15 مايو 2024
رحل بوش وبقيت العامرية
رحل، في الأول من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، الرئيس الأميركي الأسبق، جورج دبليو بوش (94 عاما)، وهو الذي بالغت دول خليجية وعربية في اعتباره "المخلص" الذي حجّمَّ من دور الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، ودمرت قواته المسلحة وقواته الجوية المتطورة كل البنى التحتية للعراق، بالإضافة إلى قتل الآف المدنيين والعسكريين العراقيين عن عمد، ثم أعاد الكويت إلى الأسرة الحاكمة هناك، ليبتهج الجميع بإخراج العراق من دائرة النفوذ والصراع في الشرق الأوسط، ثم ليستمروا في الإيغال بايذاء شعب العراق، عبر حصار مقيت وصفه الكاتب محمد حسنين هيكل في كتابه "حرب الخليج" بأن "البشرية، مذ خلق الله آدم وحتى قيام الساعة لن تشهد له مثيلاً".
رحل بوش، لكن رحيله فتح جروحا عميقة لدى العراقيين، وهي جروح ليست في ظل حكم صدام ولا حزب البعث الذي طالما تم الحديث إنهما سبب ابتلاء شعب العراق بالمواقف الإقليمية والدولية السلبية تجاه بلدهم، جروح ربما تبدو أشد وطأة؛ لأن الراحل خرج من هذه الدنيا من دون أن يُحاسب على جرائمه بحق مدنيين أبرياء عُزّل، تم قتلهم بدم بارد، ثم كان هو من أسس لعقيدة الرئيس اللاحق، نجله، جورج دبليو بوش الابن، في الإجهاز على العراق واحتلاله، ليكون مسمار الوجود الأميركي عقودا لاحقة، يضمن أمن إسرائيل أولاً، ثم الوقوف على رأس أغزر حقول النفط والغاز وأكبرها، وأكثرها اثرا في مستقبل العالم وحاضره، من خلال إبقاء هذا البد ضعيفاً مشوه السياسة والقرار الإستراتيجي والهوية الوطنية.
ما اقترفه الرئيس الأميركي الراحل بحق العراقيين كثير جداً، ولن يغيب عن ذاكرة أجيال عديدة، ما يجعلها تحمل حزمة من المشاهد والمواقف في مقدمة المشهد الراسخ في الأذهان، ففي حين أطلقت الكويت على بعض شوارعها أو محالها اسم جورج بوش، كان العراقيون، وحتى احتلال بلدهم، يضعون صورة كبيرة له على أرضية مدخل الفندق الرسمي الرئيس في العراق (فندق الرشيد)، لتكون مداساً لكل من يدخل هذا الفندق، وهم غالباً من الوفود الرسمية الأجنبية والصحافيين وعامة العراقيين.
كان سيناريو تدمير العراق وإسقاط نظام حكمه الوطني هدفاً صهيونياً، جندت له إسرائيل معظم القوى الكبرى، وخصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا، بالإضافة إلى دول عربية مهمة، ولعل كل عراقي حينها كان يعلم أن العراق سيكون، في يوم ما، في مواجهة مباشرة مع واشنطن، بعدما استنفدت (الأخيرة) كل الطرق البديلة في مواجهة هذا البلد، الداخلية والخارجية؛ لذلك كان هناك حشد شعبي شبه دائم تجاه أي طارئ، وهو من الأسباب التي جعلت من اختراق المنظومة الأمنية والحزبية في العراق أمراً بالغ الصعوبة، حتى خلال سير عمليات حرب الخليج الثانية (17 يناير/ كانون الثاني - 26 فبراير/ شباط 1991)، وهو ما مكّن القيادة العراقية آنذاك من تدارك فرق القوة العسكرية الهائل بين الجانبين.
الحديث عن جرائم القوات الأميركية التي شاركت في حرب الخليج الثانية ربما لا تكفيه سجلات عديدة، لكن الذاكرة الإنسانية العراقية والعالمية تحتفظ بأبشع جريمتين، عسكرية والأخرى مدنية، أما العسكرية فكانت أن الطائرات الحربية الأميركية قصف أرتال الجيش العراقي المنسحب من الكويت، بعد إعلان بغداد وواشنطن وقف إطلاق النار، فكانت نتيجة القصف تدمير أكثر من 1500 عربة عسكرية عراقية وقتل مئات من الجنود. ولبشاعة المشهد ومأساويته، أطلق اسم "طريق الموت" على هذا الطريق، وهو بين محافظتي الجهراء الكويتية والبصرة العراقية.
الجريمة الكبرى الثانية قصف طائرتين أميركيتيين ملجأ العامرية، بصاروخين ذكيين، تسبب بقتل 408 مواطنين عراقيين، كلهم مدنيون، وجلهم من النساء والأطفال، لم يعثر على جثث أغلبهم، فيما قال الرئيس الأميركي حينها (بوش) إن طائراته استهدفت مركز قيادة عراقيا.
يقول أحد شهود عيان الجريمة "الحادث دليل على إجرام ووحشية أميركا التي لم يسلم من إجرامها حتى الأطفال الرضع، جريمة ملجأ العامرية نقشت في ذاكرة العراقيين جرحاً لن يندمل، ووضعت دليلاً على إرهاب هذه الدولة التي تدّعي أنها تحارب الإرهاب". نعم تلك حقيقة يعرفها العراقيون، فقد قتل 408 أشخاص حرقاً بعدما تسبب الصاروخان الذكيان في اندلاع الحرائق داخل الملجأ. كما تسبب العصف الذي كان نتاج انفجار الصاروخين في إغلاق أبواب الملجأ من الداخل، ما جعل من عملية فتح الأبواب وإنقاذ الموجودين داخله عملية مستحيلة، فقضى كل من فيه حرقاً، وتفحمت جثث بعضهم، حتى لم يجد لهم رجال الدفاع المدني لاحقاً أي أثر سوى الرماد.
لم يكن استهداف ملجأ العامرية حدثاً عابراً، يمكن أن يقع في أي حرب، بل هي جريمة متعمدة نقشت في ذاكرة العراقيين، وما زال بعض من تبقوا من أهالي الضحايا يزورون قبوراً رمزية أقاموها لأبنائهم. وفي مقال نشرته "نيويورك تايمز"، في 16 فبراير/ شباط 2016، "يوم 13فبراير من العام 1991 قُتل 408 من المدنيين العراقيين بأسوأ طريقة ممكنة؛ معظمهم دفنوا أحياء، تلك الحادثة الأكثر إماتة من نوعها من حيث الخسائر المدنية في التاريخ المؤلم للولايات المتحدة في العراق، والذي مضى عليه ربع قرن. وعلى مدى أعوام، حرص صدام حسين على إبقاء ذلك الحادث محفوراً في الذاكرة الجماعية العراقية، وعلى استحضاره في الأفلام والأغاني والأشعار والمناسبات. وكان الملجأ مكاناً دائماً للتوقف، حيث على الوفود الزائرة والمراسلين الأجانب زيارته".
ومن غرائب السلوك الأميركي مع هذه الجريمة محاولة طمس معالمها ومكان حدوثها، وهو بعد احتلاله العراق أغلق المكان، ثم جعلت "الحكومة العراقية منه مقرا لوحدة عسكرية". وتضيف "نيويورك تايمز" "الآن، وبعد تجريده من هدفه السياسي، يقف الصرح ليكون كبسولة زمن حزينة، ومهملة تماماً، مثلما تركته القنابل الأميركية المضادة للتحصينات، أشبه بندبة في مشهد المدينة فاقدة المعالم (بغداد) بفعل الضربات منذ اندلاع الحرب عام 2003".
لن تنفكّ الولايات المتحدة التي اتخذت من موضوع إخراج العراق من الكويت سبباً لتدمير العراق عام 1991 عن استخدام كل الوسائل الممكنة لجعل العراق ضعيفاً بشكل دائم؛ فبعد الكويت استخدمت واشنطن الضربات الجوية بذرائع شتى، منها تنفيذ قرارات مجلس الأمن بشأن أسلحة الدمار الشامل، ثم فرض مناطق حظر جوي شمال بغداد وجنوبها، بحجة حماية الأكراد والشيعة، فاحتلال العراق عام 2003، وإنهاء حكم صدام حسين، وظنّ الناس أن هذا سيكون مفتاح الديمقراطية المثالية للعراق، لكنها أفضت إلى مزيد من الاستخدام العسكري والجوي الأميركي هناك بحجة ملاحقة فصائل المقاومة العراقية، ثم تنظيم القاعدة وأبو مصعب الزرقاوي، فتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي، وما أنتجته عملية محاربته من تنظيمات ومليشيات شيعية مسلحة.
ما اقترفه الرئيس الأميركي الراحل بحق العراقيين كثير جداً، ولن يغيب عن ذاكرة أجيال عديدة، ما يجعلها تحمل حزمة من المشاهد والمواقف في مقدمة المشهد الراسخ في الأذهان، ففي حين أطلقت الكويت على بعض شوارعها أو محالها اسم جورج بوش، كان العراقيون، وحتى احتلال بلدهم، يضعون صورة كبيرة له على أرضية مدخل الفندق الرسمي الرئيس في العراق (فندق الرشيد)، لتكون مداساً لكل من يدخل هذا الفندق، وهم غالباً من الوفود الرسمية الأجنبية والصحافيين وعامة العراقيين.
كان سيناريو تدمير العراق وإسقاط نظام حكمه الوطني هدفاً صهيونياً، جندت له إسرائيل معظم القوى الكبرى، وخصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا، بالإضافة إلى دول عربية مهمة، ولعل كل عراقي حينها كان يعلم أن العراق سيكون، في يوم ما، في مواجهة مباشرة مع واشنطن، بعدما استنفدت (الأخيرة) كل الطرق البديلة في مواجهة هذا البلد، الداخلية والخارجية؛ لذلك كان هناك حشد شعبي شبه دائم تجاه أي طارئ، وهو من الأسباب التي جعلت من اختراق المنظومة الأمنية والحزبية في العراق أمراً بالغ الصعوبة، حتى خلال سير عمليات حرب الخليج الثانية (17 يناير/ كانون الثاني - 26 فبراير/ شباط 1991)، وهو ما مكّن القيادة العراقية آنذاك من تدارك فرق القوة العسكرية الهائل بين الجانبين.
الحديث عن جرائم القوات الأميركية التي شاركت في حرب الخليج الثانية ربما لا تكفيه سجلات عديدة، لكن الذاكرة الإنسانية العراقية والعالمية تحتفظ بأبشع جريمتين، عسكرية والأخرى مدنية، أما العسكرية فكانت أن الطائرات الحربية الأميركية قصف أرتال الجيش العراقي المنسحب من الكويت، بعد إعلان بغداد وواشنطن وقف إطلاق النار، فكانت نتيجة القصف تدمير أكثر من 1500 عربة عسكرية عراقية وقتل مئات من الجنود. ولبشاعة المشهد ومأساويته، أطلق اسم "طريق الموت" على هذا الطريق، وهو بين محافظتي الجهراء الكويتية والبصرة العراقية.
الجريمة الكبرى الثانية قصف طائرتين أميركيتيين ملجأ العامرية، بصاروخين ذكيين، تسبب بقتل 408 مواطنين عراقيين، كلهم مدنيون، وجلهم من النساء والأطفال، لم يعثر على جثث أغلبهم، فيما قال الرئيس الأميركي حينها (بوش) إن طائراته استهدفت مركز قيادة عراقيا.
يقول أحد شهود عيان الجريمة "الحادث دليل على إجرام ووحشية أميركا التي لم يسلم من إجرامها حتى الأطفال الرضع، جريمة ملجأ العامرية نقشت في ذاكرة العراقيين جرحاً لن يندمل، ووضعت دليلاً على إرهاب هذه الدولة التي تدّعي أنها تحارب الإرهاب". نعم تلك حقيقة يعرفها العراقيون، فقد قتل 408 أشخاص حرقاً بعدما تسبب الصاروخان الذكيان في اندلاع الحرائق داخل الملجأ. كما تسبب العصف الذي كان نتاج انفجار الصاروخين في إغلاق أبواب الملجأ من الداخل، ما جعل من عملية فتح الأبواب وإنقاذ الموجودين داخله عملية مستحيلة، فقضى كل من فيه حرقاً، وتفحمت جثث بعضهم، حتى لم يجد لهم رجال الدفاع المدني لاحقاً أي أثر سوى الرماد.
لم يكن استهداف ملجأ العامرية حدثاً عابراً، يمكن أن يقع في أي حرب، بل هي جريمة متعمدة نقشت في ذاكرة العراقيين، وما زال بعض من تبقوا من أهالي الضحايا يزورون قبوراً رمزية أقاموها لأبنائهم. وفي مقال نشرته "نيويورك تايمز"، في 16 فبراير/ شباط 2016، "يوم 13فبراير من العام 1991 قُتل 408 من المدنيين العراقيين بأسوأ طريقة ممكنة؛ معظمهم دفنوا أحياء، تلك الحادثة الأكثر إماتة من نوعها من حيث الخسائر المدنية في التاريخ المؤلم للولايات المتحدة في العراق، والذي مضى عليه ربع قرن. وعلى مدى أعوام، حرص صدام حسين على إبقاء ذلك الحادث محفوراً في الذاكرة الجماعية العراقية، وعلى استحضاره في الأفلام والأغاني والأشعار والمناسبات. وكان الملجأ مكاناً دائماً للتوقف، حيث على الوفود الزائرة والمراسلين الأجانب زيارته".
ومن غرائب السلوك الأميركي مع هذه الجريمة محاولة طمس معالمها ومكان حدوثها، وهو بعد احتلاله العراق أغلق المكان، ثم جعلت "الحكومة العراقية منه مقرا لوحدة عسكرية". وتضيف "نيويورك تايمز" "الآن، وبعد تجريده من هدفه السياسي، يقف الصرح ليكون كبسولة زمن حزينة، ومهملة تماماً، مثلما تركته القنابل الأميركية المضادة للتحصينات، أشبه بندبة في مشهد المدينة فاقدة المعالم (بغداد) بفعل الضربات منذ اندلاع الحرب عام 2003".
لن تنفكّ الولايات المتحدة التي اتخذت من موضوع إخراج العراق من الكويت سبباً لتدمير العراق عام 1991 عن استخدام كل الوسائل الممكنة لجعل العراق ضعيفاً بشكل دائم؛ فبعد الكويت استخدمت واشنطن الضربات الجوية بذرائع شتى، منها تنفيذ قرارات مجلس الأمن بشأن أسلحة الدمار الشامل، ثم فرض مناطق حظر جوي شمال بغداد وجنوبها، بحجة حماية الأكراد والشيعة، فاحتلال العراق عام 2003، وإنهاء حكم صدام حسين، وظنّ الناس أن هذا سيكون مفتاح الديمقراطية المثالية للعراق، لكنها أفضت إلى مزيد من الاستخدام العسكري والجوي الأميركي هناك بحجة ملاحقة فصائل المقاومة العراقية، ثم تنظيم القاعدة وأبو مصعب الزرقاوي، فتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي، وما أنتجته عملية محاربته من تنظيمات ومليشيات شيعية مسلحة.