09 سبتمبر 2024
تعقيب على صقر أبو فخر.. الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة
يدفع مقال "الدولة ثنائية القومية في فلسطين.. واقع الحال والمحال" لكاتبه صقر أبو فخر، والمنشور في جريدة "العربي الجديد" بتاريخ 22/10/2018، إلى الحديث عن نقاط تجعلني، مع آخرين، نطالب بتبنّي مشروع الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة على كامل الأراضي الفلسطينية برنامجاً نضالياً فلسطينياً، فعلى الرغم من تطرق المقال المذكور لموضوع آخر، وإن كان ذا صلةٍ يتعلق بطرح الدولة ثنائية القومية، والذي أتفق مع غالبية النقاط التي ذكرها المقال بخصوصها، غير أن مرور المقال، وإن على عجالة، إلى نواحٍ الأخرى، حرّضني على محاولة تقديم إجابات وافية وشاملة عن مشروع فلسطين الديمقراطية العلمانية الواحدة.
عن الديمقراطية والعلمانية
يكتب صقر أبو فخر أن حركة فتح كانت سباقة في مجابهة عنصرية إسرائيل ويهوديتها "أول تحدٍ فكري لفكرة يهودية دولة إسرائيل جاء من حركة فتح في سنة 1968، حين عرضت صيغة (الدولة الديمقراطية) في فلسطين التي يعيش فيها العرب واليهود مواطنين متساوين". وهذه مبالغة لا حاجة لها، فما الفائدة المرجوّة والمستفادة من الدخول في سجالاتٍ تاريخية لا طائل منها، خصوصا أن فكر "فتح" وبرنامجها شهد تغيراتٍ وقفزاتٍ كثيرة، أوصلتنا إلى الاعتراف بإسرائيل وعنصريتها. كما توضح غالبية الدراسات والأبحاث التاريخية أن جذر هذه الفكرة يعود إلى عشرينيات القرن المنصرم "وربما أقدم"، عبر مجموعاتٍ ثقافيةٍ وسياسيةٍ يهوديةٍ وأحياناً عربية. كما يثبت التاريخ الفلسطيني الحديث، والموثق، صعوبة رد بدايات الفكرة إلى أي من الفصائل الفلسطينية، إذ نجد في بعض المراجع تبنّي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لها منذ نوفمبر/ تشرين الثاني1967. لذا وبعيداً عن هذه السجالات التاريخية، من الأجدى البحث عن أسباب النكوص السياسي الفلسطيني، الذي تحول من حركة تقدّمية، تهدف إلى بناء دولة ديمقراطية تحتضن جميع أبنائها وسكانها، من دون أي تمييز عرقي أو إثني أو طائفي، إلى البرنامج المرحلي الذي يعترف بحق إسرائيل في إقامة دولتها العتيدة على الجزء الأكبر من الأراضي الفلسطينية التاريخية.
ومن ثم، يحاول صقر أبو فخر التقليل من طرح الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية الواحدة المتصاعد اليوم "ولاحقاً، راح كُتّاب وصحافيون يضيفون كلمة (العلمانية)، لتصبح (الدولة الديمقراطية العلمانية)، وهي من مزايدات الكلام، وليست من أصل العبارة"، فهل حقا، إضافة العلمانية فعل تمايزي فقط أم ينطلق من ضروراتٍ سياسيةٍ وقانونية ذات مغزى واضح. الأمر الذي يتطلب جدلا وسجالا كثيرين حول مفهوم الديمقراطية وتاريخ الممارسة الديمقراطية، التي مرت بمراحل عديدة تختلف من منطقة إلى منطقة، إذا ما اعتبرنا أنها تتمثل عبر العملية الانتخابية فقط، وهو ما يسبّب خلطا سياسيا كبيرا في المفاهيم والتوصيفات، التي دفعت بعضهم إلى اعتبار لبنان نموذجا ديمقراطيا في منطقتنا، وإنْ كان طائفيا، وكذلك الأمر في ما يخص عراق ما بعد الاحتلال الأميركي. لذا وعبر التدقيق في الوضع العربي، وفي الآليات والأسس الطائفية التي ينطلق منها المجتمع الدولي في التعامل مع مشكلات المنطقة العربية، نستطيع إدراك مغزى العلمانية الذي يؤكد ويشدد على أهمية بناء دولة القانون والمواطنة المتساوية من دون أي تمايزات عرقية أو إثنية أو طائفية.
حيث يعبر برنامج فلسطين دولة علمانية ديمقراطية واحدة بوضوح عن دور الدولة في حماية
الحقوق الثقافية والدينية الجماعية والفردية لجميع مواطنيها، بما فيهم أتباع الديانة اليهودية، بالتوازي مع رفض رد الحقوق الدينية والثقافية اليهودية إلى اعتباراتٍ قوميةٍ متمايزةٍ بحد ذاتها، كما يذهب أصحاب فكرة الدولة ثنائية القومية، أو حتى اعتبارهم مجموعات بشرية ذات خصوصية وتمايز سياسي، ما قد ينعكس قانونيا وسياسيا عبر قوانين وإجراءات خاصة، من أجل حمايتهم وضمان تمثيلهم السياسي الخاص. إذ تعبر العلمانية عن مواطنة كاملة ومتساوية في الحقوق والواجبات، من دون إنكار بعض التمايزات الثقافية التي لا تتعارض حمايتها مع أسس الدولة الديمقراطية العلمانية.
عن واقعية الحل المقترح
قلما نجد فكرا أو طرحا سياسيا يحظى بإجماع شعبي وسياسي وثقافي كامل حوله، وهو ما ينطبق على برنامج فلسطين دولةً علمانيةً ديمقراطيةً واحدة، بل يشكل الخلاف في وجهات النظر والتباين في التحليل والاستنتاجات أحد أهم عوامل تطوير الفكر وأسلوب عرضه أو طرحه، الأمر الذي دفع صاحب هذه السطور إلى الاسترشاد بمقال صقر أبو فخر، من أجل توضيح مدى واقعية الطرح الذي أتبناه أو استحالته. مثل "إذا كان حل الدولة الواحدة الديمقراطية مستحيلاً، وحل الدولتين (وهو أكثر واقعية) لم يصل إلى خواتيمه، بل سقط في الطريق....". إذاً نحن أمام حل مستحيل التحقق، وآخر واقعي لكنه فشل أو سقط، من دون أن يوضح الكاتب كيف سقط؟ أي بفعل الواقع أم من سوء حظ الفلسطينيين!
يبدو أن إشكالية هذا الاستنتاج تنطلق من بعض اللبس في فهم الواقع؛ والافتراض الخاطئ عن مقومات الحل الواقعي، وهو ما ينقلنا إلى البحث في أسباب فشل حل الدولتين الذي تنبأ فلسطينيون كثيرون بفشله منذ بداياته. مع الأخذ بالاعتبار تحميل بعضهم مسؤولية فشل حل الدولتين حالياً إلى الأسلوب التفاوضي والاستسلامي الذي تنتهجه منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بالسلطة الوطنية. حيث اعتمدت القيادة الفلسطينية المنخرطة في عملية التسوية على قرارات دولية، وتصريحات رسمية تدعم حل الدولتين وتؤيده، من دون الاكتراث بدور الحركة الصهيونية وطبيعتها، وطبيعة المصالح الدولية المرتبطة بالاحتلال، وخصوصا المصالح الأميركية، على الرغم من كم الدلائل والمؤشرات التي تثبتها من دون شك.
تعيد هذه الدلائل التأكيد يوميا على دور الاحتلال في إدامة تخلف المنطقة العربية وتبعيتها، وهو ما يتطلب الحفاظ على حالة الصراع إلى أمد غير معلوم النهاية، بمعنى أن إسرائيل تتحمل مسؤولية ضرب أي محاولة نهضوية بأسلوب مباشر، عبر تدخل عسكري فوري إن اقتضت الحاجة، أو بأسلوب غير مباشر عبر الإبقاء على حالة التوتر والصراع والتصادم قائمة، من
خلال تصريحات قادتها وممارساتها الاستفزازية الدائمة، والتي لا تقتصر على استفزاز مشاعر العداء الفلسطيني، بل تتعدّاه إلى استفزاز مشاعر العرب عموماً. وهو ما يفسر إصرار الاحتلال على استثارة مشاعر العداء الشعبية، حتى مع شعوب الدول التي أبرمت معها اتفاقات سلام في وقت مضى، من الأردن إلى مصر مروراً بالفلسطينيين المقيمين في المناطق المحسوبة على السلطة الوطنية، فنجدها خلف جميع التسريبات الصحافية التي تتحدث عن انتهاكها سيادة الدول العربية المحيطة بها، عسكريا وسياسيا، وهو ما يفسّر تسريب محاضر اللقاءات الرسمية والضغوط الدولية على الدول العربية، من أجل تنفيذ المطالب الإسرائيلية، مثل هدم الأنفاق التي تصل غزة بسيناء، والمخطّطات عن منح الفلسطينيين دولة على جزء من الأراضي المصرية، وأخبار مبيعات الغاز المصري لها، ومخططات الاحتلال لسرقة المياه الأردنية، وانتهاك سيادة الدول العربية عبر بعثة إسرائيل الدبلوماسية التي تحظى عادة بحماية حكومة الاحتلال العلنية والكاملة، مثل مسؤولية السفارة في عمان عن قتل مواطنين أردنيين في يوليو/ تموز 2017، إلى جميع أشكال الانتهاكات الممارسة بحق السلطة الوطنية والمناطق التابعة لها، وعلى مرأى العالم ومسمعه.
إذاً لا تكترث إسرائيل بمشاعر العرب إطلاقا، لذا لا تولي أي أهمية من أجل تدارك مشاعر العداء وإحداث فرق حقيقي في نظرة الشعوب العربية لها، بل على العكس نجدها شديدة الحرص على إرساء صورتها القسرية والإجبارية على شعوب المنطقة وحكوماتها، وكأنها سيد المنطقة الذي يجب إطاعته دائما وأبداً، مهما كانت شروطه وقيوده صعبةً وقاسيةً ومذلة. وهي صورة تتطابق بشكل كامل مع توجهات المجتمع الدولي الذي لا يجد غضاضةً بدعمه المطلق والواضح لها ولهذا التوجه عموما، والذي لا يقتصر فقط على الدعم الأميركي الحالي ولا الماضي، ليتعدّاه إلى دعم روسي وفرنسي وبريطاني وصيني، قد يبدو للوهلة الأولى أقل سوءا من الدعم الأميركي؛ إلا أن التدقيق يكشف مدى خطورته وقوته. فمهما عدنا بذاكرتنا إلى الخلف، لن نجد أي ممسك قانوني يدين الاحتلال، ويلوح بفرض عقوبات سياسية واقتصادية وقضائية على قياداته، أو عليه إجمالاً، وهو ما يتناقض مع مجمل التوجهات الدولية إزاء غالبية القضايا الإشكالية الدولية؛ مثل الملفات: الروسي، والكوري الشمالي، والإيراني، والسعودي، والتركي، واليوناني، وملفات أخرى. وعليه، لا يمكننا التعويل على تصريحات جوفاء يطلقها بعض قادة هذه الدول بين الفينة والأخرى، خصوصا إذا ما دققنا بها ولاحظنا أنها تنطلق من إدانتها للاحتلال لإعاقته "حل الدولتين"، بينما لا تتخذ أي إجراءٍ يمنع هذه العرقلة.
إذاً، ووفقاً لقراءة واقع الاحتلال، وطبيعته وتوجهه، وداعميه الدوليين، أي الدول المتحكّمة في
مجمل الوضع العالمي، سواء عبر الأمم المتحدة أم عبر قوتهم وسطوتهم العسكرية والاقتصادية، نلحظ طوباوية حل الدولتين، واستحالة تحقيقه اليوم وغداً، بل ومستقبلاً، حتى زوال حاجة المجتمع الدولي لإسرائيل، ما ينقلنا إلى مرحلة جديدة بموازين دولية جديدة في حينه. وعليه، تضحي الوسيلة الوحيدة القادرة على إجبار إسرائيل ورعاتها الدوليين على تنفيذ حل الدولتين فورا، أو السعي إلى تحقيقه بأسرع وقت ممكن، تتمثل في تفوقنا إعلاميا وعسكريا عليهم، وهو ما يعيدنا إلى السؤال الذي طرح منذ إقرار البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، المعلن في العام 1974: إذا كنا قادرين على إرغام الاحتلال وداعميه على حل الدولتين، فلمَ لا نرغمه على حل الدولة الواحدة؟ وخصوصا إذا ما كانت دولة ديمقراطية وعلمانية، تكفل تساوي حقوق جميع مواطنيها؟
طبعا لن نجد أي جواب منطقي وواقعي للسؤال، إذ لا يوجد معنى سياسي أو فكري لفرض تصوراتٍ مسبقةٍ عن نتائج الصراع العسكري مع الاحتلال، مثل الافتراضات التي قام عليها البرنامج المرحلي. وكذلك لا يمكن الاعتماد على حجم التأييد الشعبي العالمي لحل الدولتين فقط، وتناسي أسباب هذا التأييد وشروطه، فقد نجح الإعلام الغربي في دفع شعوب العالم نحو تأييد حل الدولتين، على اعتباره حلا إنسانيا يناقض الرواية الرائجة إن العرب يسعون إلى إلقاء اليهود في البحر. وبالتالي، قامت هذه الرواية على التعاطف مع إسرائيل، وتأييد حقها في الدفاع عن ذاتها ووجودها حاضراً ومستقبلاَ، أي لا بد من ضمان تفوقها على العرب مفرّقين ومجتمعين، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وتقنيا.
لذا، يثير العمل العسكري الفلسطيني، أو العربي، مخاوف شعوب العالم، ويعيد رواية إلقاء اليهود في البحر إلى أذهانهم، ما يبدد مجمل التضامن الدولي مع قضيتنا العادلة، في الوقت الذي يعمل الإعلام الدولي على تهميش جميع أخبار النضالات الفلسطينية السلمية الجارية داخل فلسطين وخارجها. وهو ما يعيدنا إلى أحد أهم جوانب خلل العمل النضالي الفلسطيني، والعربي إجمالاً، والذي يتمثل بالعجز عن تأسيس خطاب فلسطيني قوي وحضاري وعادل يكشف جميع الممارسات الإجرامية الإسرائيلية اليومية، الناجمة عن حماية إسرائيل. خطاب قادر على مجابهة خطاب إسرائيل وداعميها، ويكشف كذبهم وخداعهم الطويل والمستمر. وقد ساهم هذا الغياب في تحويل وعد بلفور وقرار التقسيم إلى وثيقة تاريخية، ينطلق منها داعمو إسرائيل، وداعمو الحق الفلسطيني على حد سواء، وإن اختلفوا قليلا على حجم حق الفلسطينيين وحق الإسرائيليين وطبيعتهما.
بين الحاضر والمستقبل
يشير الظرف الذاتي والخارجي إلى عجز فلسطيني واضح، يحول دون تحويل أي برنامج تحرّري إلى واقع ملموس، مهما تهاونّا بحقوقنا واستسلمنا لرغبات الاحتلال وداعميه، التي لن تتوقف عند حد معين؛ بل ستتواصل حلقات طلبات الاحتلال يوما بعد يوم، ما دمنا عاجزين عن صدّها ومواجهتها. الأمر الذي يدفعنا إلى البحث عن برنامج مستقبلي، يلبي جميع أهدافنا وآمالنا ويضمن استعادتنا لجميع حقوقنا المستلبة، من دون أن نتحوّل من ضحايا الإجرام الصهيوني والدولي إلى شركاء في الإجرام، باختلاف الضحايا، كما لا بد أن يمكّننا برنامج التحرّر من امتلاك الأدوات السياسية والثقافية القادرة على دحض أكوام الأكاذيب التي ساقها الاحتلال وداعموه منذ بداية القرن المنصرم، والتي لا بد أن تستمر مستقبلا إلى أمد غير منظور.
إذاً من السذاجة اليوم الادعاء بقابلية أي برنامج على التحقق تلقائيا، وهو ما أثبتته الأيام والسنوات السابقة، حتى بات حقيقة لا يمكن إنكارها أو طمسها بعبارات مبهمة من قبيل "سقط في الطريق"، وكأن سقوطه مفاجئ وصادم وغير متوقع بتاتاً، من دون أي مؤشراتٍ ودلالاتٍ تسبقه وتتنبأ بذلك. بينما نعتقد أن النقاشات والتوافقات والخلافات حول برنامج التحرّر اليوم هي نظرة واعية نحو مستقبلٍ، قد يكون أقرب مما نعتقد، مستقبل لا يمكن التنبؤ به من دون تلمس قدرتنا على تصويب البوصلة السياسية والتنظيمية والنضالية عموماً، والذي يتطلب بداية النجاح في اختيار برنامجٍ يمكّننا في المرحلة التي تلي عملية التصويب من استعادة جميع حقوقنا المهدورة والمستلبة، ويضع قدما ثابتة في طريق تحقيق أحلامنا وأهدافنا عن شكل الدولة المنشودة ومكانتها وطبيعتها.
وعليه، يتحول السؤال المركزي اليوم من البحث عن أكثر البرامج واقعية إلى أي البرامج يدفع
النضال الفلسطيني نحو استعادة جميع الحقوق المستلبة، ويمكننا لاحقا من تأسيس الدولة التي تحقق آمالنا وأهدافنا، والذي تتبعه مجموعة من الأسئلة والأبحاث التي تكثف جهودها من أجل تحديد المتطلبات النضالية والتنظيمية والسياسية والثقافية، الضرورية من أجل تحويل هذا البرنامج إلى واقع مستقبلا. لذا لا بد أن يجيب البرنامج بدايةً على معضلة الأرض الفلسطينية التي شوهها حل الدولتين، وحوّلها من حقيقية مثبتة وبديهية إلى مسألة جدلية قد تقبل الخلاف والتباين في وجهات النظر، وهو ما نحتاج تجاوزه كلياً عبر استعادة خطاب فلسطين كاملة من دون أي إنقاص أو تحوير، خصوصا بعد أن دحض الواقع مجمل الأصوات التي طالبت بتبنّي حل الدولتين، والتنازل عن جزء من الأرض الفلسطينية، لواقعية هذا التوجه!
ثم نتساءل عن الطرف الذي يحول بيننا وبين أراضينا، اليهود، أم الصهيونية، أم المجتمع الدولي. ونستطيع الجزم بأن الصهيونية، باعتبارها حركة عنصرية استعمارية متحالفة مع القوى الإمبريالية، تمثل القوى المباشرة وغير المباشرة التي تعيق مسار استعادة حقوقنا المستلبة. وبالتالي، تبرز المعضلة اليهودية التي تعبر عن تناقضين. يتمثل الأول في استناد مجمل المشروع الصهيوني على قاعدة جماهيرية ذات توجه ديني واحد، هو اليهودية. ويتمثل الآخر في أن القوى الإمبريالية هي مركز القوة الحقيقي الذي مكّن الصهيونية من الصمود. بمعنى أن الدعم العالمي، غير الديني، المالي والعسكري والتقني والعلمي الدائم، والحماية المباشرة العسكرية والقانونية والإعلامية عندما تقتضي الضرورة، هو ما حوّل الصهيونية إلى حركةٍ تستقطب مئات وآلاف من أتباع الديانة اليهودية الذين تحولوا، بفعل هذا الدعم والدعاية، إلى أداة الصهيونية المباشرة التي تقتل وتنهب وتمارس أبشع الجرائم بحق الفلسطينيين وشعوب المنطقة قاطبةً.
أي أن اليهود المنخرطين في المشروع الصهيوني أحجار يتم التلاعب بهم وبمستقبلهم، وإن ما يسمونها انتصاراتٍ تاريخية، ما هي سوى لعبة دولية قذرة. طبعا، لا يعني ذلك تبرئة كل من تورّط في الجرائم المرتكبة داخل فلسطين وخارجها، بل يجب أن يدفعنا ذلك إلى العمل على تقليص أعداد الجموع البشرية التي تمكّنت الصهيونية وحلفاؤها من خداعها، عبر كشف هذه الكذبة، وفتح الباب أمام إمكانية التعايش الإنساني، مهما كانت انتماءاتنا الدينية أو العقائدية، على قاعدة الالتزام الأخلاقي والإنساني الذي لا يمكن أن يُبنى على حساب حق شعب كامل مثل الشعب الفلسطيني. إذاً نحن بحاجةٍ إلى خطابٍ حضاريٍّ وإنساني، يكشف زيف الصورة التي تنشرها الصهيونية عن الفلسطينيين، والعرب إجمالاً، صورة تسعى إلى بناء مجتمع يحتوي جميع التنوعات العقائدية والإثنية والعرقية، تحت ظل قانون يساوي بين جميع مواطنيه في الحقوق والواجبات. فبذلك، نستطيع مجابهة الخطاب العنصري الصهيوني بخطاب حضاري وحقوقي، يكفل حماية حقوق الجميع، بمن فيهم اليهود، كما يفتح الباب واسعا أمام جميع من سوف يشاركنا النضال من أجل القضاء على الصهيونية وإحقاق الحق، ومن جميع المشارب والانتماءات الدينية والفكرية.
لا يمكن الاكتفاء بهذا الخطاب فقط، بل علينا امتلاك رؤية نضالية تنطلق من أهمية تدمير مؤسسات هذا المشروع العنصري والاستعماري، المتمثلة بالحركة الصهيونية، والتي أضحى الاحتلال، أو إسرائيل، تجسيدها العملي على الأرض. وعليه، تقوم الدولة الفلسطينية الواحدة الديمقراطية والعلمانية على أنقاض الصهيونية، في خضم صراع طويل وشائك ومتعدّد الجوانب، ثقافي، اقتصادي، سياسي وعسكري، وفق الرؤية والإمكانات التي تخدم هذا المشروع التحرّري، وبالتعاون مع جميع أحرار العالم، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والإثنية والوطنية، فنحن نخوض صراعا مع الصهيونية التي تجند كثيرين من يهود العالم عبر مجموعة كبيرة من المحفزات والدوافع، اقتصادية وسياسية وأحيانا دينية. وفي المقابل، نحتاج تعرية هذه المنظومة ومجابهتها بالقوة الفاعلة والمنظمة، من دون أي مبالغةٍ في تقدير إمكاناتنا، مهما تمادت استفزازات الاحتلال. وبالتالي، لا بد من إنضاج الظرفين، الذاتي والموضوعي، اللذين يكفلان نجاح العمل العسكري في القضاء على الصهيونية العنصرية والاستعمارية. فالمطلوب من العمليات العسكرية دفع النضال نحو تحقيق غاياته، بعيداً عن الشعارات الإعلامية والسياسية المضللة، التي تجعل من بعض العمليات بمثابة انتصاراتٍ وهمية لتحقيق غايات دعائية، في حين أن الواقع السياسي والعسكري يسير في مسار تكريس الاحتلال، وتقوية مكانته ونفوذه محليا ودوليا. إذاً النضال العسكري ركيزة أساسية وضرورية، من أجل تحقيق البرنامج الذي نصبو إليه، بشرط انطلاقه من القاعدة الأخلاقية والإنسانية والسياسية نفسها، القائمة على تحديد العدو وضرب مراكزه الأمنية والعسكرية بأقل التكاليف والأخطاء الممكنة، والعمل على بناء تحالف شعبي واسع عربي وعالمي، ومن جميع الديانات والأهواء والمشارب، في مواجهة هذا الخطر الذي يتهدّد حياة البشرية جمعاء.
في النهاية، مشروع فلسطين الديمقراطية العلمانية الواحدة هو برنامج عمل مستقبلي، لا يمكن تحويله إلى حقيقة واقعية من دون الانخراط في نضال طويل وشاق، على جميع المستويات الثقافية والسياسية والإعلامية والعسكرية. لكنه البرنامج الوحيد الذي يكفل استعادة جميع حقوقنا المستلبة، ضمن رؤيةٍ حضاريةٍ وإنسانيةٍ، تؤسس لبناء دولة حضارية متطورة، تحتضن جميع أبنائها، وكل من ناضل من أجلها بالكلمة أو بالموقف، وقادر على إرساء حل إنساني لجميع المعضلات التي خلفتها سنوات الاحتلال الطويلة على شعوب المنطقة العربية وسكانها عموماً.
عن الديمقراطية والعلمانية
يكتب صقر أبو فخر أن حركة فتح كانت سباقة في مجابهة عنصرية إسرائيل ويهوديتها "أول تحدٍ فكري لفكرة يهودية دولة إسرائيل جاء من حركة فتح في سنة 1968، حين عرضت صيغة (الدولة الديمقراطية) في فلسطين التي يعيش فيها العرب واليهود مواطنين متساوين". وهذه مبالغة لا حاجة لها، فما الفائدة المرجوّة والمستفادة من الدخول في سجالاتٍ تاريخية لا طائل منها، خصوصا أن فكر "فتح" وبرنامجها شهد تغيراتٍ وقفزاتٍ كثيرة، أوصلتنا إلى الاعتراف بإسرائيل وعنصريتها. كما توضح غالبية الدراسات والأبحاث التاريخية أن جذر هذه الفكرة يعود إلى عشرينيات القرن المنصرم "وربما أقدم"، عبر مجموعاتٍ ثقافيةٍ وسياسيةٍ يهوديةٍ وأحياناً عربية. كما يثبت التاريخ الفلسطيني الحديث، والموثق، صعوبة رد بدايات الفكرة إلى أي من الفصائل الفلسطينية، إذ نجد في بعض المراجع تبنّي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لها منذ نوفمبر/ تشرين الثاني1967. لذا وبعيداً عن هذه السجالات التاريخية، من الأجدى البحث عن أسباب النكوص السياسي الفلسطيني، الذي تحول من حركة تقدّمية، تهدف إلى بناء دولة ديمقراطية تحتضن جميع أبنائها وسكانها، من دون أي تمييز عرقي أو إثني أو طائفي، إلى البرنامج المرحلي الذي يعترف بحق إسرائيل في إقامة دولتها العتيدة على الجزء الأكبر من الأراضي الفلسطينية التاريخية.
ومن ثم، يحاول صقر أبو فخر التقليل من طرح الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية الواحدة المتصاعد اليوم "ولاحقاً، راح كُتّاب وصحافيون يضيفون كلمة (العلمانية)، لتصبح (الدولة الديمقراطية العلمانية)، وهي من مزايدات الكلام، وليست من أصل العبارة"، فهل حقا، إضافة العلمانية فعل تمايزي فقط أم ينطلق من ضروراتٍ سياسيةٍ وقانونية ذات مغزى واضح. الأمر الذي يتطلب جدلا وسجالا كثيرين حول مفهوم الديمقراطية وتاريخ الممارسة الديمقراطية، التي مرت بمراحل عديدة تختلف من منطقة إلى منطقة، إذا ما اعتبرنا أنها تتمثل عبر العملية الانتخابية فقط، وهو ما يسبّب خلطا سياسيا كبيرا في المفاهيم والتوصيفات، التي دفعت بعضهم إلى اعتبار لبنان نموذجا ديمقراطيا في منطقتنا، وإنْ كان طائفيا، وكذلك الأمر في ما يخص عراق ما بعد الاحتلال الأميركي. لذا وعبر التدقيق في الوضع العربي، وفي الآليات والأسس الطائفية التي ينطلق منها المجتمع الدولي في التعامل مع مشكلات المنطقة العربية، نستطيع إدراك مغزى العلمانية الذي يؤكد ويشدد على أهمية بناء دولة القانون والمواطنة المتساوية من دون أي تمايزات عرقية أو إثنية أو طائفية.
حيث يعبر برنامج فلسطين دولة علمانية ديمقراطية واحدة بوضوح عن دور الدولة في حماية
عن واقعية الحل المقترح
قلما نجد فكرا أو طرحا سياسيا يحظى بإجماع شعبي وسياسي وثقافي كامل حوله، وهو ما ينطبق على برنامج فلسطين دولةً علمانيةً ديمقراطيةً واحدة، بل يشكل الخلاف في وجهات النظر والتباين في التحليل والاستنتاجات أحد أهم عوامل تطوير الفكر وأسلوب عرضه أو طرحه، الأمر الذي دفع صاحب هذه السطور إلى الاسترشاد بمقال صقر أبو فخر، من أجل توضيح مدى واقعية الطرح الذي أتبناه أو استحالته. مثل "إذا كان حل الدولة الواحدة الديمقراطية مستحيلاً، وحل الدولتين (وهو أكثر واقعية) لم يصل إلى خواتيمه، بل سقط في الطريق....". إذاً نحن أمام حل مستحيل التحقق، وآخر واقعي لكنه فشل أو سقط، من دون أن يوضح الكاتب كيف سقط؟ أي بفعل الواقع أم من سوء حظ الفلسطينيين!
يبدو أن إشكالية هذا الاستنتاج تنطلق من بعض اللبس في فهم الواقع؛ والافتراض الخاطئ عن مقومات الحل الواقعي، وهو ما ينقلنا إلى البحث في أسباب فشل حل الدولتين الذي تنبأ فلسطينيون كثيرون بفشله منذ بداياته. مع الأخذ بالاعتبار تحميل بعضهم مسؤولية فشل حل الدولتين حالياً إلى الأسلوب التفاوضي والاستسلامي الذي تنتهجه منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بالسلطة الوطنية. حيث اعتمدت القيادة الفلسطينية المنخرطة في عملية التسوية على قرارات دولية، وتصريحات رسمية تدعم حل الدولتين وتؤيده، من دون الاكتراث بدور الحركة الصهيونية وطبيعتها، وطبيعة المصالح الدولية المرتبطة بالاحتلال، وخصوصا المصالح الأميركية، على الرغم من كم الدلائل والمؤشرات التي تثبتها من دون شك.
تعيد هذه الدلائل التأكيد يوميا على دور الاحتلال في إدامة تخلف المنطقة العربية وتبعيتها، وهو ما يتطلب الحفاظ على حالة الصراع إلى أمد غير معلوم النهاية، بمعنى أن إسرائيل تتحمل مسؤولية ضرب أي محاولة نهضوية بأسلوب مباشر، عبر تدخل عسكري فوري إن اقتضت الحاجة، أو بأسلوب غير مباشر عبر الإبقاء على حالة التوتر والصراع والتصادم قائمة، من
إذاً لا تكترث إسرائيل بمشاعر العرب إطلاقا، لذا لا تولي أي أهمية من أجل تدارك مشاعر العداء وإحداث فرق حقيقي في نظرة الشعوب العربية لها، بل على العكس نجدها شديدة الحرص على إرساء صورتها القسرية والإجبارية على شعوب المنطقة وحكوماتها، وكأنها سيد المنطقة الذي يجب إطاعته دائما وأبداً، مهما كانت شروطه وقيوده صعبةً وقاسيةً ومذلة. وهي صورة تتطابق بشكل كامل مع توجهات المجتمع الدولي الذي لا يجد غضاضةً بدعمه المطلق والواضح لها ولهذا التوجه عموما، والذي لا يقتصر فقط على الدعم الأميركي الحالي ولا الماضي، ليتعدّاه إلى دعم روسي وفرنسي وبريطاني وصيني، قد يبدو للوهلة الأولى أقل سوءا من الدعم الأميركي؛ إلا أن التدقيق يكشف مدى خطورته وقوته. فمهما عدنا بذاكرتنا إلى الخلف، لن نجد أي ممسك قانوني يدين الاحتلال، ويلوح بفرض عقوبات سياسية واقتصادية وقضائية على قياداته، أو عليه إجمالاً، وهو ما يتناقض مع مجمل التوجهات الدولية إزاء غالبية القضايا الإشكالية الدولية؛ مثل الملفات: الروسي، والكوري الشمالي، والإيراني، والسعودي، والتركي، واليوناني، وملفات أخرى. وعليه، لا يمكننا التعويل على تصريحات جوفاء يطلقها بعض قادة هذه الدول بين الفينة والأخرى، خصوصا إذا ما دققنا بها ولاحظنا أنها تنطلق من إدانتها للاحتلال لإعاقته "حل الدولتين"، بينما لا تتخذ أي إجراءٍ يمنع هذه العرقلة.
إذاً، ووفقاً لقراءة واقع الاحتلال، وطبيعته وتوجهه، وداعميه الدوليين، أي الدول المتحكّمة في
طبعا لن نجد أي جواب منطقي وواقعي للسؤال، إذ لا يوجد معنى سياسي أو فكري لفرض تصوراتٍ مسبقةٍ عن نتائج الصراع العسكري مع الاحتلال، مثل الافتراضات التي قام عليها البرنامج المرحلي. وكذلك لا يمكن الاعتماد على حجم التأييد الشعبي العالمي لحل الدولتين فقط، وتناسي أسباب هذا التأييد وشروطه، فقد نجح الإعلام الغربي في دفع شعوب العالم نحو تأييد حل الدولتين، على اعتباره حلا إنسانيا يناقض الرواية الرائجة إن العرب يسعون إلى إلقاء اليهود في البحر. وبالتالي، قامت هذه الرواية على التعاطف مع إسرائيل، وتأييد حقها في الدفاع عن ذاتها ووجودها حاضراً ومستقبلاَ، أي لا بد من ضمان تفوقها على العرب مفرّقين ومجتمعين، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وتقنيا.
لذا، يثير العمل العسكري الفلسطيني، أو العربي، مخاوف شعوب العالم، ويعيد رواية إلقاء اليهود في البحر إلى أذهانهم، ما يبدد مجمل التضامن الدولي مع قضيتنا العادلة، في الوقت الذي يعمل الإعلام الدولي على تهميش جميع أخبار النضالات الفلسطينية السلمية الجارية داخل فلسطين وخارجها. وهو ما يعيدنا إلى أحد أهم جوانب خلل العمل النضالي الفلسطيني، والعربي إجمالاً، والذي يتمثل بالعجز عن تأسيس خطاب فلسطيني قوي وحضاري وعادل يكشف جميع الممارسات الإجرامية الإسرائيلية اليومية، الناجمة عن حماية إسرائيل. خطاب قادر على مجابهة خطاب إسرائيل وداعميها، ويكشف كذبهم وخداعهم الطويل والمستمر. وقد ساهم هذا الغياب في تحويل وعد بلفور وقرار التقسيم إلى وثيقة تاريخية، ينطلق منها داعمو إسرائيل، وداعمو الحق الفلسطيني على حد سواء، وإن اختلفوا قليلا على حجم حق الفلسطينيين وحق الإسرائيليين وطبيعتهما.
بين الحاضر والمستقبل
يشير الظرف الذاتي والخارجي إلى عجز فلسطيني واضح، يحول دون تحويل أي برنامج تحرّري إلى واقع ملموس، مهما تهاونّا بحقوقنا واستسلمنا لرغبات الاحتلال وداعميه، التي لن تتوقف عند حد معين؛ بل ستتواصل حلقات طلبات الاحتلال يوما بعد يوم، ما دمنا عاجزين عن صدّها ومواجهتها. الأمر الذي يدفعنا إلى البحث عن برنامج مستقبلي، يلبي جميع أهدافنا وآمالنا ويضمن استعادتنا لجميع حقوقنا المستلبة، من دون أن نتحوّل من ضحايا الإجرام الصهيوني والدولي إلى شركاء في الإجرام، باختلاف الضحايا، كما لا بد أن يمكّننا برنامج التحرّر من امتلاك الأدوات السياسية والثقافية القادرة على دحض أكوام الأكاذيب التي ساقها الاحتلال وداعموه منذ بداية القرن المنصرم، والتي لا بد أن تستمر مستقبلا إلى أمد غير منظور.
إذاً من السذاجة اليوم الادعاء بقابلية أي برنامج على التحقق تلقائيا، وهو ما أثبتته الأيام والسنوات السابقة، حتى بات حقيقة لا يمكن إنكارها أو طمسها بعبارات مبهمة من قبيل "سقط في الطريق"، وكأن سقوطه مفاجئ وصادم وغير متوقع بتاتاً، من دون أي مؤشراتٍ ودلالاتٍ تسبقه وتتنبأ بذلك. بينما نعتقد أن النقاشات والتوافقات والخلافات حول برنامج التحرّر اليوم هي نظرة واعية نحو مستقبلٍ، قد يكون أقرب مما نعتقد، مستقبل لا يمكن التنبؤ به من دون تلمس قدرتنا على تصويب البوصلة السياسية والتنظيمية والنضالية عموماً، والذي يتطلب بداية النجاح في اختيار برنامجٍ يمكّننا في المرحلة التي تلي عملية التصويب من استعادة جميع حقوقنا المهدورة والمستلبة، ويضع قدما ثابتة في طريق تحقيق أحلامنا وأهدافنا عن شكل الدولة المنشودة ومكانتها وطبيعتها.
وعليه، يتحول السؤال المركزي اليوم من البحث عن أكثر البرامج واقعية إلى أي البرامج يدفع
ثم نتساءل عن الطرف الذي يحول بيننا وبين أراضينا، اليهود، أم الصهيونية، أم المجتمع الدولي. ونستطيع الجزم بأن الصهيونية، باعتبارها حركة عنصرية استعمارية متحالفة مع القوى الإمبريالية، تمثل القوى المباشرة وغير المباشرة التي تعيق مسار استعادة حقوقنا المستلبة. وبالتالي، تبرز المعضلة اليهودية التي تعبر عن تناقضين. يتمثل الأول في استناد مجمل المشروع الصهيوني على قاعدة جماهيرية ذات توجه ديني واحد، هو اليهودية. ويتمثل الآخر في أن القوى الإمبريالية هي مركز القوة الحقيقي الذي مكّن الصهيونية من الصمود. بمعنى أن الدعم العالمي، غير الديني، المالي والعسكري والتقني والعلمي الدائم، والحماية المباشرة العسكرية والقانونية والإعلامية عندما تقتضي الضرورة، هو ما حوّل الصهيونية إلى حركةٍ تستقطب مئات وآلاف من أتباع الديانة اليهودية الذين تحولوا، بفعل هذا الدعم والدعاية، إلى أداة الصهيونية المباشرة التي تقتل وتنهب وتمارس أبشع الجرائم بحق الفلسطينيين وشعوب المنطقة قاطبةً.
أي أن اليهود المنخرطين في المشروع الصهيوني أحجار يتم التلاعب بهم وبمستقبلهم، وإن ما يسمونها انتصاراتٍ تاريخية، ما هي سوى لعبة دولية قذرة. طبعا، لا يعني ذلك تبرئة كل من تورّط في الجرائم المرتكبة داخل فلسطين وخارجها، بل يجب أن يدفعنا ذلك إلى العمل على تقليص أعداد الجموع البشرية التي تمكّنت الصهيونية وحلفاؤها من خداعها، عبر كشف هذه الكذبة، وفتح الباب أمام إمكانية التعايش الإنساني، مهما كانت انتماءاتنا الدينية أو العقائدية، على قاعدة الالتزام الأخلاقي والإنساني الذي لا يمكن أن يُبنى على حساب حق شعب كامل مثل الشعب الفلسطيني. إذاً نحن بحاجةٍ إلى خطابٍ حضاريٍّ وإنساني، يكشف زيف الصورة التي تنشرها الصهيونية عن الفلسطينيين، والعرب إجمالاً، صورة تسعى إلى بناء مجتمع يحتوي جميع التنوعات العقائدية والإثنية والعرقية، تحت ظل قانون يساوي بين جميع مواطنيه في الحقوق والواجبات. فبذلك، نستطيع مجابهة الخطاب العنصري الصهيوني بخطاب حضاري وحقوقي، يكفل حماية حقوق الجميع، بمن فيهم اليهود، كما يفتح الباب واسعا أمام جميع من سوف يشاركنا النضال من أجل القضاء على الصهيونية وإحقاق الحق، ومن جميع المشارب والانتماءات الدينية والفكرية.
لا يمكن الاكتفاء بهذا الخطاب فقط، بل علينا امتلاك رؤية نضالية تنطلق من أهمية تدمير مؤسسات هذا المشروع العنصري والاستعماري، المتمثلة بالحركة الصهيونية، والتي أضحى الاحتلال، أو إسرائيل، تجسيدها العملي على الأرض. وعليه، تقوم الدولة الفلسطينية الواحدة الديمقراطية والعلمانية على أنقاض الصهيونية، في خضم صراع طويل وشائك ومتعدّد الجوانب، ثقافي، اقتصادي، سياسي وعسكري، وفق الرؤية والإمكانات التي تخدم هذا المشروع التحرّري، وبالتعاون مع جميع أحرار العالم، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والإثنية والوطنية، فنحن نخوض صراعا مع الصهيونية التي تجند كثيرين من يهود العالم عبر مجموعة كبيرة من المحفزات والدوافع، اقتصادية وسياسية وأحيانا دينية. وفي المقابل، نحتاج تعرية هذه المنظومة ومجابهتها بالقوة الفاعلة والمنظمة، من دون أي مبالغةٍ في تقدير إمكاناتنا، مهما تمادت استفزازات الاحتلال. وبالتالي، لا بد من إنضاج الظرفين، الذاتي والموضوعي، اللذين يكفلان نجاح العمل العسكري في القضاء على الصهيونية العنصرية والاستعمارية. فالمطلوب من العمليات العسكرية دفع النضال نحو تحقيق غاياته، بعيداً عن الشعارات الإعلامية والسياسية المضللة، التي تجعل من بعض العمليات بمثابة انتصاراتٍ وهمية لتحقيق غايات دعائية، في حين أن الواقع السياسي والعسكري يسير في مسار تكريس الاحتلال، وتقوية مكانته ونفوذه محليا ودوليا. إذاً النضال العسكري ركيزة أساسية وضرورية، من أجل تحقيق البرنامج الذي نصبو إليه، بشرط انطلاقه من القاعدة الأخلاقية والإنسانية والسياسية نفسها، القائمة على تحديد العدو وضرب مراكزه الأمنية والعسكرية بأقل التكاليف والأخطاء الممكنة، والعمل على بناء تحالف شعبي واسع عربي وعالمي، ومن جميع الديانات والأهواء والمشارب، في مواجهة هذا الخطر الذي يتهدّد حياة البشرية جمعاء.
في النهاية، مشروع فلسطين الديمقراطية العلمانية الواحدة هو برنامج عمل مستقبلي، لا يمكن تحويله إلى حقيقة واقعية من دون الانخراط في نضال طويل وشاق، على جميع المستويات الثقافية والسياسية والإعلامية والعسكرية. لكنه البرنامج الوحيد الذي يكفل استعادة جميع حقوقنا المستلبة، ضمن رؤيةٍ حضاريةٍ وإنسانيةٍ، تؤسس لبناء دولة حضارية متطورة، تحتضن جميع أبنائها، وكل من ناضل من أجلها بالكلمة أو بالموقف، وقادر على إرساء حل إنساني لجميع المعضلات التي خلفتها سنوات الاحتلال الطويلة على شعوب المنطقة العربية وسكانها عموماً.