27 أكتوبر 2024
عن طارق البشري
يحتلّ طارق البشري مكانة رفيعة في الحياة الفكرية والثقافية المصرية، في نصف القرن الأخير، فهو من أقطابها، ومن أعلامها. تعدّدت وتنوّعت مشارب عطائه، بين فضاءات القانون، والفِكر، والسياسة، والتاريخ، والفقه. فنحن إزاء قيمة وطنية، وقامة فكرية، وشخصية متعدّدة الجوانب، ثلاثية الأبعاد، اجتمع فيها تجرّد القاضي، وقوّة المُفكِّر، ودقّة المُؤرِّخ، في سبيكة فريدة نادرة المثال، صار صاحبُها مدرسةً متفرّدةً بذاتها، تخرّج فيها تلاميذ كثيرون ومريدون، بطول العالميْن، العربي والإسلامي.
وُلِدَ طارق البشري في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1933 في القاهرة، وهو ينحدر من أسرة مرموقة، (بالمعنى الأدبي والاجتماعي، قبل المالي والاقتصادي)؛ فجدّه الشيخ سليم البشري، شيخ الأزهر الأسبق. تخرّج طارق في كلية الحقوق في جامعة القاهرة عام 1953، والتحق فور تخرّجه بمجلس الدولة، وتدرّج في عمله حتى انتهت مسيرته القضائية في 1998 وهو يشغل منصب النائب الأوّل لرئيس المجلس، ورئيس الجمعية العمومية للفتوى والتشريع فيه. ويُشار هنا إلى واقعة إصرار السلطة على حرمانه من تولّي رئاسة مجلس الدولة، عندما أُعيدَ زميلٌ له يسبقه في الأقدمية ببضعة أشهر، تحت ضغط شديد، من إعارته في الخليج، ليتولّى المنصب، نكاية في البشري ونكالاً به، على مواقفه الصلبة المستقلّة، والمشرّفة، في مواجهة السلطة طوال مسيرته المهنية.
سكّ طارق البشري مصطلح "الجماعة الوطنية"، وانشغل بتفصيله وشرحه، وكتب كثيرا عن
همومها وقضاياها، عبر أكثر من وجه، فكتب سِفره الموسوعي الضخم "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية"، مفككّاً تاريخ العلاقة بين عنصري الأمّة، وللحظات الصدام الطائفي والعوامل التي أدّت إليه، مشددّاً على ضرورة التفاعل المُشترك، وأنّ المجتمع المصري مُتمازِج مُتجانِس، وعوامل الوفاق والاندماج، تفوق بكثير عوامل الشقاق والعزلة.
كما كتب عن طبيعة العلاقة بين التيارات الفكرية، المُشكِّلة للجماعة الوطنية المصرية، مؤكّداً على ضرورة قيام "تيار أساسي" للأمّة، يُعبّر عن المشروع الوطني، والقاسم المُشترَك لجماعات الأمّة، وطوائفها، ومكوّناتها السياسية والاجتماعية، يُشكِّل الخطوط العريضة للمكوّن الثقافي العام، من دون أن يخلّ ذلك بإمكانات التعدّد، والتنوّع، والخلاف داخل هذه الوحدة، وضرورة التوصّل إلى صيغةٍ من شأنها ضبط الخلافات والصراعات الفكرية، ونزع فتيل الاستقطاب، من دون الوصول إلى مرحلة "الحرب الأهلية الثقافية" التي تؤدّي إلى قيام الاستبداد الذي يستفيد من هذا التَقاتُل والاحتراب الفكري. كما كتب عن طبيعة العلاقة بين "دوائر الانتماء"، وأنّ سياقها الطبيعي أن تكون مُتحاضِنة ومُتداخِلة، وليست مُتعارِضة أو مُتصادِمة، فلا يوجد أدنى تعارض بين الجامعة الوطنية والجامعة العروبية والجامعة الدينية/ الإسلامية.
أطلق البشري العنان لفِكره وقلمه، خائضاً في بحر تاريخ الحركة الوطنية المصرية، وسعيها الدؤوب من أجل الاستقلال، والديمقراطية، ومدى الارتباط الوثيق بينهما في كلّ مراحل تاريخنا، مُسلِّطاً الضوء على نقاط مهمّة في النسيج الوطني والتاريخي، من أجل استخلاص الدروس من الماضي القريب، ما يُفيد الأجيال الجديدة في بناء حاضرها ومستقبلها، فكتب عن مختلَف مراحل التاريخ المصري الحديث، ووجود قدر من وشائج الترابط بينها، محللاً عناصر الأحداث التاريخية المفصلية، مُتناولاً الشخصيات التاريخية بروح القاضي وتجرّده، فكتب بموضوعيةِ من دون السقوط في وهدة ثنائية التقديس - التدنيس، عن ثورتي 1919 و1952، وعن سعد زغلول، ومصطفى النحّاس، وجمال عبد الناصر، وخَلُصَ إلى أن "تاريخنا أفسح من أن تدّعي قوّة وحيدة أنها صاحبته، وهو أصلب من أن تتقاسمه التيارات السياسية لتُسيطر كلّ منها على شريحة منه"، وأن محاولات تقاسم تاريخنا بين تياراته تحيله إلى تواريخ متعدّدة، بعدما تتصارع مراحله، فيصير، في النهاية، أنقاضاً على أنقاض.
مرّ البشري بمرحلة تحوّل كبير، حيث بدأ يسارياً في باكورة شبابه، ثمّ استدار استدارةً فكريةً
كبرى، واستقرّ في دائرة "الإسلام الحضاري" (يختلف عن دائرة "الإسلام الحركي"، القائم على الجماعات والتنظيمات المعروفة بهزالها، وفقرها، وجمودها الفكري). وأقدم بعدها بشجاعةٍ على مراجعة نفسه ونَقد ذاته. وقد تحدّث كثيراً عن أسباب ودوافع تحوّله الفكري (جديدها ما كتبه في تقديمه كتاب "المشروع الفكري للدكتور محمّد عمارة"، للباحث يحيى جاد، 2018) عندما تعرّض لـ"الهزّة الفكرية" الناتجة عن هزيمة 1967، والتي دفعت إلى إعادة البحث والتساؤل عن قدر الصحّة والصواب، ومقدار الخطأ والخَلل في القناعات القديمة.
وتحدّث عن حضوره لقاءات دورية ذات صبغة فكرية، استمرّت بضع سنين، كان قوامها الأساسي البشري ومحمّد عمارة والراحل عادل حسين (بالإضافة إلى آخرين كانوا ينضمّون وينصرفون)، تمخّضت عن إعادة صياغة مفهوم الاستقلال الوطني، بحيث لا يقتصر على الجانبيْن، السياسي والاقتصادي، وإنّما ضرورة أن يُستكمَل بـ"استقلال حضاري ثقافي"، فيما يتعلّق بـ"المرجعية السائدة"، وأنّ الإسلام ليس عقيدة دينية فقط، لكنّه أيضاً هو الثقافة السائدة في المجتمع، بحسبانها مرجعية حضارية، ومكوّناً أساسياً من مكوّنات الاستقلال الوطني.
وتجدر الإشارة إلى أن تلك اللقاءات الدورية، وما تمخّض عنها لاحقاً، صار نواة لمدرسة فكرية جديدة هي المدرسة الوسطية الإسلامية، برموز من المعاصرين الذين تبنوا المنهج الإصلاحي التجديدي الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويبتعد عن الغلوّ، والتنطّع، والتطرّف، وتمتدّ جذور هذه المدرسة إلى رائدها الجليل الإمام محمد عبده، وقد تحدّث عنها تفصيلاً الأكاديمي الأميركي ريموند ويليام بيكر في كتابه: "إسلام بلا خوف.. مصر والإسلاميون الجدد".
قالت العرب قديماً: "زامر الحيّ لا يُطرِب"، أو لا كرامة لنبيٍّ في وطنه، وينطبق هذا بصورة كبيرة على طارق البشري، فالرجل، على قامته الفكرية المديدة، وغزارة إنتاجه الفكري ومتانته، لم يحظَ بأي تكريم رسمي من الدولة، في الوقت الذي كُرّمَ فيه أفسال وأغمار من دون أي مبرّرٍ منطقي. ربّما يعود هذا إلى تصفية حسابات أيديولوجية معه، وربّما لأن البشري لم يكن يوماً محسوباً على "مثقفي الحظيرة"، من أرباب "التنوير السلطوي" ورواده، والذين صدّعوا رؤوسنا عقودا (هم رجال كل العصور) بضرورة مواجهة "المدّ الظلامي"، في حين لم نسمع لهم همساً أو رِكزاً في مواجهة الاستبداد، أو للمطالبة بالديمقراطية.
لا يُمكن لهذه الومضة الخاطفة أن تمنح البشري شيئاً من حقّه، أو تتحدّث عنه بصورةٍ تليق بمنزلته الرفيعة التي يتبوّأها في التاريخ المصري والعربي، لكنّها مجرّد تحيةٍ واجبةٍ تحمل عرفاناً، وتقديراً، وامتناناً له، وهو يُتمّ اليومَ عامه الخامس والثمانين، متّعه الله بالصحّة والعافية، ليظلّ مناراً وفناراً مضيئاً لوطنه، وأمّته، في عطاءٍ موصولٍ ممدودٍ، غير مقطوعٍ أو منقوصٍ.
وُلِدَ طارق البشري في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1933 في القاهرة، وهو ينحدر من أسرة مرموقة، (بالمعنى الأدبي والاجتماعي، قبل المالي والاقتصادي)؛ فجدّه الشيخ سليم البشري، شيخ الأزهر الأسبق. تخرّج طارق في كلية الحقوق في جامعة القاهرة عام 1953، والتحق فور تخرّجه بمجلس الدولة، وتدرّج في عمله حتى انتهت مسيرته القضائية في 1998 وهو يشغل منصب النائب الأوّل لرئيس المجلس، ورئيس الجمعية العمومية للفتوى والتشريع فيه. ويُشار هنا إلى واقعة إصرار السلطة على حرمانه من تولّي رئاسة مجلس الدولة، عندما أُعيدَ زميلٌ له يسبقه في الأقدمية ببضعة أشهر، تحت ضغط شديد، من إعارته في الخليج، ليتولّى المنصب، نكاية في البشري ونكالاً به، على مواقفه الصلبة المستقلّة، والمشرّفة، في مواجهة السلطة طوال مسيرته المهنية.
سكّ طارق البشري مصطلح "الجماعة الوطنية"، وانشغل بتفصيله وشرحه، وكتب كثيرا عن
كما كتب عن طبيعة العلاقة بين التيارات الفكرية، المُشكِّلة للجماعة الوطنية المصرية، مؤكّداً على ضرورة قيام "تيار أساسي" للأمّة، يُعبّر عن المشروع الوطني، والقاسم المُشترَك لجماعات الأمّة، وطوائفها، ومكوّناتها السياسية والاجتماعية، يُشكِّل الخطوط العريضة للمكوّن الثقافي العام، من دون أن يخلّ ذلك بإمكانات التعدّد، والتنوّع، والخلاف داخل هذه الوحدة، وضرورة التوصّل إلى صيغةٍ من شأنها ضبط الخلافات والصراعات الفكرية، ونزع فتيل الاستقطاب، من دون الوصول إلى مرحلة "الحرب الأهلية الثقافية" التي تؤدّي إلى قيام الاستبداد الذي يستفيد من هذا التَقاتُل والاحتراب الفكري. كما كتب عن طبيعة العلاقة بين "دوائر الانتماء"، وأنّ سياقها الطبيعي أن تكون مُتحاضِنة ومُتداخِلة، وليست مُتعارِضة أو مُتصادِمة، فلا يوجد أدنى تعارض بين الجامعة الوطنية والجامعة العروبية والجامعة الدينية/ الإسلامية.
أطلق البشري العنان لفِكره وقلمه، خائضاً في بحر تاريخ الحركة الوطنية المصرية، وسعيها الدؤوب من أجل الاستقلال، والديمقراطية، ومدى الارتباط الوثيق بينهما في كلّ مراحل تاريخنا، مُسلِّطاً الضوء على نقاط مهمّة في النسيج الوطني والتاريخي، من أجل استخلاص الدروس من الماضي القريب، ما يُفيد الأجيال الجديدة في بناء حاضرها ومستقبلها، فكتب عن مختلَف مراحل التاريخ المصري الحديث، ووجود قدر من وشائج الترابط بينها، محللاً عناصر الأحداث التاريخية المفصلية، مُتناولاً الشخصيات التاريخية بروح القاضي وتجرّده، فكتب بموضوعيةِ من دون السقوط في وهدة ثنائية التقديس - التدنيس، عن ثورتي 1919 و1952، وعن سعد زغلول، ومصطفى النحّاس، وجمال عبد الناصر، وخَلُصَ إلى أن "تاريخنا أفسح من أن تدّعي قوّة وحيدة أنها صاحبته، وهو أصلب من أن تتقاسمه التيارات السياسية لتُسيطر كلّ منها على شريحة منه"، وأن محاولات تقاسم تاريخنا بين تياراته تحيله إلى تواريخ متعدّدة، بعدما تتصارع مراحله، فيصير، في النهاية، أنقاضاً على أنقاض.
مرّ البشري بمرحلة تحوّل كبير، حيث بدأ يسارياً في باكورة شبابه، ثمّ استدار استدارةً فكريةً
وتحدّث عن حضوره لقاءات دورية ذات صبغة فكرية، استمرّت بضع سنين، كان قوامها الأساسي البشري ومحمّد عمارة والراحل عادل حسين (بالإضافة إلى آخرين كانوا ينضمّون وينصرفون)، تمخّضت عن إعادة صياغة مفهوم الاستقلال الوطني، بحيث لا يقتصر على الجانبيْن، السياسي والاقتصادي، وإنّما ضرورة أن يُستكمَل بـ"استقلال حضاري ثقافي"، فيما يتعلّق بـ"المرجعية السائدة"، وأنّ الإسلام ليس عقيدة دينية فقط، لكنّه أيضاً هو الثقافة السائدة في المجتمع، بحسبانها مرجعية حضارية، ومكوّناً أساسياً من مكوّنات الاستقلال الوطني.
وتجدر الإشارة إلى أن تلك اللقاءات الدورية، وما تمخّض عنها لاحقاً، صار نواة لمدرسة فكرية جديدة هي المدرسة الوسطية الإسلامية، برموز من المعاصرين الذين تبنوا المنهج الإصلاحي التجديدي الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويبتعد عن الغلوّ، والتنطّع، والتطرّف، وتمتدّ جذور هذه المدرسة إلى رائدها الجليل الإمام محمد عبده، وقد تحدّث عنها تفصيلاً الأكاديمي الأميركي ريموند ويليام بيكر في كتابه: "إسلام بلا خوف.. مصر والإسلاميون الجدد".
قالت العرب قديماً: "زامر الحيّ لا يُطرِب"، أو لا كرامة لنبيٍّ في وطنه، وينطبق هذا بصورة كبيرة على طارق البشري، فالرجل، على قامته الفكرية المديدة، وغزارة إنتاجه الفكري ومتانته، لم يحظَ بأي تكريم رسمي من الدولة، في الوقت الذي كُرّمَ فيه أفسال وأغمار من دون أي مبرّرٍ منطقي. ربّما يعود هذا إلى تصفية حسابات أيديولوجية معه، وربّما لأن البشري لم يكن يوماً محسوباً على "مثقفي الحظيرة"، من أرباب "التنوير السلطوي" ورواده، والذين صدّعوا رؤوسنا عقودا (هم رجال كل العصور) بضرورة مواجهة "المدّ الظلامي"، في حين لم نسمع لهم همساً أو رِكزاً في مواجهة الاستبداد، أو للمطالبة بالديمقراطية.
لا يُمكن لهذه الومضة الخاطفة أن تمنح البشري شيئاً من حقّه، أو تتحدّث عنه بصورةٍ تليق بمنزلته الرفيعة التي يتبوّأها في التاريخ المصري والعربي، لكنّها مجرّد تحيةٍ واجبةٍ تحمل عرفاناً، وتقديراً، وامتناناً له، وهو يُتمّ اليومَ عامه الخامس والثمانين، متّعه الله بالصحّة والعافية، ليظلّ مناراً وفناراً مضيئاً لوطنه، وأمّته، في عطاءٍ موصولٍ ممدودٍ، غير مقطوعٍ أو منقوصٍ.