24 أكتوبر 2024
التعديل الحكومي في تونس ومآلات الأزمة السياسية
منح مجلس النواب التونسي، في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، الأعضاء الجدد في حكومة يوسف الشاهد، الثقة بأغلبيةٍ مريحة، بعد أشهر من الجدل والتجاذبات السياسية. ولم يكن مشهد توجه رئيس الحكومة إلى البرلمان لنيل الثقة لأعضاء من فريقه ليثير جدلًا كبيرًا لو حصل في ظرف سياسي عادي، إلا أن حدوثه في سياق الصراع المحتدم بين رئاستي الجمهورية والحكومة جعل منه حدثًا سياسيًا بالغ الأهمية والدلالات، قبل سنة من الانتخابات البرلمانية والرئاسية المنتظرة أواخر 2019.
الشاهد يُراكم رصيده
مثّل الخلاف حول طبيعة التغيير الحكومي المطلوب الجزء الظاهر من الصراع الدائر بين فرقاء السياسة الحزبية في تونس، طوال الأشهر الأخيرة؛ ففي حين تبنّى رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، ومن بقي في صفه من حزب نداء تونس، والاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية)، وأحزاب من المعارضة؛ كالجبهة الشعبية، مطلب إجراء تغيير حكومي عميق، يرحل بمقتضاه رئيس الحكومة وفريقه، انحازت حركة النهضة إلى ما وصفته بـ "الاستقرار الحكومي" إلى حين إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في 2019، واعتبرت أن أي تعديلٍ في الفريق الحكومي يجب أن يكون جزئيًا. أما حزب مشروع تونس، المنشق عن "نداء تونس"، فقد ظل مترددًا، قبل أن يحسم أمره، ويصوّت لصالح التعديل، ويشارك في الحكومة، في حين راوحت مواقف أحزاب أخرى أقل وزنًا بين المعسكرين.
وبإسدال الستار على مسألة التعديل الحكومي لصالح بقاء الشاهد، يدخل الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية مرحلة جديدة بمعادلاتٍ وتوازناتٍ برلمانيةٍ وحزبيةٍ مختلفة. فعلى مستوى المعسكر الداعم للشاهد، ما زالت حركة النهضة تحافظ على قدرٍ من الوحدة التنظيمية والحزبية، على الرغم من الخلافات التي ظهرت إلى العلن في المدة الأخيرة بخصوص الموقف من الصراع الدائر بين الرئاسة والحكومة. كما ظلت كتلتها البرلمانية (68 نائبًا) في منأى عن الانشقاقات التي أنهكت بعض الكتل الأخرى، وهو ما ساهم في نيل فريق الشاهد ثقة البرلمان بأغلبية مريحة.
وفي مقابل تماسك حركة النهضة وكتلتها البرلمانية، تسارع تفكّك حزب الرئيس السبسي؛ نداء تونس، وكتلته البرلمانية، ولم يكن له تأثير يُذكر في جلسة التصويت على التعديل الوزاري بعد أن اختار مقاطعة الجلسة. ويؤشّر نسق الانسحابات من كتلة "نداء تونس"، قبل التصويت وبعده، إلى أن أغلب من بقي منهم وفيًّا لكتلته قد لا يثبت على موقفه طويلًا، وأن كتلة الائتلاف الوطني الموالية للشاهد الذي خرج منتصرًا في معركته مع الرئاسة، قد تكون وجهة أغلب المنسحبين.
لم تقتصر الهجرة إلى معسكر الشاهد على نواب حزب نداء تونس، بل شملت الوزراء أيضًا. فقبل أيامٍ من جلسة التصويت، نبّه الحزب وزراءه المشاركين في حكومة الشاهد إلى أن بقاءهم في مناصبهم سيكون ثمنه طردهم من الحزب، وهو التنبيه الذي لم يلق أي صدىً لديهم، إذ فضلوا جميعًا حقائبهم الوزارية على التزامهم الحزبي.
إلى جانب استقرار الحضور البرلماني والحكومي لحركة النهضة، واتساع أزمة حزب نداء تونس، مثّل التعديل الحكومي فرصةً لحزب مشروع تونس، المنشق عن "نداء تونس"، لتغيير تموضعه السياسي في المعارضة إلى المشاركة في الحكومة بوزير واحد. وربما تؤشّر هذه المشاركة إلى بداية تعديلٍ في المواقف السياسية للحزب ورئيسه الذي كان يرفض أي التقاء أو شراكة مع حركة النهضة باعتبارها حركة إسلامية، على الرغم من الرمزية التي وسمتها. ولكن، كما يبدو، إضعاف السبسي مهمة مرحلية أكثر إلحاحًا من العداء لحركة النهضة. وفي كل الأحوال، تعد هذه المشاركة، في وجهٍ من وجوهها، رصيدًا جديدًا يضاف إلى حساب الشاهد.
صراع نفوذ بعناوين دستورية
نفى يوسف الشاهد، في الكلمة التي ألقاها أمام النواب، في أثناء عرض فريقه الجديد لنيل الثقة، وجود "أزمةٍ حكومية" في البلاد، مؤكّدًا أن الأزمة "سياسية". لم تخل كلمة الشاهد من إشاراتٍ متكرّرةٍ وصريحةٍ إلى السياق الذي يجري فيه التعديل الحكومي، وعنوانه الأكبر؛ صراع رأسَي السلطة التنفيذية الذي "عطّل عمل الحكومة وشوّش على مسيرة الإصلاح"، والذي وصفه بـ "النيران الصديقة التي كانت أقوى من نيران المعارضة"، على الرغم من أنه استطرد في طرح الأرقام والمؤشرات والنسب التي تصبّ في صالح حكومته، وتحمّل التراكمات والوضع العام مسؤولية الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد.
ومثّل اطمئنان الشاهد إلى سهولة منح أعضاء حكومته الجدد الثقة، بفعل قوة قاعدة دعمه البرلماني في مقابل ضعف كتلة نداء تونس وكتل المعارضة، عاملًا إضافيًا، دفعه إلى تصعيد نبرته، تلميحًا وتصريحًا، تجاه رئيس الجمهورية ومن بقي في معسكره من حزب نداء تونس. وفي إشارة قوية إلى مساعي الرئيس السبسي، طوال السنوات الماضية، إلى تجاوز أدواره التي حدّدها الدستور، أكد الشاهد أنه "رئيس حكومة وليس وزيرًا أول"، وأن "له صلاحيات مطلقة في اختيار الوزراء وكتّاب الدولة"، وهي رسالةٌ قويةٌ في مفادها بأن على الرئيس الالتزام بدوره الذي حدّده الدستور. وفي السياق ذاته، أشار الشاهد، ضمنيًا، إلى مسؤولية الرئيس السبسي ومعسكره الحزبي، عن عرقلة انتخاب عدد من الهيئات الدستورية وتشكيلها؛ كالمحكمة الدستورية، أو سد الشغور الحاصل في هيئاتٍ أخرى؛ كالهيئة العليا المستقلة للانتخابات، مؤكّدًا أنّ "التاريخ لن يرحم من يعرقل ذلك". ومن المعلوم أن كتلة نداء تونس وكتلًا أخرى رفضت التوافق على أعضاء المحكمة الدستورية، كما امتنع السبسي، حتى الآن، عن تسمية الأعضاء الذين يعيّنهم الرئيس، على الرغم من أن التشريعات تنص على تشكيل المحكمة الدستورية مباشرة بعد انتخابات 2014.
وتأتي رسائل يوسف الشاهد بعد أيام قليلة من المقابلة الصحفية التي أجراها رئيس الجمهورية، وخصصها للحديث عن التعديل الحكومي، وموقفه من الخطوات التي أقدم عليها الشاهد. وقد عُقدت الندوة بعد أيام قليلة من تصريح للناطقة الرسمية باسم الرئاسة، اتهمت فيه الشاهد بعدم الالتزام بالتشاور مع الرئيس، قبل التوجه إلى البرلمان لنيل الثقة، في إشارةٍ ضمنيةٍ إلى تجاوزه صلاحياته الدستورية، غير أنّ السبسي عمل على توجيه رسائل مطمئنة مفادها بأنه لن يعرقل تسمية الوزراء وكتّاب الدولة الجدد وأداءهم القسم، من دون أن يفوّت المناسبة ليعبّر عن بعد نظره وحرصه على المصلحة العامة مقابل محدودية رؤية الشاهد.
يتعلق الصراع المحتدم بين قرطاج؛ مقر رئاسة الجمهورية، والقصبة؛ مقر رئاسة الحكومة، في جوهره بالنفوذ السياسي، أساسًا. أما المسائل الدستورية فليست سوى تفاصيل من منظور هذا الصراع تزيد من تعقيده فقط، فمنذ انتخابات 2014 عبّر الرئيس السبسي، في أكثر من مناسبة، عن تبرّمه من محدودية صلاحياته في مقابل الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها رئيس الحكومة (بموجب الدستور الديمقراطي ما بعد الثورة)، وهو السياسي المخضرم الذي قضى معظم مشواره السياسي في نظام رئاسي أحادي. وإذا كان الرئيس وفريقه نجحا في تحجيم دور رئيس الحكومة السابق، الحبيب الصيد، وإجباره على التنحّي، فقد فشلا مع خلفه يوسف الشاهد. وزاد الحديث عن مساعي الرئيس لتهيئة نجله حافظ السبسي ليقوم بأدوار سياسية مستقبلية من حدّة الصراع داخل حزب نداء تونس، والذي تحوّل إلى معركةٍ بين "معسكر الشاهد" و"معسكر الرئيس ونجله".
مفارقات المشهد الجديد
يعدّ الصراع الدائر بين رأسي السلطة التنفيذية حدثًا فريدًا في المشهد السياسي التونسي المعاصر، فإذا كان الحديث عن سلطةٍ حقيقية للحكومة، قبل الثورة، مجافيًا للواقع بحكم سطوة النظام الرئاسي الذي كان سائدًا، والذي كان يعيّن بمقتضاه الرئيس أعضاء الحكومة، ويقيلهم وقتما شاء، ومن دون الرجوع إلى البرلمان، فإن الأمور اختلفت بعد الثورة، فقد شهدت فترة تولّي حمادي الجبالي رئاسة الحكومة والمنصف المرزوقي رئاسة الجمهورية بعض الخلافات، إلا أنها ظلت محدودة ولم تتحول إلى صراع معلن، ويندرج أغلبها في سياق رؤية كلٍ منهما لطبيعة المرحلة. أما الصراع الحالي فهو صراع داخل العائلة السياسية الواحدة، قبل أن يتحوّل إلى نوع من الاستنزاف، من خلال النزوح المتواصل للقاعدة السياسية والبرلمانية من جناح حزب نداء تونس، الموالي للرئيس السبسي ونجله، إلى الجناح الموالي للشاهد، والذي لم تتضح بعدُ الهوية الحزبية أو الائتلافية التي يمكن أن يستقر عليها.
أدّى النزيف المستمر في صفوف حزب نداء تونس، والذي انطلق، بعد أقل من سنة من وصوله إلى الحكم، إلى تأكل أغلب فروعه الجهوية والمحلية، وابتعاد معظم ناشطيه، غير أن عمليات التفكيك الأشد وقعًا نتجت من انشقاق معظم المؤسسين وقيادات الصف الأول وما يقارب نصف الكتلة البرلمانية. لم يلتحق عدد من النواب المنسحبين بالكتلة المحسوبة على الشاهد، إلا أن تصويتهم الأخير بالموافقة على التعديل الوزاري، على غرار نواب كتلة مشروع تونس، يصب في صالحه، بينما تحوّل ما بقي من كتلة "نداء تونس" إلى رقم ضعيف لا يمكنه، حسابيًا، حتى لو حضر جلسة التصويت، تغيير معادلات المشهد السياسي والحكومي أو عرقلة ما تتوافق عليه كتلتي حركة النهضة والائتلاف الوطني الموالية للشاهد، وكتل أخرى أقل عددًا.
وبمقاطعة كتلة نداء تونس جلسة منح الثقة لوزراء حكومة الشاهد، تكون قد انتقلت، عمليًا، إلى صفوف المعارضة داخل البرلمان، وهو ما يشكّل مفارقة جديدة في المشهد السياسي التونسي، فهذه الكتلة هي كتلة حزب الرئيس السبسي، ما يعني أن الحزب، في وضعه الراهن، يضع قدمًا في السلطة، من خلال الرئاسة، وقدمًا في المعارضة، من خلال كتلته البرلمانية، وهو معطىً من شأنه تعقيد العلاقة أكثر بين رأسَي السلطة التنفيذية. فضلًا عن ذلك، تجد كتلة "نداء تونس"، من خلال موقفها الأخير، نفسها مع المعارضة التقليدية داخل مجلس النواب، وهي
المشكلة التي لا تتعامل معها الأحزاب هي تراجع ثقة الجمهور بها نتيجة موضوعية للصراع الحزبي غير المنضبط، وتبديل المواقع المتكرّر، سيما على خلفية ثقافة سياسية لجمهور لم يعتد الديمقراطية البرلمانية بعد. وهذه مقدمة لتراجع الثقة بالديمقراطية ذاتها. وهو ما يجب أن تنتبه إليه الأحزاب، لأنه مسؤوليتها المشتركة.
خاتمة
يدخل الصراع بين معسكري رئيسي الجمهورية الباجي قائد السبسي والحكومة يوسف الشاهد مرحلة جديدة، بعد أن ضمن الأخير منح البرلمان أعضاء حكومته الجدد الثقة بأغلبية مريحة. وبمنح الثقة وانضمام أحزاب جديدة إلى الحكومة ونواب جدد إلى كتلة الائتلاف الوطني، يراكم الشاهد مزيدا من النقاط في رصيده (بوصفه أيضًا شريكًا لحركة النهضة) في مقابل تراجع رصيد السبسي، وتسارع تأكّل جناحه الحزبي وكتلته البرلمانية قبل سنة واحدة من الانتخابات البرلمانية والرئاسية المنتظرة في 2019، غير أن ذلك لا يؤشّر، مبدئيًا، إلى تغييرات جذرية قادمة، بقدر ما يؤشّر إلى إعادة انتشار وتموضع داخل الصف الذي ساند السبسي سنة 2014، مع الإبقاء على مشاركةٍ محسوبةٍ لحركة النهضة، ومشاركة رمزية لمكونات أخرى.