02 نوفمبر 2024
رد على تعقيبين.. الدولة ثنائية القومية في فلسطين
قرأتُ في "العربي الجديد" تعقيباً مزدوجاً على مقالتي "الدولة ثنائية القومية في فلسطين: واقع الحال والمحال" (العربي الجديد، 22/10/2018)، والتعقيبان من تدبيج الأستاذين ناجي الخطيب وحيان جابر. وأنا أشكر لهما اهتمامهما بمقالتي، وصرف جزء غير قليل من وقتهما في الرد عليها. وقد كنتُ ميالاً، في البداية، إلى عدم الرد لانتفاء الضرورة، إذ لا حاجة إلى أن يعيد الإنسان اختراع الدولاب من جديد في كل مرة. غير أني، احتراماً لجهد الكاتبين وآرائهما، وجدت أن من الملائم الإمعان في المناقشة، خصوصاً أن الوسط الثقافي الفلسطيني بات يفتقر حقاً إلى السجالات السياسية والثقافية والفكرية، بعدما غرق في سجالاتٍ من نوع آخر كالمصالحة والتهدئة وحركتي حماس وفتح والفساد والتسلط والتنسيق الأمني والمفاضلة بين النضال الشعبي غير العنيف والكفاح الثوري المسلح... إلى آخر هذه المنظومة المشلّة للوعي. وبهذا الدافع، عزمت على الرد.
أولاً: حيان جابر
رداً على عبارة وردت في مقالتي هي: "إن كلمة العلمانية هي من مزايدات الكلام، وليست من أصل العبارة" يتساءل الكاتب: هل حقاً أن إضافة العلمانية فعل تمايزي، أم ينطلق من حزازات سياسية وقانونية ذات مغزى واضح؟ ولا أدري، بالفعل، ما المقصود بـِ "فعل تمايزي" أو "الانطلاق من حزازات سياسية وقانونية"، وكل ما أود إيضاحه هنا أنني كتبت أن العلمانية في شعار "الدولة الديمقراطية في فلسطين" (رفع في سنة 1968، وأطلقه رسمياً باسم حركة فتح الأخ الصديق محمد أبو ميزر – أبو حاتم في 1/1/1969) هي من مزيدات الكلام، وليس من مزايدات الكلام، لكن غلطاً ما أضاف إلى الكلمة حرف الألف، فتحول المعنى تماماً. وأنا لا ألوم الكاتبين على ذلك، فقد قرأ الواحد منهما تلك الكلمة مزيدةً بحرف الألف. لكن، لو تنبه الكاتبان إلى بقية الجملة، أي "وليس من أصل العبارة" فربما لم يتوقفا عندها. ومزيدات الكلام مصطلح معروف، وهو يعني زيادة كلمة على المصطلح للإيضاح، كأن تقول "هيئة الأمم المتحدة" فكلمة "هيئة" غير موجودة في أصل العبارة، لأن الاسم الرسمي هو "الأمم المتحدة" UN، فهي إذاً من إضافات الكُتاب. وكذلك "مجلس الأمن الدولي"، فكلمة "الدولي" ليست من أصل العبارة، بل من مزيدات الكلام، لأن الاسم الرسمي هو "مجلس الأمن" لا غير Security Council.
يكتب حيان جابر: "نجد في بعض المراجع تبنّي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين [فكرة الدولة الديمقراطية العَلمانية] منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 1967". وحبذا لو ذكر الأخ جابر تلك
المراجع، لأن الجبهة الشعبية لم تكن قد ولدت في تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، فإعلان تأسيسها هو 11/12/1967، حين أذاعت بيانها السياسي الأول، معلنة تلك الولادة الائتلافية بين ثلاث مجموعات، هي شباب الثأر وجبهة التحرير الفلسطينية وأبطال العودة (لا شباب العودة كما أوردها ناجي الخطيب). أما إذا كان يقصد بعض أدبيات حركة القوميين العرب، فهذا أمر آخر، وله سياق مختلف تماماً. ثم يكتب: "نلحظ طوباوية حل الدولتين واستحالة تحقيقه اليوم وغداً بل ومستقبلاً حتى زوال حاجة المجتمع الدولي الإسرائيلي".
أَليس هذا الكلام هو الطوباوية بعينها؟ ومن أين تأتي، يا أخ حيان، بهذه الجرأة، كي تقرر أن حل الدولتين لن يتحقق حتى في المستقبل البعيد جداً؟ أَليس من الطوباوية الفاقعة أن تنتظر زوال حاجة المجتمع الدولي لإسرائيل حتى ننتقل إلى "مرحلة جديدة بموازين دولة جديدة"؟ ومن قال لك إن المستقبل الذي تنتظره كانتظار اليهود المسيح، وانتظار المسيحيين المسيح، وانتظار المسلمين الشيعة المهدي سيحمل معه لك زوال حاجة المجتمع الدولي لإسرائيل؟ هذه الخرافة التي انتشرت مع سقوط الاتحاد السوفياتي وانحسار الحرب الباردة، فراح الكُتّاب والصحافيون يرددون أن اسرائيل تتحول من ثروة استراتيجية للولايات المتحدة إلى عبء استراتيجي. وهات يا كلام.
المستقبل هو ما نبنيه اليوم. وما يجري بناؤه اليوم يطيح كلامك هذا، ولا حاجة لانتظار المستقبل، كي تتأكد من فساد هذه المعايرة الفاسدة. والعجيب أن الأخ حيان جابر الذي يؤكد في المقالة عينها "أن النقاشات والخلافات حول برنامج التحرّر اليوم هي نظرة واعية نحو مستقبل (...) لا يمكن التنبؤ به"، فما دام الأخ حيان غير قادر على التنبوء، فلماذا يتنبأ بالمستقبل الذي تنتفي فيه حاجة المجتمع الدولي إلى إسرائيل؟ الكتابة الاستشرافية غير العرافة والتنجيم، أليس كذلك؟ ويقول حيان جابر: "منذ إقرار البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1974 طُرح السؤال التالي: إذا كنا قادرين على إرغام الاحتلال وداعميه على حل الدولتين، فِلمَ لا نرغمه على حل الدولة الواحدة؟". هنا، في هذا الميدان، أود أن أُقوّم اعوجاج هذا الكلام. فليس صحيحاً أن هذا السؤال كان مطروحاً آنذاك على الإطلاق. ما طُرح آنذاك هو التالي: إن نتائج حرب تشرين الأول 1973، وميزان القوة الجديد الذي تمخضَت عنه الحرب، سيتيحان استعادة الضفة الغربية وقطاع غزة، فهل نعيد قطاع غزة إلى أنور السادات والضفة الغربية إلى الملك حسين؟ ولماذا لا نستعيدها لنا ونقيم فوقهما دولةً مستقلةً من دون الاعتراف باسرائيل؟ هكذا كانت التساؤلات والمناقشات والآراء آنذاك، لا على طريقة الأخ حيان جابر الموهومة. ثم إن حل الدولتين لم يكن مطروحاً حينذاك، بل إن فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة هي التي كانت مطروحة. وشتان ما بينهما. فحلّ الدولتين يعني الاعتراف المتبادل، وهو ما جرى لاحقاً. أما حل الدولة المستقلة فما كان يتضمن الإعتراف بإسرائيل، أو تقديم أي تنازلاتٍ لها. ومهما يكن الأمر، فلا قراءة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين كانت صحيحة، ولا قراءة جبهة الرفض التي دُفنت من دون مراسم في سنة 1979 كانت ثاقبة.
ثانياً: ناجي الخطيب
يقول إن الوطنية الفلسطينية تبلورت بين عام 1952، حين صار ياسر عرفات رئيساً لرابطة طلبة فلسطين في جامعة القاهرة، و1/10/1959 مع صدور العدد الأول من مجلة
"فلسطيننا". وعلى أهمية تلك المرحلة، وهي المرحلة التي أعقبت نكبة عام 1948 مباشرة، إلا أن هذا الكلام غير دقيق، وهو يتناقض مع التاريخ الفلسطيني المعاصر، فالكيانية الفلسطينية، والوطنية السياسية والفكرية، بدأتا في الظهور منذ سنة 1933 فصاعداً مع بداية تأسيس الأحزاب في فلسطين (عدا الحزب الشيوعي الذي ظهر في سنة 1924). وترسخت الوطنية الفلسطينية إبّان ثورة 1936. أما مرحلة ما بعد النكبة فكانت توليداً استمرارياً للوطنية المتبلورة سابقاً في فلسطين، لكن في واقع مغاير، هو واقع الاحتلال والمنفى. وخير دليل على ذلك المواثيق التي كانت تصدرها المؤتمرات الوطنية؛ فميثاق 1919 كان ينص على إنهاء الانتداب، ووقف الهجرة اليهودية، والانضمام إلى الوطن الأم سورية باعتبار فلسطين هي سورية الجنوبية. وظل محتوى هذا الميثاق يتكرّر في المواثيق اللاحقة حتى سنة 1929 على الأقل. ثم بدأت المواثيق تنص على قيام حكومة فلسطينية مستقلة، تكون جزءاً من الأمة العربية، وتتطلع إلى الوحدة العربية.
يكتب ناجي الخطيب "إن من شأن شعار النضال من أجل فلسطين دولة علمانية واحدة أن يعيد القضية إلى مربعها الأول". وهذا رأيٌ مستغرب، فمن يريد أن يعيد قضية فلسطين إلى مربعها الأول؟ إن هذا الكلام المجاني، أو قليل التكلفة، يَنثُر هباء خبرات ثلاثين سنة على الأقل في ما لو اكتفينا بالمرحلة ما بين 1965 حتى 1993. ولا أدري هل أسهم الأخ ناجي الخطيب في تلك الخبرات طوال تلك السنين، كي يرميها هكذا؟ هذا دلع سياسي ودلال ثقافي. وكيف ينسى أن الفصائل الفلسطينية كلها ناضلت تحت شعار "الدولة الديمقراطية" (العلمانية بحسب بعضهم)، وناضل كثيرون في سبيل دولة اشتراكية، حيث الجميع، فلسطينيون ويهود، متساوون ويعيشون في دولةٍ تناوئ القهر الطبقي والاضطهاد القومي. وكان لهؤلاء علاقات وثقى بمنظمة ماتسبن (المنظمة الاشتراكية الاسرائيلية) التي دعت إلى تحطيم الصهيونية وإسرائيل وتأسيس دولة اشتراكية شرق أوسطية. وكنا مغرمين بهذه الأفكار، لنكتشف في ما بعد أن "ماتسبن" ومشتقاتها الفكرية والتنظيمية ظلت هامشية جداً جداً في إسرائيل وأوروبا التي هاجر إليها عكيفا أور وموشي ماخوفر وغيرهما. وحتى في النطاق الفلسطيني، ظلت هذه الأفكار محدودة الأثر، لكنها عالية الصوت كالولد المهروق المشاغب.
يتهمني ناجي الخطيب، في أكثر من موضع في مقالته، بأنني أرفض شعار الدولة العلمانية في فلسطين التاريخية. وهذا اتهام غريب، لا يقوم على أي دليل ألبتة. وفي مقالتي موضع النقاش، كتبت إن شعار الدولة الديمقراطية الآن (انتبه إلى كلمة الآن) غير واقعي. وهذا الحكم مجرّد استنتاج، أو قراءة تاريخية للأحوال الفلسطينية الراهنة، وليس موقفاً. لا تقول مقالتي ذلك على الإطلاق. ولو رجع الكاتب إلى بعض كتاباتي ومؤلفاتي، لوجد أنني متطرّف في عَلمانيتي، وكثيراً ما رددت إنني لا أرضى بفصل الدين عن الدولة، بل بإخضاع الدين للدولة. وأنا ممن ساهموا في مناقشة مشروع الدستور الفلسطيني (المرحوم)، وإبداء الرأي في نصوصه، وكانت آرائي في هذا الشأن تثير حنق المعادين للعلمانية من الإسلاميين والقوميين المتأسلمين. ولعل من الملائم أن أنبهك إلى مناقشتي الدستور الفلسطيني المنشورة في صحيفة السفير، اللبنانية (7/2/2003)، وفيها أرفض المادة التي تنص على أن الاسلام هو الدين الرسمي للدولة، وأن مبادئ الشريعة الاسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع. وكل ما كتبته أن هذا شعار الدولة الديمقراطية الذي رفعته حركة فتح، قبل أي فصيل أو حزب أو فرد، اصطدم بالواقع. والواقع هو الذي أرغم "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية ومعظم المنظمات المقاتلة على تعديل توقعاتها، من الدولة الديمقراطية (أي برنامج التحرير الكامل في سنة 1965) إلى القبول بفكرة الدولة المستقلة (بعد حرب 1973 وخطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة)، ثم خطة فاس في سنة 1983 (بعد معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية والخروج من لبنان في سنة 1982)، فإلى برنامج الاستقلال وحل الدولتين في سنة 1988 (بعد الانتفاضة الأولى)، ثم إلى برنامج أوسلو والتفاوض المباشر في سنة 1993 فصاعداً (بعد هزيمة العراق)، فإلى برنامج التدويل في سنة 2012 (بعد فشل أوسلو نهائياً). وفي معمان هذه المسيرة الشائكة، فشلت استراتيجية "إما كل فلسطين أو لا شيء"، وفشلت أيضاً استراتيجية "أي شيء أفضل من لا شيء".
إذاً، سأصفح عن اتهامه المزعوم لي بأنني أرفض فكرة الدولة الديمقراطية العلمانية في
فلسطين. ولكن لن أصفح عن قراءته الهذيانية لمقالتي حيث كتب: "نستطيع القول إن الاستيعاب الداخلي العميق لقوة السردية الصهيونية هو ما دفع كاتبنا إلى استنتاج أن حل الدولتين يبقى أكثر الحلول واقعية". ما شاء الله! إنه محلل نفساني بارع على ما يبدو؛ فقد أضجعني على كرسي الطبيب غيابياً، من غير أن يرى حتى وجهي، واستطاع أن يكشف النقاب عن "الاستيعاب الداخلي العميق للسردية الصهيونية"، ويزيح اللثام عما يدور في عقلي الباطن.
ليعلم الكاتب، ومن الضروري أن يعلم، أنه يرد على كاتب موشومٍ بثلاثة جروح: واحدة طفيفة من مدفعية إسرائيل تركت ندباً في قدمه، وندبتان في وجهه، وبعض الشظايا في ساعده الأيسر من عملاء اسرائيل في أثناء حرب المخيمات. وبعد ذلك، ثمة من يتبجّح بأنه حفر في أغوار نفسي، فوجد لدي "استيعاباً داخلياً عميقاً للسردية الصهيونية". ما شاء الله، وحسبي الله. ولا يكتفي الكاتب بذلك، بل يقول "إن الدولة ثنائية القومية عزيزة على قلبي"، وهذا تزوير آخر وتدليس على القارئ. فأنا كتبت ما يلي: "إن فكرة الدولة ثنائية القومية لم يقيّض لها أن تحفر أثلاماً عميقة في الوعيين الفلسطيني واليهودي، وبقيت مجرد أفكار متوارية أو هاربة تلوح في بطون الكتب كباقي الوشم في ظاهر اليد. لكن، مع انحسار حل الدولتين، واستحالة حل الدولة الواحدة، استيقظت الفكرة مجدداً، وراحت تختلج كأحد التمارين الذهنية". وكتبت أيضاً إن الدولة ثنائية القومية، بأشكالها الافتراضية المختلفة، تبدو من المحال تحققها، أي أنها افتراضيةٌ بجميع صيغها، ومن المحال تحققها في الواقع. فكيف تكون عزيزةً على قلبي؟ ويبدو أن الكاتب لا يجيد القراءة الواعية، فلو أنعم النظر في عنوان مقالتي "واقع الحال والمحال" لاكتشف ضحالة ما كتب. لكن، ما العمل مع مَن له عينان ولا يرى، ومع مَن له أذنان ولا يسمع.
لم يكتفِ الأخ ناجي الخطيب بقراءته التي تطنطن بالإفك، بل زوّر كلامي، وادعى على لساني أن الدولة ثنائية القومية تحافظ على الحقوق القومية للطرفين. والحقيقة أنني لم أكتب هذا الكلام ألبتة. أشرت، في مقالتي التي يمكن أن يراجعها مَن أراد، إلى "ان الاعتراف بالدولة ثنائية القومية يمثل اعترافاً فلسطينياً واضحاً وصريحاً بالجانب القومي للوجود اليهودي في فلسطين". وجاء هذا الكلام في سياق التنبيه ليس إلا، وفي سياق شرح مضمون الكلام، أي "أن اليهود يرفضون الدولة الواحدة لأنها ستقضي على الطابع اليهودي لدولة إسرائيل جرّاء التزايد السكاني الفلسطيني، بينما الدولة ثنائية القومية تُبقي الحقوق القومية للطرفين ثابتةً، حتى لو تغير الميزان الديموغرافي تنفيذاً للتعاقد التاريخي المتخيل بين الفلسطينيين والإسرائيليين". ومن مساخر الأيام أن يقرأ أحدهم مقالتي، ثم يفسّر فقرة منها أنها تعني الاعتراف بحقوق قومية للإسرائيليين في فلسطين، مع أنني كتبت في السطر الأول أن إسرائيل دولة كولونيالية ويهودية، ولا يكون الموقف التاريخي والمبدئي من الكولونيالية إلا بمواجهتها والتصدّي لها، وصولاً إلى تحطيمها، وهذا أمر بدهي لا يحتاج إلى تكرار، غير أن ما كتبه الخطيب ألجأني إلى التكرار.
خلط بلا تبصّر
يخلط الكاتبان الدولة الواحدة بالدولة الديمقراطية العَلمانية بلا تبصر. فالدولة الواحدة التي تنادى إليها السيدان ن. الخطيب و ح. جابر هي غير الدولة الديمقراطية التي أطلقتها حركة فتح، والعزيزة على قلبي حقاً. والدولة الواحدة ناقشها وكتب عنها كثيرون، وكان آخرهم، على الراجح، خالد الحسن (أبو السعيد) الذي أراد أن يجد حلاً لمشكلتين، تمنعان التوصل إلى حل سياسي فلسطيني – اسرائيلي، هما: اللاجئون الذين تتشبث إسرائيل برفض عودتهم إلى ديارهم الأصلية، والمستوطنات التي تتشبث منظمة التحرير الفلسطينية بضرورة تفكيكها في أي حل. وفي الدولة الواحدة لدى خالد الحسن تصبح المستوطنات شرعية، وتبقى في مكانها، استناداً إلى أن من حق المواطنين، يهوداً أكانوا أم عرباً فلسطينيين، أن يسكنوا في أي مكانٍ من وطنهم الواحد المشترك. وفي المقابل، يستطيع اللاجئون أن يعودوا إلى فلسطين، ويسكنوا في أي مكان متاح. وهذه الدولة، بحسب خالد الحسن، تحل المشكلتين مرة واحدة. والواضح أن فكرة الدولة الواحدة الآنفة هي نتاج للتأمل السلبي الذي لا يقيم أي اعتبار للحقائق السياسية وللوقائع المتغيرة، وكل ما يريده هؤلاء الذهنيون هو إراحة الضمير من التلبس بفرية الحل السياسي مع إسرائيل.
أما حل الدولتين، وهو الأكثر واقعيةً يوم وُلدت تلك الفكرة، فقد صار اليوم غير واقعي، جرّاء
التحولات الهائلة في العالم العربي. والتغير الكبير هو انتقال بعض الدول العربية علناً، ولأول مرة منذ سبعين سنة، من دولٍ معادية لإسرائل إلى دول صديقة لها. ولأول مرة منذ سبعين عاماً، صارت إسرائيل تتمتع بعمق عربي داعم لها، واختفى، في هذا الواقع المر، مصطلح "دول المواجهة" و "دول المساندة". ومن خلال معرفتي بالكولونيالية الإسرائيلية، أنظر إلى "حل الدولتين" كحل غير عادل تاريخياً، لكنه وسيلةٌ لصد الكولونيالية الإسرائيلية وتشقيقها، بحسب قانون القصور الذاتي في الفيزياء.
هل يعرف ن. الخطيب و ح. جابر ما هو قانون القصور الذاتي؟ إذاً، هاكم هو: إذا قذفت حجراً نحو الأعلى فسيندفع بقوة في البداية، ثم تبدأ سرعته بالتلاشي، جرّاء قوة الجاذبية وعوامل الكبح كالهواء، إلى أن يصل إلى الذروة، ثم يبدأ بالسقوط فيصل إلى سرعته القصوى قبيل الارتطام بالأرض. وفي فلسطين، تعتبر المقاومة المسلحة أحد عوامل كبح القوة الكولونيالية الإحلالية الإسرائيلية. وحل الدولتين الذي ترفضه إسرائيل بقوة وإصرار وعناد هو الذي يشقّق الكيان الإسرائيلي، ويجعل دواليب هذا الكيان تدور إلى الخلف، تماماً مثل الحجر الذي وصل إلى الذروة ثم بدأ يتهاوى. وإسرائيل كما هو معروف، وخلافاً للذين ما برحوا يلوكون الكلام على التوسعية الإسرائيلية، قد رسمت حدودها مع مصر ومع لبنان (الخط الأزرق) ومع الأردن، وإلى حد ما مع سورية عند خط الحدود الدولية، لا كما يريد السوريون عند خط وقف إطلاق النار في سنة 1949، أي خط الهدنة. لكن إسرائيل لن ترسم حدودها مع فلسطين في الضفة الغربية، بعدما غادرت قطاع غزة في سنة 2005، لأنه يقع خارج نطاقها، وكان يكلفها أعباء أمنية كثيرة.
مقتل إسرائيل يتمثل في المواجهة المباشرة في الضفة الغربية. هناك المنازلة الكبرى، حيث إسرائيل غير قادرة على ضم الضفة الغربية بسكانها، فتصبح دولة ثنائية القومية، وغير قادرة على طرد الفلسطينيين لتبقى دولة قومية لليهود بحسب مصطلحاتها. وحل الدولتين، لو أمكن تحقيقه رغماً عن الإسرائيليين، سيكون بداية التشقق في هذه الدولة الكولونيالية، وستصبح حقبة ما بعد قيام الدولة الفلسطينية مطابقةً لمرحلة تهاوي الحجر من الأعلى، وهذا المثال على سبيل التشبيه ليس أكثر. وإلى أن نصل يوماً إلى هذه الحقبة، المتخيلة والصعبة والبعيدة في الزمن، لا بد من ابتداع أفكار واقعية وثورية معاً، لا التسلي بالألاعيب الذهنية، وهي كثيرة. أما اليوم فمن الصعب، بحسب ما أرى، تحقيق إنجاز تاريخي للشعب الفلسطيني، وربما كان الانتظار الإيجابي ملاذاً وليس حلاً، فالانتظار السلبي كمن يقف في محطة القطار مودعاً وملوحاً بالمناديل. أما الانتظار الإيجابي فهو كمن يجهز حقائبه كي يصعد إلى القطار. وتجهيز الحقائب يعني تجهيز الشعب لابتداع مقاومته استناداً إلى الواقع، وبناء المؤسّسات السياسية التي تجعل الشعب يتشبث بأرضه، والتي تدافع عنه، وعن مصالحه، في خضم النضال طويل الأمد. طويل الأمد؟ نعم. لأن الصراع في فلسطين حالة خاصة في تاريخ الصراعات العالمية، فهو لا يشبه الصراع الهندي – الباكستاني، أو النزاع العراقي – الإيراني (سابقاً)، أو حتى حركات التحرّر الوطنية التي انتصرت كلها عدا فلسطين. ففي حالة حركات التحرّر الوطني تنتصر الثورة حين يصبح الاحتلال مكلفاً للمحتل وغير مجدٍ. وفي حالة النزاعات الإقليمية، ينتهي الأمر بانتصار أحد الطرفين أو بالتوصل إلى اتفاق سلام. أما في فلسطين فالصراع هناك بشري وجغرافي وسياسي وتاريخي وحضاري وقومي. إنه صراع بين مجموعتين بشريتين، تستند كل واحدة منهما إلى سرديتها الخاصة Narrative وإلى عناصرها الدينية والتاريخية والثقافية. وحتى لو كانت سردية إحدى المجموعتين زائفة (أقصد السردية الإسرائيلية) فإنها، جرّاء طابعها الكولونيالي الإحلالي، لا تعدم مَن يشد أزرها، ويطيل بقاءها، ويقوي مناعتها وتفوقها؛ إنه صراع ممتد في الزمن. وفي إطار هذه المقاربة، لا في نطاق التمارين الذهنية، تصبح السياسة والمسؤولية السياسية أمرا، والتلهي بالألعاب النظرية البعيدة عن الواقع أمرا آخر.
حبذا لو بحث مَن له هِمّة ومعرفة وتجربة في ما يلي: في عصر الحرب الباردة كان الكفاح المسلح الوسيلة الفضلى لتحرير فلسطين. ثم صار التفاوض مع جرعاتٍ من العمل المسلح الوسيلة المفضلة في حقبة ما بعد الحرب الباردة. ومع فشل المفاوضات، صار التدويل ملاذاً لمنظمة التحرير الفلسطينية. والسؤال هو: ما الإستراتيجية الملائمة اليوم لقضية فلسطين بعد تلك الدروس الصعبة؟
أولاً: حيان جابر
رداً على عبارة وردت في مقالتي هي: "إن كلمة العلمانية هي من مزايدات الكلام، وليست من أصل العبارة" يتساءل الكاتب: هل حقاً أن إضافة العلمانية فعل تمايزي، أم ينطلق من حزازات سياسية وقانونية ذات مغزى واضح؟ ولا أدري، بالفعل، ما المقصود بـِ "فعل تمايزي" أو "الانطلاق من حزازات سياسية وقانونية"، وكل ما أود إيضاحه هنا أنني كتبت أن العلمانية في شعار "الدولة الديمقراطية في فلسطين" (رفع في سنة 1968، وأطلقه رسمياً باسم حركة فتح الأخ الصديق محمد أبو ميزر – أبو حاتم في 1/1/1969) هي من مزيدات الكلام، وليس من مزايدات الكلام، لكن غلطاً ما أضاف إلى الكلمة حرف الألف، فتحول المعنى تماماً. وأنا لا ألوم الكاتبين على ذلك، فقد قرأ الواحد منهما تلك الكلمة مزيدةً بحرف الألف. لكن، لو تنبه الكاتبان إلى بقية الجملة، أي "وليس من أصل العبارة" فربما لم يتوقفا عندها. ومزيدات الكلام مصطلح معروف، وهو يعني زيادة كلمة على المصطلح للإيضاح، كأن تقول "هيئة الأمم المتحدة" فكلمة "هيئة" غير موجودة في أصل العبارة، لأن الاسم الرسمي هو "الأمم المتحدة" UN، فهي إذاً من إضافات الكُتاب. وكذلك "مجلس الأمن الدولي"، فكلمة "الدولي" ليست من أصل العبارة، بل من مزيدات الكلام، لأن الاسم الرسمي هو "مجلس الأمن" لا غير Security Council.
يكتب حيان جابر: "نجد في بعض المراجع تبنّي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين [فكرة الدولة الديمقراطية العَلمانية] منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 1967". وحبذا لو ذكر الأخ جابر تلك
أَليس هذا الكلام هو الطوباوية بعينها؟ ومن أين تأتي، يا أخ حيان، بهذه الجرأة، كي تقرر أن حل الدولتين لن يتحقق حتى في المستقبل البعيد جداً؟ أَليس من الطوباوية الفاقعة أن تنتظر زوال حاجة المجتمع الدولي لإسرائيل حتى ننتقل إلى "مرحلة جديدة بموازين دولة جديدة"؟ ومن قال لك إن المستقبل الذي تنتظره كانتظار اليهود المسيح، وانتظار المسيحيين المسيح، وانتظار المسلمين الشيعة المهدي سيحمل معه لك زوال حاجة المجتمع الدولي لإسرائيل؟ هذه الخرافة التي انتشرت مع سقوط الاتحاد السوفياتي وانحسار الحرب الباردة، فراح الكُتّاب والصحافيون يرددون أن اسرائيل تتحول من ثروة استراتيجية للولايات المتحدة إلى عبء استراتيجي. وهات يا كلام.
المستقبل هو ما نبنيه اليوم. وما يجري بناؤه اليوم يطيح كلامك هذا، ولا حاجة لانتظار المستقبل، كي تتأكد من فساد هذه المعايرة الفاسدة. والعجيب أن الأخ حيان جابر الذي يؤكد في المقالة عينها "أن النقاشات والخلافات حول برنامج التحرّر اليوم هي نظرة واعية نحو مستقبل (...) لا يمكن التنبؤ به"، فما دام الأخ حيان غير قادر على التنبوء، فلماذا يتنبأ بالمستقبل الذي تنتفي فيه حاجة المجتمع الدولي إلى إسرائيل؟ الكتابة الاستشرافية غير العرافة والتنجيم، أليس كذلك؟ ويقول حيان جابر: "منذ إقرار البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1974 طُرح السؤال التالي: إذا كنا قادرين على إرغام الاحتلال وداعميه على حل الدولتين، فِلمَ لا نرغمه على حل الدولة الواحدة؟". هنا، في هذا الميدان، أود أن أُقوّم اعوجاج هذا الكلام. فليس صحيحاً أن هذا السؤال كان مطروحاً آنذاك على الإطلاق. ما طُرح آنذاك هو التالي: إن نتائج حرب تشرين الأول 1973، وميزان القوة الجديد الذي تمخضَت عنه الحرب، سيتيحان استعادة الضفة الغربية وقطاع غزة، فهل نعيد قطاع غزة إلى أنور السادات والضفة الغربية إلى الملك حسين؟ ولماذا لا نستعيدها لنا ونقيم فوقهما دولةً مستقلةً من دون الاعتراف باسرائيل؟ هكذا كانت التساؤلات والمناقشات والآراء آنذاك، لا على طريقة الأخ حيان جابر الموهومة. ثم إن حل الدولتين لم يكن مطروحاً حينذاك، بل إن فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة هي التي كانت مطروحة. وشتان ما بينهما. فحلّ الدولتين يعني الاعتراف المتبادل، وهو ما جرى لاحقاً. أما حل الدولة المستقلة فما كان يتضمن الإعتراف بإسرائيل، أو تقديم أي تنازلاتٍ لها. ومهما يكن الأمر، فلا قراءة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين كانت صحيحة، ولا قراءة جبهة الرفض التي دُفنت من دون مراسم في سنة 1979 كانت ثاقبة.
ثانياً: ناجي الخطيب
يقول إن الوطنية الفلسطينية تبلورت بين عام 1952، حين صار ياسر عرفات رئيساً لرابطة طلبة فلسطين في جامعة القاهرة، و1/10/1959 مع صدور العدد الأول من مجلة
يكتب ناجي الخطيب "إن من شأن شعار النضال من أجل فلسطين دولة علمانية واحدة أن يعيد القضية إلى مربعها الأول". وهذا رأيٌ مستغرب، فمن يريد أن يعيد قضية فلسطين إلى مربعها الأول؟ إن هذا الكلام المجاني، أو قليل التكلفة، يَنثُر هباء خبرات ثلاثين سنة على الأقل في ما لو اكتفينا بالمرحلة ما بين 1965 حتى 1993. ولا أدري هل أسهم الأخ ناجي الخطيب في تلك الخبرات طوال تلك السنين، كي يرميها هكذا؟ هذا دلع سياسي ودلال ثقافي. وكيف ينسى أن الفصائل الفلسطينية كلها ناضلت تحت شعار "الدولة الديمقراطية" (العلمانية بحسب بعضهم)، وناضل كثيرون في سبيل دولة اشتراكية، حيث الجميع، فلسطينيون ويهود، متساوون ويعيشون في دولةٍ تناوئ القهر الطبقي والاضطهاد القومي. وكان لهؤلاء علاقات وثقى بمنظمة ماتسبن (المنظمة الاشتراكية الاسرائيلية) التي دعت إلى تحطيم الصهيونية وإسرائيل وتأسيس دولة اشتراكية شرق أوسطية. وكنا مغرمين بهذه الأفكار، لنكتشف في ما بعد أن "ماتسبن" ومشتقاتها الفكرية والتنظيمية ظلت هامشية جداً جداً في إسرائيل وأوروبا التي هاجر إليها عكيفا أور وموشي ماخوفر وغيرهما. وحتى في النطاق الفلسطيني، ظلت هذه الأفكار محدودة الأثر، لكنها عالية الصوت كالولد المهروق المشاغب.
يتهمني ناجي الخطيب، في أكثر من موضع في مقالته، بأنني أرفض شعار الدولة العلمانية في فلسطين التاريخية. وهذا اتهام غريب، لا يقوم على أي دليل ألبتة. وفي مقالتي موضع النقاش، كتبت إن شعار الدولة الديمقراطية الآن (انتبه إلى كلمة الآن) غير واقعي. وهذا الحكم مجرّد استنتاج، أو قراءة تاريخية للأحوال الفلسطينية الراهنة، وليس موقفاً. لا تقول مقالتي ذلك على الإطلاق. ولو رجع الكاتب إلى بعض كتاباتي ومؤلفاتي، لوجد أنني متطرّف في عَلمانيتي، وكثيراً ما رددت إنني لا أرضى بفصل الدين عن الدولة، بل بإخضاع الدين للدولة. وأنا ممن ساهموا في مناقشة مشروع الدستور الفلسطيني (المرحوم)، وإبداء الرأي في نصوصه، وكانت آرائي في هذا الشأن تثير حنق المعادين للعلمانية من الإسلاميين والقوميين المتأسلمين. ولعل من الملائم أن أنبهك إلى مناقشتي الدستور الفلسطيني المنشورة في صحيفة السفير، اللبنانية (7/2/2003)، وفيها أرفض المادة التي تنص على أن الاسلام هو الدين الرسمي للدولة، وأن مبادئ الشريعة الاسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع. وكل ما كتبته أن هذا شعار الدولة الديمقراطية الذي رفعته حركة فتح، قبل أي فصيل أو حزب أو فرد، اصطدم بالواقع. والواقع هو الذي أرغم "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية ومعظم المنظمات المقاتلة على تعديل توقعاتها، من الدولة الديمقراطية (أي برنامج التحرير الكامل في سنة 1965) إلى القبول بفكرة الدولة المستقلة (بعد حرب 1973 وخطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة)، ثم خطة فاس في سنة 1983 (بعد معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية والخروج من لبنان في سنة 1982)، فإلى برنامج الاستقلال وحل الدولتين في سنة 1988 (بعد الانتفاضة الأولى)، ثم إلى برنامج أوسلو والتفاوض المباشر في سنة 1993 فصاعداً (بعد هزيمة العراق)، فإلى برنامج التدويل في سنة 2012 (بعد فشل أوسلو نهائياً). وفي معمان هذه المسيرة الشائكة، فشلت استراتيجية "إما كل فلسطين أو لا شيء"، وفشلت أيضاً استراتيجية "أي شيء أفضل من لا شيء".
إذاً، سأصفح عن اتهامه المزعوم لي بأنني أرفض فكرة الدولة الديمقراطية العلمانية في
ليعلم الكاتب، ومن الضروري أن يعلم، أنه يرد على كاتب موشومٍ بثلاثة جروح: واحدة طفيفة من مدفعية إسرائيل تركت ندباً في قدمه، وندبتان في وجهه، وبعض الشظايا في ساعده الأيسر من عملاء اسرائيل في أثناء حرب المخيمات. وبعد ذلك، ثمة من يتبجّح بأنه حفر في أغوار نفسي، فوجد لدي "استيعاباً داخلياً عميقاً للسردية الصهيونية". ما شاء الله، وحسبي الله. ولا يكتفي الكاتب بذلك، بل يقول "إن الدولة ثنائية القومية عزيزة على قلبي"، وهذا تزوير آخر وتدليس على القارئ. فأنا كتبت ما يلي: "إن فكرة الدولة ثنائية القومية لم يقيّض لها أن تحفر أثلاماً عميقة في الوعيين الفلسطيني واليهودي، وبقيت مجرد أفكار متوارية أو هاربة تلوح في بطون الكتب كباقي الوشم في ظاهر اليد. لكن، مع انحسار حل الدولتين، واستحالة حل الدولة الواحدة، استيقظت الفكرة مجدداً، وراحت تختلج كأحد التمارين الذهنية". وكتبت أيضاً إن الدولة ثنائية القومية، بأشكالها الافتراضية المختلفة، تبدو من المحال تحققها، أي أنها افتراضيةٌ بجميع صيغها، ومن المحال تحققها في الواقع. فكيف تكون عزيزةً على قلبي؟ ويبدو أن الكاتب لا يجيد القراءة الواعية، فلو أنعم النظر في عنوان مقالتي "واقع الحال والمحال" لاكتشف ضحالة ما كتب. لكن، ما العمل مع مَن له عينان ولا يرى، ومع مَن له أذنان ولا يسمع.
لم يكتفِ الأخ ناجي الخطيب بقراءته التي تطنطن بالإفك، بل زوّر كلامي، وادعى على لساني أن الدولة ثنائية القومية تحافظ على الحقوق القومية للطرفين. والحقيقة أنني لم أكتب هذا الكلام ألبتة. أشرت، في مقالتي التي يمكن أن يراجعها مَن أراد، إلى "ان الاعتراف بالدولة ثنائية القومية يمثل اعترافاً فلسطينياً واضحاً وصريحاً بالجانب القومي للوجود اليهودي في فلسطين". وجاء هذا الكلام في سياق التنبيه ليس إلا، وفي سياق شرح مضمون الكلام، أي "أن اليهود يرفضون الدولة الواحدة لأنها ستقضي على الطابع اليهودي لدولة إسرائيل جرّاء التزايد السكاني الفلسطيني، بينما الدولة ثنائية القومية تُبقي الحقوق القومية للطرفين ثابتةً، حتى لو تغير الميزان الديموغرافي تنفيذاً للتعاقد التاريخي المتخيل بين الفلسطينيين والإسرائيليين". ومن مساخر الأيام أن يقرأ أحدهم مقالتي، ثم يفسّر فقرة منها أنها تعني الاعتراف بحقوق قومية للإسرائيليين في فلسطين، مع أنني كتبت في السطر الأول أن إسرائيل دولة كولونيالية ويهودية، ولا يكون الموقف التاريخي والمبدئي من الكولونيالية إلا بمواجهتها والتصدّي لها، وصولاً إلى تحطيمها، وهذا أمر بدهي لا يحتاج إلى تكرار، غير أن ما كتبه الخطيب ألجأني إلى التكرار.
خلط بلا تبصّر
يخلط الكاتبان الدولة الواحدة بالدولة الديمقراطية العَلمانية بلا تبصر. فالدولة الواحدة التي تنادى إليها السيدان ن. الخطيب و ح. جابر هي غير الدولة الديمقراطية التي أطلقتها حركة فتح، والعزيزة على قلبي حقاً. والدولة الواحدة ناقشها وكتب عنها كثيرون، وكان آخرهم، على الراجح، خالد الحسن (أبو السعيد) الذي أراد أن يجد حلاً لمشكلتين، تمنعان التوصل إلى حل سياسي فلسطيني – اسرائيلي، هما: اللاجئون الذين تتشبث إسرائيل برفض عودتهم إلى ديارهم الأصلية، والمستوطنات التي تتشبث منظمة التحرير الفلسطينية بضرورة تفكيكها في أي حل. وفي الدولة الواحدة لدى خالد الحسن تصبح المستوطنات شرعية، وتبقى في مكانها، استناداً إلى أن من حق المواطنين، يهوداً أكانوا أم عرباً فلسطينيين، أن يسكنوا في أي مكانٍ من وطنهم الواحد المشترك. وفي المقابل، يستطيع اللاجئون أن يعودوا إلى فلسطين، ويسكنوا في أي مكان متاح. وهذه الدولة، بحسب خالد الحسن، تحل المشكلتين مرة واحدة. والواضح أن فكرة الدولة الواحدة الآنفة هي نتاج للتأمل السلبي الذي لا يقيم أي اعتبار للحقائق السياسية وللوقائع المتغيرة، وكل ما يريده هؤلاء الذهنيون هو إراحة الضمير من التلبس بفرية الحل السياسي مع إسرائيل.
أما حل الدولتين، وهو الأكثر واقعيةً يوم وُلدت تلك الفكرة، فقد صار اليوم غير واقعي، جرّاء
هل يعرف ن. الخطيب و ح. جابر ما هو قانون القصور الذاتي؟ إذاً، هاكم هو: إذا قذفت حجراً نحو الأعلى فسيندفع بقوة في البداية، ثم تبدأ سرعته بالتلاشي، جرّاء قوة الجاذبية وعوامل الكبح كالهواء، إلى أن يصل إلى الذروة، ثم يبدأ بالسقوط فيصل إلى سرعته القصوى قبيل الارتطام بالأرض. وفي فلسطين، تعتبر المقاومة المسلحة أحد عوامل كبح القوة الكولونيالية الإحلالية الإسرائيلية. وحل الدولتين الذي ترفضه إسرائيل بقوة وإصرار وعناد هو الذي يشقّق الكيان الإسرائيلي، ويجعل دواليب هذا الكيان تدور إلى الخلف، تماماً مثل الحجر الذي وصل إلى الذروة ثم بدأ يتهاوى. وإسرائيل كما هو معروف، وخلافاً للذين ما برحوا يلوكون الكلام على التوسعية الإسرائيلية، قد رسمت حدودها مع مصر ومع لبنان (الخط الأزرق) ومع الأردن، وإلى حد ما مع سورية عند خط الحدود الدولية، لا كما يريد السوريون عند خط وقف إطلاق النار في سنة 1949، أي خط الهدنة. لكن إسرائيل لن ترسم حدودها مع فلسطين في الضفة الغربية، بعدما غادرت قطاع غزة في سنة 2005، لأنه يقع خارج نطاقها، وكان يكلفها أعباء أمنية كثيرة.
مقتل إسرائيل يتمثل في المواجهة المباشرة في الضفة الغربية. هناك المنازلة الكبرى، حيث إسرائيل غير قادرة على ضم الضفة الغربية بسكانها، فتصبح دولة ثنائية القومية، وغير قادرة على طرد الفلسطينيين لتبقى دولة قومية لليهود بحسب مصطلحاتها. وحل الدولتين، لو أمكن تحقيقه رغماً عن الإسرائيليين، سيكون بداية التشقق في هذه الدولة الكولونيالية، وستصبح حقبة ما بعد قيام الدولة الفلسطينية مطابقةً لمرحلة تهاوي الحجر من الأعلى، وهذا المثال على سبيل التشبيه ليس أكثر. وإلى أن نصل يوماً إلى هذه الحقبة، المتخيلة والصعبة والبعيدة في الزمن، لا بد من ابتداع أفكار واقعية وثورية معاً، لا التسلي بالألاعيب الذهنية، وهي كثيرة. أما اليوم فمن الصعب، بحسب ما أرى، تحقيق إنجاز تاريخي للشعب الفلسطيني، وربما كان الانتظار الإيجابي ملاذاً وليس حلاً، فالانتظار السلبي كمن يقف في محطة القطار مودعاً وملوحاً بالمناديل. أما الانتظار الإيجابي فهو كمن يجهز حقائبه كي يصعد إلى القطار. وتجهيز الحقائب يعني تجهيز الشعب لابتداع مقاومته استناداً إلى الواقع، وبناء المؤسّسات السياسية التي تجعل الشعب يتشبث بأرضه، والتي تدافع عنه، وعن مصالحه، في خضم النضال طويل الأمد. طويل الأمد؟ نعم. لأن الصراع في فلسطين حالة خاصة في تاريخ الصراعات العالمية، فهو لا يشبه الصراع الهندي – الباكستاني، أو النزاع العراقي – الإيراني (سابقاً)، أو حتى حركات التحرّر الوطنية التي انتصرت كلها عدا فلسطين. ففي حالة حركات التحرّر الوطني تنتصر الثورة حين يصبح الاحتلال مكلفاً للمحتل وغير مجدٍ. وفي حالة النزاعات الإقليمية، ينتهي الأمر بانتصار أحد الطرفين أو بالتوصل إلى اتفاق سلام. أما في فلسطين فالصراع هناك بشري وجغرافي وسياسي وتاريخي وحضاري وقومي. إنه صراع بين مجموعتين بشريتين، تستند كل واحدة منهما إلى سرديتها الخاصة Narrative وإلى عناصرها الدينية والتاريخية والثقافية. وحتى لو كانت سردية إحدى المجموعتين زائفة (أقصد السردية الإسرائيلية) فإنها، جرّاء طابعها الكولونيالي الإحلالي، لا تعدم مَن يشد أزرها، ويطيل بقاءها، ويقوي مناعتها وتفوقها؛ إنه صراع ممتد في الزمن. وفي إطار هذه المقاربة، لا في نطاق التمارين الذهنية، تصبح السياسة والمسؤولية السياسية أمرا، والتلهي بالألعاب النظرية البعيدة عن الواقع أمرا آخر.
حبذا لو بحث مَن له هِمّة ومعرفة وتجربة في ما يلي: في عصر الحرب الباردة كان الكفاح المسلح الوسيلة الفضلى لتحرير فلسطين. ثم صار التفاوض مع جرعاتٍ من العمل المسلح الوسيلة المفضلة في حقبة ما بعد الحرب الباردة. ومع فشل المفاوضات، صار التدويل ملاذاً لمنظمة التحرير الفلسطينية. والسؤال هو: ما الإستراتيجية الملائمة اليوم لقضية فلسطين بعد تلك الدروس الصعبة؟