرارها في الخيال، بعد أن كانت واقعا قاسيا جادا، و"شتان بين خيال مجنون/ وعملاق تراه يطوي البحار على هواه/ بحباله/ وشراعه/ بإرادة فوق الغيوم/ بيدٍ تكاد عروقها الزرقاء ترتجل النجوم". ويستمر الهدير الشعري شطرا بعد شطر، ومذكّرة بعد مذكرة، ولؤلؤة بعد لؤلؤة، لتكتمل القلادة التي بذل ذلك البحار كل قواه في سبيلها، لأنها السبيل إلى حياته وحياة أبنائه في كويت ما قبل النفط.
عندما تحولت تلك المذكرات الشعرية إلى أوبريت غنائي ضخم في نهاية سبعينيات القرن الماضي، أصبحت جزءا أصيلا من الذاكرة الجمعية لكل الكويتيين الذين يتذكرونها بصوتي الفنان الكبير شادي الخليج والفنانة الشابة آنذاك سناء الخراز، وأداء مجموعات كبيرة من تلاميذ مدارس الكويت، عندما كانت المدارس المخزن الخلفي للحركة الفنية الراقية في البلاد.
قبل أسبوعين، قدّمت دار الأوبرا في الكويت نسخة جديدة من مذكّرات بحار بفريق جديد احتفظ باللحن القديم.
عندما تابعت النسخة الجديدة على شاشة التلفزيون، أبهرني الإخراج الذي توسل بالتقنيات الفنية المستحدثة على مستوى الصوت والصورة، لكنني، على الرغم من هذا، لم أستطع تجاوز غصّةٍ شعرت بها، وأنا استحضر صوت سناء الخراز، ذا السمت الطفولي الذي كان يبعث في ذكريات العمل الأول، وينتج سؤالا عن جدوى استنساخ الذكريات بأشكال جديدة! هل يعتبر إحياء الذكريات الفنية والشعرية القديمة عبر وسائل حديثة نوعا من الإحياء والتخليد، أم قتلا للماضي بوسيلة ناعمة؟
انتهى العرض الجديد بفقرةٍ على المسرح، غنى فيها شادي الخليج، المطل على الثمانين من عمره، بعضا من الأغنية الختامية بصوته المتعب، فانهمرت دموع الحاضرين من الجيل القديم، وسط تصفيق الجمهور الشاب. في وقت لاحق، أبدى شادي الخليج استغرابه من الدموع التي استقبلت صوته المرهق على المسرح... لم يكن يدري أن جيلا من الحاضرين كان يكتب واحدةً من صفحات الختام لمذكراته الخاصة، على هامش "مذكرات بحار" الخالدة.